لم تنجز ثورة السودان الكثير للشعب علي مستوي الحياة اليومية، كما أن الهواجس بين أطراف المعادلة السياسية مازالت قائمة، المشهد العام تكتنفه السيولة وعدم اليقين، ومن هنا جاء العيد الثاني للثورة فخرج الناس للشوارع بكثافة متوسطة وليوم واحد ولكن يبدو أن هذا التحرك الجماهيري  قد قام بوظائفه المطلوبة من ضغط ولو نسبيا لتذكير معادلة الحكم في السودان  أن  هياكل الحكم الانتقالي طبقا للوثيقة الدستورية لم تكتمل بعد، وأن الإصرار علي مدنية الدولة السودانية مازال قائما وضاغطا.

كان للمتظاهرين رسائل متعددة الاتجاهات، وكثيفة المضمون، لكل أطراف المعادلة السياسية وربما هذا ما يفسر تفاعل الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس الانتقالي، مغردًا علي “تويتر” بالتزامه والمجلس الانتقالي بالحفاظ علي الثورة ومكتسباتها.

أقسي الرسائل كانت للحزب الشيوعي السوداني الذي أحرقت راياته في ميادين التظاهر للمرة الأولي في تاريخ السودان، وهو الحزب الذي خرجت منه قيادات تاريخية مؤثرة  للسودان ويحظى بوزن كبير علي المستوي السياسي والمعنوي.

أزمات الشركاء السياسيين

وبرر الحزب حرق راياته بأن هناك عناصر محسوبة علي النظام القديم تقف وراء ذلك الفعل، متجاهلاً حقيقة أن خروجه من تحالف الحرية والتغيير قد جعل أعدائه كثر، كما لا ينبغي غض الطرف عن ممارسة  الحزب لعمليات إقصاء لقيادات عليا ووسيطة لها جماهيرية في صفوف الحزب لأسباب تنافسية، وهو ما أفقد الحزب الكثير من الدعم الواسع الذي كان يحظى به سابقا في صفوف الثورة، بينما هو يملك أعداء جاهزين من صفوف قوي الإسلام السياسي في السودان علي مختلف تنوعاتهم  وبالتالي باتت خسارته المعنوية متوقعة بينما وزنه السياسي ستحدده صناديق الانتخاب في مراحل لاحقة.

الرسالة الأهم علي المستوي السياسي مرتبطة بإصرار الثوار علي استكمال الهياكل الانتقالية المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية خصوصًا المجلس التشريعي ليكون مصدرًا وحيدًا للتشريع  حيث يسود إحساس عام أنه يتم حاليًا التلاعب بالوثيقة الدستورية عبر تكوين مجلس الشركاء الذي  مارس مهامًا تشريعية بينما أعطي فرصة التمثيل السياسي لعناصر الجبهة الثورية، وهو أمر وإن كان مطلوبا لاحتواء هؤلاء بشكل سريع إلا أنه وضع إطارًا سياسيًا لتحالف بين المكون العسكري في المجلس الانتقالي والقادمون الجدد في إطار اتفاقية جوبا للسلام.

اقرأ أيضًا: السودان.. حكاية 27 عامًا في قوائم العقوبات 

هذا المشهد رفع هواجس القوي الثورية والأحزاب السياسية السودانية، بأن يكون ذلك خللاً في المعادلة وتوازنات القوي لصالح المكون العسكري في المجلس الانتقالي واعتداء أعلي الوثيقة الدستورية  الموقعة في أغسطس ٢٠١٩ إذ أن الاستجابة لمطلب الجبهة الثورية بجعل اتفاقية جوبا تجب الوثيقة ،يؤشر لطبيعة التحالف بين الطرفين ومدي متانته .

رسالة الإسراع بتكوين المجلس التشريعي الانتقالي، لقيت استجابة من مجلس الشركاء المختلف عليه وقالت الناطقة باسمه د. مريم الصادق المهدي، إن الاجتماع الذي تم غداة المظاهرات قد اتفق علي أن تشاورًا واسعًا يجري حاليًا بين كافة المكونات علي المستوي الاتحادي والولائي لتكوين المجلس التشريعي في أقرب فرصة ، ولكن السؤال المشروع هنا هو من يسيطر علي تشكيل هذا المجلس، ولصالح أي من مكوني المجلس السيادي سوف ينتصر؟ حيث أن تكوين هذا المجلس واتجاهاته سوف يكون عنصرًا حاسمًا في طبيعة الترتيبات الخاصة بالمرحلة ما بعد الانتقالية وموازين القوي فيها.

مسألة إسقاط النظام التي طالب بها المتظاهرون السودانيون لم تلق تعاطفا من القوي السياسية التي توحدت تحت مظلة هذا الشعار علي وقت الرئيس المخلوع عمر البشير، حيث رفض هذا الشعار كل من حزب الأمة القومي وحزب المؤتمر السوداني وحزب البعث وأيضا تحالف الحرية والتغيير، مع مطالبة هؤلاء جميعا بضرورة الاستجابة لمطالب المتظاهرين الخاصة بإصلاح حال الحكومة الانتقالية .

