تتحرى إيران، منذ العام 1979، تشكيل نفوذها السياسي والأيدولوجي في عدد من المناطق التي تعتبرها ضمن أهدافها الجيوسياسية، مثلما هو الحال في سوريا وإيران والعراق، من خلال جملة مبادئ، من بينها “حماية المستضعفين”، والتي تنبني عليها سياستها باتجاه تهيئة قوى اجتماعية محددة، باعتبار أن الجمهورية الإسلامية، هي الممثل السياسي والاجتماعي لهم، وبنفس الدرجة، تعبئة حواضنها الاجتماعية، بواسطة خطاباتها المختلفة التي تقوم بها المراكز الثقافية والدعوية، المنتشرة في أوروبا وعدد من البلدان العربية.

 تعزيز البرامج الأيديولوجية يرفع معدلات التضخم 

وتشير إحصائيات الموازنة العامة في إيران، إلى تضخم وارتفاع مستمر في حجم النفقات التي يجري تخصيصها، لدعم الأنشطة الثقافية والدينية بالخارج؛ فقد تم تخصيص 31,1 تريليون ريال (853 مليون دولار) في الميزانية المنتهية، في (مارس) عام 2019 لنحو 12 مؤسسة ثقافية ودينية، تهدف لتعزيز البرامج الأيديولوجية للنظام الإسلامي في طهران، وذلك بزيادة تقدر بنسبة 9% عن العام الماضي.

وبحسب الدستور الإيراني، فقد نص على أن “أساس ولاية الفقيه التي طرحها الإمام الخميني هي التي رسمت الطريق الحق للمسلمين داخل البلاد وخارجها”.

ولفت دستور الجمهورية الإسلامية على أن “الثورة الإسلامية في طهران”، إنما تهدف إلى “نصرة جميع المستضعفين على المستكبرين.. وإعداد الظروف لاستمرارية هذه الثورة داخل البلاد وخارجها، خصوصاً بالنسبة لتوسيع العلاقات الدولية مع سائر الحركات الإسلامية والشعبية، حيث يسعى إلى بناء الأمة الواحدة في العالم، ومواصلة الجهاد لإنقاذ الشعوب المحرومة والمضطهدة في جميع أنحاء العالم”.

الباسيج.. ذارع إيران العسكري

عمد الإمام الخميني منذ الوصول للسلطة، عقب الإطاحة بشاه إيران، رضا بهلوي، إلى تأسيس جهاز عسكري عقائدي ومؤدلج، يضمن ولائه، ويتبنى قيم “الثورة” و”الجمهورية الإسلامية”، ويحقق مبدأ “الولي الفقيه”، وهو الأمر الذي نجم عنه، تأسيس قوات الباسيج، أو ما يعرف بـ”منظمة تعبئة المستضعفين”، باعتبارها أحد الروافد العسكرية المسلحة للنظام الجديد والناشئ.

ومثلت قوات الباسيج جيشاً موازياً، نجح في تهميش الجيش الإيراني، الذي ظل محسوباً على النظام القديم، أو بالأحرى لا يبدو حاملاً سياسياً وعقائدياً لأهداف الولي الفقيه، وهو ما صنع فجوة بين المؤسستين والجهازين الأمنيين، مازالت آثارها وتداعياتها قائمة، لا سيما في ظل التفاوت الهائل في ميزانية الطرفين، وحجم التغول والنفوذ للأولى على حساب الأخيرة.

اقرأ أيضًا: كتائب «حزب الله العراق».. هل تشعل فتيل الحرب بين إيران وأمريكا؟

في نهاية العام 1979، أعلن الخميني تدشين قوات التعبئة الشعبية، وحددها بنحو “عشرين مليون رجل”، وذلك بهدف “الدفاع عن الثورة والنظام، وأهدافهما السياسية والدينية والأيديولوجية”.

تتميز الباسيج بدرجة تسييس قصوى لأفرادها، حيث أنها تعد بمثابة جيش عقائدي، يقوم بتنفيذ عدة مهام للنظام، محلياً وخارجياً، من بينها تعقب خصومه السياسيين، وتنفيذ مصالحه الإقليمية، حيث برز من هذه العناصر: قوات الحرس الثوري الإيراني، وكتائب الحرس الثوري الإسلامية.

سبقت الباسيج قوات الحرس الثوري الإيراني في تصنيفها على قائمة الإرهاب، من قبل واشنطن، كما فرضت عليها عقوبات من وزارة الخزانة الأمريكية، ما ترتب عليها استهداف مؤسساتها الاقتصادية، وتعقب نشاطاتها المالية المختلفة، سواء من خلال المؤسسات الصناعية أو المصرفية.

تجنيد الأطفال للقتال خارج إيران

اتهمت واشنطن إيران بتجنيد أطفال ومراهقين من المناطق الريفية لطهران، وعناصر أجنبية من أفغانستان، للانخراط في الحروب الخارجية، وتحديداً سوريا.

