رغم وصفه عمل وزارة الآثار المصرية على إدارج أديرة وادي النطرون ضمن التراث العالمي بالأمر المشرف لمصر، لكن البابا تواضروس بابا الإسكندرية لم يخف مخاوفه من تلك الخطوة التي قد تمس بالحياة الرهبانية الهادئة المستقرة، ويتجلى قلقه بوضوح في سلب الإدارة الكاملة على الأديرة من الكنيسة ومنحها لوزارات تنفيذية. 

تلك المخاوف لم تكن وليدة اللحظة بل نتاج مواقف متكررة بين الرهبان والأثريين في عدد من النقاط الأثرية القبطية، لكن هذا الخلاف لا يظهر في منطقة أبو مينا.

على سبيل المثال أدرجت منطقة أبو مينا ضمن قائمة التراث العالمي. لتكون نموذجًا حيًا في التعامل بين الرهبان ومسؤولي الآثار، لكن “أبو مينا” نموذجًا مختلفًا نظرًا لبعدها عن منقطة وادي النطرون.

اقرأ أيضًا.. البابا 117 “شنودة الثالث”.. مناهض التطبيع مع إسرائيل وإقامة دولة للأقباط “2”

البابا تواضروس

الأثريون والرهبان.. أزمة زمن

صراعات الأثريين والرهبان لا تتجاوز حيز المناطق الأثرية لتصل إلى وسائل الإعلام من قبل. لكن مقال البابا تواضروس الذي حمل عنوان “الأديرة القبطية تراث غالٍ” ضمن عدد نوفمبر الماضي من مجلة الكرازة حمل عدة رسائل ذات معن واحد: “نرفض التدخل في شئون الأديرة تحت أي مسمى”.

البابا وهو المسؤول الأول عن الكنيسة القبطية وكل ما يتبعها من أديرة ومنشآت شدد على رئاسته العليا لكل الأديرة، كما أنه فوض رئيس كل دير بتدبير حياة الدير والرهبان روحيًا وإداريًا وماليًا وتنظيميًا ومعيشيًا.

كما نوه عن المادة الثالثة من الدستور المصري الذي يعطي الحق للمسيحيين في اتباع شرائعهم. وبالتالي أكد أنه ليس مقبولًا تدخل أية جهة في إدارة الأديرة تحت أي مسمى.

الرسالة وإن كانت واضحة لكن المرسل إليه مستترًا في البداية. هكذا نوه البابا إلى الفرق بين التراث الإنساني المادي والحجري والذي تشرف عليه وزارة الآثار باعتبارها آثار لا يوجد من يرعاها أو يصونها. لكن البابا اعتبر الأديرة تراثًا إنسانيًا عامرًا بسكانه من الرهبان يشرفون عليه جيلًا بعد جيل عبر 17 قرنًا من الزمان. كما حافظوا عليها وصانوها من كل ناحية. وهكذا لا يصح أن تعامل الأديرة كالأحجار والآثار الصماء.

وجّه البابا بعد ذلك رسالة تطالب وزارة الآثار بالتوجه إلى الأماكن التي لا تجد من تراعها. مستشهدًا بالقرار الجمهوري رقم 25 لسنة 2018 الذي اهتم بإدارة مواقع التراث العالمي التي لا تجد من يرعاها أو يهتم بها.

اقرأ أيضًا.. عيد القيامة فرحة مختزلة.. كورونا يكسر احتفالات الأقباط ويحول بيوتهم لكنائس

الإسقيط – مكان النسك

ومن ناحية أخرى تحدث البابا عن إدراج منطقة وادي النطرون “الإسقيط – مكان النسك” ضمن مواقع التراث العالمي، كما وصف عمل وزارة السياحة بالأمر المشرف والإضافة لبلدنا مصر. لكن أبدى مخاوفه حين قال: “ولكن نرى ألا يكون هذا الدخول على حساب الحياة الرهبانية المستقرة والهادئة”.

عاد البابا مجددًا ليؤكد نقاطه السابقة بشكل آخر حين قال: “نأمل أن تهتم وزارة الآثار والسياحة بالآثار القبطية أي الأديرة والكنائس التي لا تجد من يصونها” كما أكد “أما أديرتنا العامرة فهي محفوظة بفضل الحياة الرهبانية التي لم تنقطع يومًا فيها”.

وفي النهاية قال: “لا يجوز بعد هذه القرون الطويلة أن يتم التدخل في شئون الأديرة والرهبان”.

ذلك المقال وما به من معانٍ عكس حجم أزمة مستترة بين الآثار والكنيسة. يتضح ذلك في الفارق بين الأماكن المسجلة فعليًا وبين العدد الذي ينبغي تسجيله ضمن الآثار. على سبيل المثال سجلت وزارة الآثار 83 كنيسة وديرًا باعتبارهم آثارًا، وفقًا لتصريحات سابقة لعاطف نجيب مساعد رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية.