رسائل شعبية غاضبة

ولعل الاهتمام بالكشف عن المتورطين في فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية  والذي أسفر عن وقوع ضحايا كثر من المعتصمين، وذلك في رمضان الماضي هو أحد أهم الرسائل المتواصلة من جانب القوي الثورية للمجلس الانتقالي، وأيضا إلي اللجنة المنوط بها إجراء التحقيقات المرتبطة بهذا الحدث المؤلم  خصوصًا، وأن هناك اتهامات لهذه اللجنة أنها متباطئة، ويعوزها الكثير من الشفافية، وهو ما يسبب احتقانا كبيرًا خصوصًا في الشرائح السنية تحت ٣٠ سنة من النشطاء السياسيين السودانيين المنخرطين في لجان المقاومة بالأحياء السكنية.

رسائل بسطاء الناس حملت غالبيتها النساء متوسطات العمر اللاتي خرجن للشوارع علي امتداد السودان، فهن من عليهن تدبير معاش أسرهن من خبز وغاز للطبخ، وقدرة علي وصول أبنائهن للمدارس بتكلفة توصف بالغير محتملة، وهن من ارتفعت أصواتهن للحكومة أن أحوالهن وأسرهن أصبحت فوق مستوي القدرة علي التعايش مع معدلات الأسعار الجنونية، خصوصا وأنها قد قفزت خمس مرات خلال عام واحد بتأثير تضاعف سعر الدولار إزاء الجنيه السوداني بذات النسبة.

اقرأ أيضًا: بعد الخروج من “رعاية الإرهاب”.. الآن يمكن للسودان حساب المكاسب والخسائر

المشكل الأساسي أمام الحكومة الانتقالية لتحسين الأوضاع المعيشية، يبدو مرتبطًا بأمرين الأول قدرتها علي الحصول علي قروض دولية وهو أمر تلبيته لن تكون فورية، إذ أن الحصول علي هذه القروض مرتبط حاليًا بتسوية ملف ضحايا حوادث الحادي عشر من سبتمبر وحصول السودان علي حقوقه السيادية وذلك في وقت أحوال الغالبية العظمي من الشعب السوداني علي المستوي الاقتصادي متدنية للغاية، ولا تحتمل تأخيرًا .

أما الأمر الثاني فهو مدي سيطرة وزارة المالية علي الموارد الطبيعية للدولة، حيث قال رئيس الوزراء د. عبد لله حمدوك أن عوائد الأنشطة الاقتصادية لا تقع تحت سيطر ة الحكومة بنسبة ٨٠٪ خصوصا وأن نظام المخلوع عمر البشير قد دشن تقليدا أن تكون عوائد كل من البترول والذهب خارج الموازنة العامة للدولة حتي يملك القدرة علي تمويل حماية نظامه السياسي .

وعود بالحل ومرونة من الأجهزة الأمنية

وعلي الرغم من أن رسائل الثوار قد تلقاها كل من المجلس الانتقالي والحكومة بقدر كبير من التفهم لأسبابها والوعد بالاستجابة لطلباتها، كما تم التعامل مع المتظاهرين بمرونة كبيرة من جانب الأجهزة الأمنية، لكن يبدو أن المطلب الوحيد القابل للتحقق علي المدي القصير هو تكوين المجلس التشريعي في مشهد سوف يكشف طبيعة أوزان القوي بين المكونين المدني والعسكري في ضوء طبيعة تفاعلات الإدارة الأمريكية القادمة مع السودان وخصوصا أن هناك قانون يتم صياغته حاليا في الكونجرس الأمريكي بشأن أحقية القوات المسلحة السودانية في السيطرة علي القطاع الأكبر من الاقتصاد السوداني في ضوء تسريبات بوجود تحويلات مالية للخارج بأسماء أفراد منتمون إلي نظام البشير، فضلا عما برز من حالات تهريب موارد خصوصا الذهب .

أما السياق الإيجابي للتفاعل الأمريكي فهو وضع أجندة التدفقات المالية الأمريكية في هذه المرحلة وهي المسألة التي سوف يناقشها وزير الخزانة الأمريكي في زيارته للخرطوم نهاية ديسمبر الحالي بشأن فك تجميد الأموال السودانية لدى الولايات المتحدة والتزامها بتوفير تسهيلات نقدية تفوق المليار دولار، وذلك  كبداية طبقا لما قالت به وزارة المالية السودانية.

وقالت أيضًا أن بنك الاستيراد والتصدير الأميركي التزم بتقديم ضمانات للمستثمرين الأميركيين من القطاع الخاص في السودان، والتي قد تصل إلى مليار دولار كخطوة أولي ، علي أن هذا الدعم الأمريكي لن يكون كافيا في ضوء احتياج السودان لما يفوق ال١٢ مليار دولار حتي يستطيع بالفعل إحداث تغيير في حياة الناس اليومية عندئذ قد لا يخرج متظاهرون في العيد القادم للثورة السودانية .