تخضع الباسيج والحرس الثوري لإدارة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، منذ تأسيسها؛ فيتولى وحده مسؤولية اختيار وتعيين قائدها، وكذا المسؤولين التنظيميين للفيالق والألوية التابعة لها، وذلك عبر ترشيحات أو توصيات يقدمها قائد “الحرس”.

وتتكون قوات الباسيج من جناحين رئيسين: “كتائب الزهراء”، وتضم الأعضاء الإناث، و”كتائب عاشوراء” تضم الأعضاء الذكور.

ويوضح قانون “جيش الجمهورية الإسلامية” أن من بين أهدافه العسكرية “الحفاظ على نظام الجمهورية الإسلامية واستقلاله ووحدة أراضيه، والحفاظ على المصالح الوطنية للجمهورية الإسلامية خارج أراضي البلاد، في بحر قزوين والخليج الفارسي وخليج عمان والأنهار والمناجم”.

وأردف: “مساعدة الدول المسلمة أو المستضعفة غير المعارضة للإسلام من أجل الدفاع عن الأراضي المعرضة للتهديد أو احتلال القوات المتجاوزة، بناء على طلب هذه الدول”.

أهداف الولي الفقيه

ومن خلال هذا الجهاز العسكري الضخم، بتشكيلاته المعقدة والمتنوعة، فقد لعب أدواراً مؤثرة، في أحداث وسياقات سياسية وإقليمية عديدة، منذ الحرب العراقية الإيرانية، ثم مواجهة الثورة الخضراء، العام 2009، في طهران، كما أنه ساهم في صناعة وكلاء محليين لإيران بالخارج، مثل حزب الله، في لبنان، والحشد الشعبي، في العراق، فضلاً عن تشكيلات طائفية مسلحة أخرى، مثل فيلق “زينبيون” و”فاطميون” وغيرها من الألوية المدعومة من الحرس الثوري، وفيلق القدس، المنتشرة في سوريا.

إذ إنه حين استطاع أصحاب العمائم، في طهران، أن يختطفوا السلطة، وقد غلفوا ثورتهم بالمقدسات الذهبية، كانوا الأكثر صدقاً حين صرحوا أن أول اهتماماتهم هو تصدير الثورة الإيرانية، حسبما يشير الكاتب الصحفي الأردني، المقيم في بلجيكا، مالك العثامنة، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط والدراسات التحليلية.

ويضيف العثامنة في حديث لـ”مصر 360″: “هي لم تكن ثورة للتصدير، بل استراتيجية توسعية بنكهة الأيدولوجيا، معدة بمنهجية، وقد اكتسبت سلطة الفقيه الخبرة عبر السنوات، وتراكم الأخطاء ما يكفي للتوسع الاستخباري، أولاً، ثم العسكري والسياسي والاقتصادي، ثانياً”.

وكل ذلك، كان يمكن حشوه وحشده في حصان خشبي ضخم اسمه “المذهب الديني”، وإرساله إلى أي جهة في العالم العربي المتخم بالمقدسات، كما يوضح العثامنة، ويتابع: “منذ بداية ثورة “الولي الفقيه”، وتلك سياسة إيران التوسعية، إيران الغائبة والمنعزلة داخلياً التي تبدو مغالية في الباطنية المذهبية حد الإقصاء، والحاضرة خارجياً في وهم “شرطي المنطقة والإقليم” الذي يرى “أرواح الله” في طهران أنهم منذورون للمهمة بحكم الجغرافيا السياسية، بالرغم من تغير معطيات العالم كله في تركيبته الجيوسياسية الجديدة، والعابرة لخطوط الطول ودوائر العرض”.

بيد أن إيران، نجحت لعقود مضت أن تزرع وكلاءها الحصريين في المنطقة، بحسب الكاتب المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، وقد نشرتهم كموزعين للفكرة الإيرانية الثورية، وفعلاً كانت تلك نماذج ناجحة حد الفداحة في المأساة لتخريب الدول، وتمزيقها طائفياً وسياسياً و أمنياً، مما جعل طهران مهيمنة في القرار السياسي، وهذا لا يمكن إنكاره، خصوصاً وأن هيمنة إيران كانت تخدم مصالح دولية في أوقات معينة.

حلفاء إيران.. من بقى منهم؟

وبسؤاله حول إمكانية طهران في أن تستمر في أداء الدور الوظيفي ذاته، وقد تغيرت المعطيات الدولية، وبشكل جوهري، يجيب العثامنة: “الخارطة السياسية لا تعكس حلفاء لإيران، حتى الحليف الروسي بدأ يبحث عن مصالحه بعيدًا عن إيران، وأوروبا التي تحمست “للاتفاق النووي” بتوقيع أوباما واعترضت على ترمب، هي اليوم في ورطة الدفاع عن مصالحها المستجدة في عالم تغيرت كل معطياته، لا تزال الطاقة هي مفتاح الفهم، والغاز هو الأبجدية الجديدة المعتمدة، لكن شرق المتوسط بكل تناقضاته وتعقيداته الراهنة، يضع إيران بعيداً عن التحالفات الممكنة والمصلحية”.

