كاميرا بانورامية طائرة تلتقط صورة بقايا الخراب الذي تستمر الحرب في نشره على الأرض. شريط صوت يصنع توتر مستمر للتأقلم مع الحدث. اقتصاد كبير في الحوار للتركيز أكثر على خوف الوجوه وتشظي المشاعر. كل ذلك على ما يبدو لحساب سماع طلقات الرصاص ورؤية الموتى للتأسيس لما يمكن البناء عليه.
كل ذلك لتقديم مجموعة من العرب تتكالب فيما بينها للسيطرة على الأرض في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) داخل العراق؛ على اعتبارها الفكرة الأكثر أهمية التي سعت شبكة “نتفليكس” الأمريكيةـ لاختيارها وتقديمها كأول الأفلام الناطقة باللغة العربية على الشبكة في فيلم يحمل اسم المدينة التي تدور فيها تلك الحرب: “موصل”.
بين عام 2014 حتى عام 2017 سيطرت عناصر من تنظيم (داعش) على الأرض في العراق. وتدور أحداث الفيلم في يوم واحد من الأسابيع الأخيرة في عام 2017 الذي حدث فيه هجوم للقوات المسلحة الكردية والعراقية لتحرير مدينة الموصل من قبضة التنظيم.
يحكي عن فريق التدخل السريع “نينوي” الذي يتمرَد على أوامر القيادة المركزية وتدخل للبلدة القديمة لخوض صراع مع عصابات داعش بهدف إنقاذ عائلات أفرادها المحتجزين كسبايا ومكاسب حرب.
العرب أبطال على نتفليكس
الفلسفة تبدو المفتاح الأكثر قربًا للحديث حول فيلم “موصل” الذي يحمل للمرة الأولى في “نتفليكس” ما بعد “هوليوود”، تقديم العرب كأبطال بجانب كونهم ضحايا، أو أبطال وضحايا في الوقت ذاته. ربما يدخل الحديث فلسفيًا للحديث حول بعض الأسئلة التي تنتج عن أفكار الفيلم؛ هل يغيّر فعلًا وجود أبطال عرب أمام الكاميرا في أفكار وعقول صناع الفيلم خلفها؟ ولماذا تصبح الحرب على رأس قائمة تقديم العرب في سينما “نتفليكس”؟ وما الذي يعنيه اختيار العراق لتصوير هذا العراك واختيار مواطنيه كأبطال ليس كضحايا كما استمر تقديمهم في هوليوود لأكثر من ثلاث عقود؟ وما الذي يهم العالم من قصة كتلك؟
“كاوا” (التونسي آدم بسه) بطل الفيلم الأكثر تأثيرًا في أحداث الفيلم، مراهق صغير عراقي كردي، ضمن عناصر الشرطة في المدينة، يقاتل ضد تنظيم داعش، وقبل أن يقتله وصديقه حصار بعض عناصر داعش، تتوقف الكاميرا على وجهه الذي يستسلم للمصير للحظات، نستمع فيها إلى وابل من طلقات الرصاص التي تخرس الجميع لنفاجيء معه بدخول عناصر التدخل السريع لتنقذه، عناصر التنظيم هم وحدهم الخارجين عن رحمة داعش، غير مسموح لهم بالتوبة، من يُعرف منهم يُقتّل في الحال.
في فبراير 2017 نشرت صحيفة “ذا نيويوركر” تحقيق صحفي للوك ميجلسون حول الوضع العراقي المأزوم في وجود داعش الإرهابية، بالطبع ينتزع المقال إجمالًا التواجد الأمريكي المحرك الأكبر للأحداث ويجعله في الخلفية غير المؤثرة، وكذلك يفعل الفيلم المُستمد عنه، يغيّب أمريكا ظاهريًا على اعتبارها غير مسئولة عن أي شيء.
بينما لا يبتعد فقط عن تحمّيلها المشئولية فقط بل نسمع عنها شذرًا من أحد الجنود أثناء تعليقه على الإفراط في استخدام الضربات الجوية والمساعدات الأميركية الجوية التي يقدمها ضد الدولة الإسلامية.
على جانب آخر، اسم “نينوي” ذاته الذي تحمله الفرقة هو اسم محافظة شمال غرب العراق التي تضم مدينة الموصل، التي شكلت أساسًا ودرّبت من قبل الجيش الأمريكي في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وواجهت العديد من العناصر الإرهابية والإجرامية في المحافظة لسنوات قبل وجود داعش ككيان مكتمل وهي ضمن من صمدوا في مواجهات داعش الأولى 2014 ولم تهرب من بين أكثر من 30000 جندي عراقي وكردي.