لكن كتاب الدليل إلى الكنائس والأديرة القديمة من الجيزة إلى أسوان يرصد 211 كنيسة ودير أثريًا ما يعكس الفارق بين الموجود فعليًا والمسجل في سجلات الآثار. كما تشير تلك الإحصائية إلى أن 39% فقط من الأماكن التراثية القبطية مسجلة آثار.

الدكتور إبراهيم ساويرس المدرس بكلية الآثار جامعة سوهاج أكد أن الجدل بين مفتشين الآثار والرهبان مازال مستمرًا. لكن ساويرس أشار إلى أنه يقابل تلك الأحداث بشكل يومي في المواقع الأثرية.

الدكتور إبراهيم ساويرس

مذبح للقداس

وعلى سبيل المثال تبرز أكبر الأزمات حين يصنع الأباء الرهبان مذبح لإقامة صلاة القداس الإلهي في منطقة معينة. بينما يعترض مفتشو الآثار على ذلك. ما يؤدي لخلاف بين الطرفين نتيجة تخرج مفتش الآثار من قسم الآثار الإسلامية. لكن في النهاية الأمر لا يعيبهم لكنه يحتاج إلى معالجة. بحسب ما قال.

وأضاف ساويرس لـ”مصر 360″ أنه من الضروري أن توفر الدولة أو الكنيسة أو كليهما برنامج تدريبي دراسي طويل الأمد يكون إجباريًا أو اختياريًا للمفتشين. كما أشار إلى أن الدراسات القبطية تجد ازدهارًا في مصر حاليًا حيث توجد معاهد تابعة للكنيسة كما يوجد معهد حكومي بالإسكندرية. كما يوجد عدد من الكوادر في الجامعات الحكومية والوزارة يمكن الاستعانة بهم في تلك الدورات.

وأكد أهمية وضع برامج للتفاهم لأنه من غير المعقول أن الأثري الذي يعمل في الدير لا يعرف شيء عن الراهب. وأوضح أن ذلك يحعل الطرفين متحفظين على أداء بعضهما البعض.

وعقب المدرس بكلية الآثار على ما وصفه البابا تواضروس بأن الأديرة تراث إنساني عامر بسكانه من الرهبان. وقال: “هناك تخصص حديث في علوم الآثار في الوقت الجاري يسمى بدراسات التراث الحديثة تهتم بدمج الإنسان والأثر  وكيفية استفادة الجميع دون الحاق الضرر بالأثر”.

اقرأ أيضًا.. 97 عامًا على ميلاد “بابا العرب” شنودة الثالث.. لمحات من حياة الأب الراعي “1”

وادي النطرون مهد الرهبنة

حرص الدولة المصرية على تسجيل أديرة وادي النطرون جاء نتيجة لاحتوائها على أقدم الأديرة في المنطقة. بينما تمثل إحدى محطات رحلة العائلة المقدسة في مصر ومزارًا لمئات الآلاف من السياح والمسيحيين. علاوة على أنها مكان دفن الأنبا بيشوي الذي تنيح “توفى” في القرن الرابع الميلادي والبابا شنودة الثالث. وفق الدكتور خالد العناني وزير السياحة والآثار.

لكن ما لم يذكره العناني ما يخص القيمة الروحية الخاصة بتلك المنطقة. كونها تحتضن أول تجمع رهباني مسيحي يعود للقرن الرابع الميلادي على يد القديس الأنبا مقار الكبير الذي أنشأ دير الأنبا مقار. كما تضم 3 أديرة أخرى -دير الأنبا بيشوي ودير البراموس ودير السريان-.

“برية شيهيت” هكذا تلقب تلك المنطقة باللغة القبطية والتي تعني “ميزان القلوب”. كما تسمى باليونانية “الإسقيط” أي مكان النسك. ويتضح من تلك المسميات قيمة تلك المنطقة التي تعد مهد الرهبنة في مصر والعالم.

أحد أديرة وادي النطرون

 على سبيل المثال تحوي المنطقة قرابة الـ700 دير في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي ما جعلها تضم مئات الآلاف من الرهبان من مصر ومن كل أنحاء العالم.

خطوات إدراج المنطقة ضمن قائمة التراث العالمي قاربت على الانتهاء بعدما استقبلت محافظة البحيرة وفد اليونسكو نوفمبر الماضي. الوفد أكد الانتهاء من تطوير البنية التحتية لوادي النطرون ورصف الطرق الداخلية واستكمال توصيل كافة المرافق الحيوية. كما تم تشجير مداخل المدينة بأشجار النخيل ورفع كفاءة الإنارة.