تبدو الصلات العضوية بين وكلاء إيران في المنطقة والنظام واضحة، على أكثر من مستوى، بحسب الدكتور محمد نعناع، الباحث العراقي، المتخصص في الشأن الإيراني؛ إذ ظهر قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، أكثر من مرة، في مواقع عسكرية متقدمة بسوريا، وسط العناصر المسلحة للميلشيات التابعة له، بعد تحريرها من المعارضة المسلحة، لحساب النظام السوري، وهو الأمر ذاته، كما نجد التبعية الإيرانية المباشرة في تشكيل مثل حزب الله بلبنان، أو الحشد الشعبي بالعراق، وتبدو المقاربة واحدة في كل الحالات.

اقرأ أيضًا : ترسانة إيران العسكرية.. طموح “الملالي” يُهدد المنطقة بالاشتعال

أطواق إيران في الإقليم

تعود بدايات تأسيس حزب الله في لبنان، إلى عقدي الستينات والسبعينات، من القرن الماضي، في ظل الزخم العلمي والديني للمرجعيات الشيعية، في جنوب لبنان، ومن بينهم المرجع الشيعي حسين فضل الله، وذلك قبل أن تتحول إلى حركة سياسية وأيدولوجية، ثمانينات القرن الماضي، ومن ثم، تبنى نظرية الولي الفقيه، والالتزام بالنسخة الخمينية، التي تتناقض مع المرجعية الشيعية العربية، في جبل عامل، وكذا في النجف بالعراق.

كما جاء تأسيس الحشد الشعبي، إثر الفتوى التي أصدرها المرجع الشيعي، آية الله علي السيستاني، التي تدعو كل من يستطيع حمل السلاح إلى التطوع في القوات الأمنية، بهدف قتال مسلحي تنظيم داعش، وهو ما وصف فقهياً بـ “الجهاد الكفائي”.

وعليه يرى الباحث العراقي، أن هيمنة الولي الفقيه السياسية والميدانية، رافقتها سيطرة دينية ومذهبية، من خلال تهميش المرجعية العربية الشيعية في مقابل النسخة الإيرانية، لاعتبارات سياسية.

ويضيف لـ”مصر 360: “ترتبط كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق سياسياً وإقليمياً بإيران، وتنضوي جميعها تحت لواء الحرس الثوري الإيراني، ومثلما تقوم تلك الميلشيات بتهريب النفط العراقي، من الموانئ الخاضعة لسيطرتهم في العراق، فغنها تستخدم الممرات الحدودية في تهريب السلاح والبضائع والعناصر المسلحة، كما تواصل مهامها الأخرى، بخصوص التغيير الديموغرافي في مناطق سيطرتها، كما هو الحال بلبنان وسوريا، حيث تتغير أسماء الشوارع لتحمل دلالات طائفية غير وطنية، فتنتشر صور الخميني وقاسم سليماني، في بغداد وبيروت ودمشق، كما تحول في العاصمة السورية اسم شارع “الجيش” إلى شارع “الإمام العباس”، واتخذت شوارع أخرى أسماء الميلشيات الإيرانية، مثل شارع “فاطميون”.

اقرأ أيضًا: نفوذ طهران بالعراق.. حيل إيرانية في مواجهة خطط التقويض

مشروع الدولة الإسلامية

يتفق والرأي ذاته، ما أعلنه أمين حزب الله، حسن نصر الله، أن أعلن: “مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني”.

ومن جانبه، قال برويز فتاح، رئيس “مؤسسة المستضعفين”، التي تم تدشينها عقب الثورة الإيرانية، بتوجيه مباشر من الإمام الخميني، أن إيرادات المؤسسة تضاعفت بنسبة 34% لتصل إلى 360 تريليون ريال (حوالي 2.5 مليار دولار)، في نهاية السنة المالية المنتهية، في 20 مارس 2020.

وقبل شهور قليلة، صرح مدير المؤسسة التي تخضع إلى سيطرة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، منذ تأسيسها، بأنه بسبب العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الامريكي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، واجه فيلق القدس، عجزاً في الميزانية، ولم يعد بمقدوره دفع رواتب العناصر المسلحة من اللاجئين الأفغان في سوريا.

وقال: “كنت في مؤسسة تعاون الحرس الثوري الإيراني عندما أخبرني قاسم سليماني أنه لا يستطيع دفع مستحقات لواء فاطميون”.