يصف مقال ميجلسون تلك الوحدة صغيرة على أنها “تفتقر إلى الدعم اللوجستي: لم يكن هناك من يجلب لهم الطعام أو الماء أو الذخيرة أو الأسلحة الإضافية، وكذلك لم يكن لديهم مسعفون أو ضباط استخبارات أو ميكانيكيون أو مهندسون أو فنيو تفجير. لم يكن لديهم فرق هاون أو مدفعية (أو أي إتصال مع الوحدات التي لديها). لم يُصرح لأي شخص منهم بطلب الدعم الجوي… لم يكن لديهم سيارة إسعاف، مما يعني أن عليهم التضحية بمركبة قتالية لنقل المصابين، لم يكن الرجال يرتدون خوذات، وكان معظمهم يرتدون سترات واقية من الرصاص تفتقر إلى ألواح واقية من الرصاص”.
“الزمن لحظة والمكان بعيد”
هنا والآن في أواخر 2017 بقايا من داعش الإرهابية، وبقايا من فرقة التدخل السريع، يتصارعان، لا يبدو صراع بقاء، فلسفيًا يبدو انتقام للأيام الخوالي، انتقام مؤسس لمعضلة الخير والشر في العالم بين مغتصب للأرض والعرض وبين مُجبر على الحرب، على الهامش ثمة شرطة للمدينة كعناصر مكونة تقريبًا من أبناء مدينة الموصل فقط لا تُظهر دعم كامل للأكراد ولأبناء فرقة التدخل السريع، ودعم أمريكي لا يعلم عنهم شيئا.
المخرج والمؤلف الأمريكي ماثيو مايكل كارنهان والمنتجان الأخوان روسو يقفان خلف قصة ميجلسون التي تسرق تلك اللحظة فارقة، مؤسسة، سينتمنتالية، لديها الكثير من العاطفة المرهفة للإنسان المتجاوز للوجود العراقي أو العربي عمومًا.
تبدو علاقة “كاوا” البطل الكردي الذي تجنده الفرقة ليصبح أهم أفرادها مع قائد الفرقة العجوز “جاسم” أشبه بالعلاقة الصوفية بين الشيخ والمريد أو التابع كأقرب تقريب مبتسر لها، علاقة شاعرية صادقة لا يمكن تفسير أسبابها واقعيًا، من اللحظة الأولى يرى جاسم صدق حماسة كاوا، يرى الشاب إخلاص العجوز فيما يفعل، يسير معه بشعور صادق وفهم مضطرب على أمل الخلاص الروحي على الأقل.
ثمة شيئ يبدو ملخص للسياق العام للقصة السينمائية التي تؤطرها الصحافة من جوانبها الفكرية الفلسفية وصورتها الكبيرة التي صنعتها؛ الكلمة الأكثر ذكرًا على مدار الفيلم في تتابعاتها المختلفة كانت كلمة “أمان” التي يقولها أي فرد لوقف إطلاق المزيد من الرصاص، تبدو فلسفيًا هي الغائبة عن المادة البصرية الكاشفة للحطام المحيط بالجميع ولبقية الحديث المتمحور حول الموت ومن خلاله.
أثناء عبور الفرقة من مكان لآخر لمواجهة داعش وجهًا لآخر، يأمر الرائد جاسم بتوقف السيارات لمحاولة جلب طفلان صغيران يحملان جثة أبيهما، يحاول أن ينسيهما الموت والدمار ليحملهم إلى مستقبل يتمناه، يعتبر أن حمل أحد الطفلين من الخراب يبدو انتصارا كبيرا على داعش التي لا تريد سوى الموت والدمار.
أحد أبطال الفرقة يقول في مشهد آخر: “من الآن فصاعدًا ستكون جميع مهماتنا تجاه عائلاتنا، سنبدأ من خلالها”. يبدو استنتاج حالم أن يتناقل العالم “الأمان” وحفظ العائلة كدفاع ضد أزمات ينتجها التهور والجهل والوحدة القاتلة التي قد تجعل صاحبها متقبل لأي دمار يناسب خوائه، ينتصر الفيلم لأصحاب “العائلة” على حساب مجهولي داعش، ينتصر للإنسان وأكثر حقوقه واستحقاقاته: أن يحيا بأمان مع عائلة.
الغياب المسيّس لأمريكا كشيطان كبير محرك تكذّبه المدينة الكبيرة المتجاوزة لوجود داعش، تكذبه العراق كلها التي شهدت تدخل أمريكي مدمر منذ بداية الألفية. الحرب على رأس أفكار السينما الأمريكية عن العرب تبدو نموذجا مشوّقا ومفسّرا للنظرة العامة دون أدنى تواجد للنظرة المؤامراتية.
سرح خيالي لحظيًا في أن يصبح صناع الفيلم خلف الكاميرا هم العرب ليصبح الفيلم عن العرب ومنهم حقيقة ومجازًا خصوصًا في ظل وجود كوادر يمكنها فعل ذلك على ما يبدو. قصة مُلهمة لصناعة الأمان والعائلة أمام الخراب والحرب ربما ستبقى إلى الأبد تعطي وقت مستقطع من الراحة والنفس للعالم المليئ بالموت وانعدام الجدوى.