كل هذا قد يسهل اجراءات التسجيل نتيجة القيمة التاريخية والأثرية والروحية، كما أن دعم الدولة يزيد الملف أهمية، لكن هناك سبب خارجي قد يعيق ذلك ألا وهو منطقة “أبو مينا الأثرية”.

أبو مينا ووادي النطرون مصير واحد

يربط الدكتور إسلام عاصم أستاذ التراث بالمعهد العالي للسياحة إدراج أديرة وادي النطرون ضمن قائمة التراث العالمي بمنطقة أبو مينا في الإسكندرية. المنطقة التي تعد المكان المسيحي الوحيد في مصر الذي انضم إلى التراث العالمي.

ذلك الربط بين المكانين لم يكن نتيجة تبعيتهما لثقافة دينية واحدة فقط. بل لأن الملف الجديد الخاص بوادي النطرون مرتبط بالمشكلة التي تحاوط منطقة أبو مينا حيث المياه الجوفية. بينما تؤدي أزمة المياه إلى خروجها من قائمة التراث. كما أنه قد لا يسجل أي موقع جديد في مصر قبل حل أزمة منطقة أبو مينا.

وتعاني منطقة “أبومينا الأثرية” التي تمتد على مساحة  ألفي فدان وتبعد قرابة 45 دقيقة عن دير مارمينا من المياه الجوفية. كما بدأت وزارة الآثار مشروع لخفض منسوب المياه عام 2010 ثم توقف المشروع بسبب أحداث 25 يناير.

لكن المشروع استأنف مطلع 2020 بقيمة بلغت 20 مليون جنيه. بينما من المفترض أن يتم الانتهاء منه قريبًا. وفق ما أعلنه المهندس وعد أبو العلا رئيس قطاع المشروعات بوزارة الآثار.

عاصم أضاف لـ”مصر 360″ أن فكرة انضمام أديرة لقائمة التراث يمثل قيمة كبرى لمصر. بينما لا يمكن إغفال مخاوف البابا ومطالب الرهبان ضمن الملف المقدم.

الدكتور إسلام عصام

ويرى أستاذ التراث أن منطقة سانت كاترين ضمن التراث العالمي ولم يذكر أن هناك أي شيء أثر على الحياة الرهبانية هناك، بناء على ذلك قدم اقتراحًا للكنيسة بدراسة المنطقة.

وطالب عاصم بإعداد ملف لإدراج ديري الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر. كما لفت إلى أن الميزة في وادي النطرون أنه يضم طبيعة واحدة.

“أهم ما يهتم بها لجنة اليونسكو هم الشاغلين للمكان لذا فأن البابا تواضروس الثاني يمكنه وضع مخاوفه أمام اللجنة” هكذا وضح أستاذ التراث. كام أشار إلى ضرورة وضع خريطة للأماكن الأثرية فقط وعدم إدراج أماكن العمل الخاصة بالرهبان حتى لا يصبح هناك صعوبة إجراءات خاصة بأماكن العمل. كما أكد أنه يفضل أن تدخل تلك المنطقة لقائمة التراث العالمي وإن حدث هناك ما يخل بحياة الرهبنة حينها يمكن إخراجها مرة أخرى.

وشدد عاصم على أنه في حال دخول المنطقة لقائمة التراث لا يعد ذلك سلبًا للسيادة من الكنيسة. كما أشار إلى أن المشكلة الوحيدة التي يمكن أن تقابلها الكنيسة هي البناء أو الهدم أو الترميم.

دير سانت كاترين

اليونسكو لن يحتاج وقتا طويلا للاعتراف

ويتفق سامح الزهار الخبير الأثري الذي أكد أنه أمر محمود. لكن بشروط مهمة يجب توافرها. وأكد أن أولها عدم الإخلال بالحياة الروحية للرهبان وفهم طبيعة الحياة الدينية لتلك المنطقة.

وأضاف الزهار لـ”مصر 360″ أن الأديرة الأثرية قاسم مشترك بين الكنيسة ووزارة الآثار. لكن الكنيسة لها حرية تنظيم الدخول والخروج وغيرها من كافة الأمور الدينية. كما طالب تخصيص مشرفين آثار يتفهموا طبيعة الحياة الرهبانية.

وفد اليونسكو
وفد اليونسكو

وأوضح أن من يعمل في الجوانب الأثرية الدينية يلمس وجود بعض الخلافات بين مشرفي الدولة ومسؤولي الكنيسة. كما لفت إلى أن حل تلك الموضوع يبدأ من قاع الهرم لا من قمته. على سبيل المثال لابد من تأهيل المجموعات التي تعمل في تلك المواقع وتنظيم الرحلات لتلك المواقع.

وشدد على أن اليونسكو لن تحتاج إلى وقت طويل لضم منطقة وادي النطرون ضمن قائمة التراث العالمي. بينما لا تحتاج المنطقة لتقيم جديد بل هي مقيمة من عشرات السنوات بالفعل.