لم يتوقف مسلسل حصار الصحافة منذ أن عرفت مصر صناعة الصحف قبل نحو قرن ونصف، فالأنظمة المتعاقبة تفننت في ابتكار القيود التي تمنع الصحفيين عن ممارسة دورهم في إخبار الرأي العام بما يجري ويدور في دهاليز مؤسسات الحكم المختلفة.

عمليات الحصار والرقابة التي مارستها الحكومات المصرية على وسائل الإعلام كانت تحدث عادة خارج إطار القانون والدستور باعتبارها عملا استثنائيا لا يجوز الجهر به أو طرحه للمناقشات العلنية، بعض الأنظمة التي لا تهتم بعمليات التجميل الديمقراطي الكاذبة عملت على شرعنة هذا الاستثناء فقننت القيود الاستثنائية وحولتها إلى نصوص قانونية ملزمة.

قبل 3 سنوات تقريبا، كان الوسط الصحفي والإعلامي ينزعج عندما يتسرب خبر عن وقف طبع جريدة أو حذف محتوى من إحدى المنصات الإلكترونية بعد تدخل الرقيب الذي يمارس دور «حارس بوابة الدولة» فيقدر ما هو مسموح وما هو ممنوع، ويحدد الأجندة التحريرية لوسائل الإعلام المختلفة.

تحولت تلك الوقائع مع تكرارها إلى أمر اعتيادي، ومع الوقت ودرءا للتقريع والتعنيف قَبل الصحفيون بلعب دور «حراس البوابة» وكيلا عن الحارس الأصلي، يمارس معظمهم نوعا من أنواع الرقابة الذاتية على أنفسهم وعلى من يعمل معهم من محررين بما يتوافق مع أجندة السيد الرقيب.

«كل مُر سوف يَمُر ولو بعد حين»، هكذا كنا نعزي أنفسنا، فدوام الحال من المحال، وما تفرضه السلطة اليوم من إجراءات استثنائية تتناقض مع الدستور والقانون سينتهي يوما، لكن مهندس إعلام السلطة أراد تحويل هذا «الُمر» الذي ظنه الصحفيون عابرا إلى واقع دائم، فنقله إلى نصوص قانون تنظيم الصحافة والإعلام – رقم 180 لسنة 2018- الذي شرعن الحجب والمنع، ونقل سلطات الرقيب الاستثنائي إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ليمارس دوره في حصار الصحافة استنادا إلى قاعدة قانونية.

مواد القانون السيئ الذكر تصطدم بنصوص الدستور وبمواد الاتفاقيات الدولية المعنية بالحقوق المدنية والسياسية التي وقعت عليها مصر وبأحكام المحكمة الدستورية العليا التي أكدت أن «حرية التعبير وتفاعل الآراء التي تتولد عنها لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها». 

كفلت المادتان 4 و5 من القانون للمجلس الأعلى ولـ «الاعتبارت التي يقتضيها الأمن القومي» أن يمنع صحفا أو مواد إعلامية من التداول، بدعوى إنها «تتعرض للأديان والمذاهب أو تكدر السلم العام أو تمارس نشاطاً معادياً لمبادئ الديمقراطية أو تحرض على الإباحية… إلخ».

ومنح القانون في المادة 19 للمجلس ذات الصلاحيات على «المواقع والمدونات والحسابات الشخصية متى بلغ عدد متابعيها خمسة آلاف متابع أو أكثر، وله في سبيل ذلك أن يوقف أو يحجب الموقع أو المدونة أو الحساب المشار إليه بقرار منه».

أما المادة 12 فقد أجهزت على المهنة بالمعنى الحرفي إذ فرضت على الصحفي الذي يسعى إلى إجراء أي تغطية صحفية الحصول على تصريح قبل تأدية عمله، وهنا أصبح وجود الصحفي في محل أي حدث دون تصريح مسبق جريمة تستوجب الملاحقة والمساءلة والعقاب.

مجلس الوزراء المصري، أقر قبل أيام، مادة جديدة ستُضاف إلى قانون العقوبات، بعد موافقة مجلس النواب الجديد عليها، تضع شروطا شبه مستحيلة على التغطية الصحفية للمحاكمات الجنائية «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على مائتي ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صوّر أو سجل أو بث أو نشر أو عرض كلمات أو صورا لوقائع جلسة مخصصة لنظر دعوى جنائية أثناء انعقادها بأي وسيلة كانت، دون تصريح من رئيس جلسة المحاكمة، وبعد موافقة النيابة العامة والمتهم والمدعي بالحق المدني، أو ممثلي أي منها.. ويحكم بمصادرة الأجهزة أو غيرها مما يكون قد استخدم في الجريمة، أو ما نتج عنها، أو محوه، أو إعدامه بحسب الأحوال».

والمادة فضلا عن أنها تصطدم بالدستور الذي حظر توقيع عقوبات سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية، فأنها أيضا تهدر مبدأ علانية المحاكمات الذي يكفل للمجتمع الرقابة على أعمال القضاء والمنصوص عليها في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي وقعت عليه مصر.

تحرص الأنظمة الديمقراطية على علانية الجلسات ونقل وقائعها إلى الرأي العام، فإخبار الجمهور بما يدور في قاعات المحاكم يجسد المبدأ الديمقراطي في الرقابة الشعبية على السلطة القضائية، ويرى فقهاء القانون أن المحاكمات يجب أن تكون تحت سمع وبصر الرأي العام، وأن يسمح لمن يرغب من الأفراد في حضور المحاكمة ومتابعة ما يدور فيها، بما يخلق رأياً عاماً قادراً على بسط حمايته على العدالة ورقابته لكيفية سيرها والتزام القضاة بالحياد والنزاهة في إدارتهم للجلسات وسماعهم للمرافعات.

الدستور المصري الحالي أوجب علانية جلسات المحاكم «جلسات المحاكم علنية، إلا إذا قررت المحكمة سريتها مراعاة للنظام العام أو الآداب، وفى جميع الأحوال يكون النطق بالحكم فى جلسة علنية»، وأكدت المادة 268 من قانون الإجراءات الجنائية أنه يجب أن تكون الجلسة علنية، ويجوز للمحكمة مع ذلك مراعاة للنظام العام أو محافظة على الآداب، أن تأمر بسماع الدعوى كلها أو بعضها في جلسة سرية، أو تمنع فئات معينة من الحضور فيها. 

في عام 2018 وضمن سياسة التضييق التي تمارسها السلطة وذراعها البرلماني على حرية الصحافة والإعلام أجرى البرلمان تعديلا على قانون الإجراءت الجنائية ليضيف فقرة إلى المادة 268 تنسف قاعدة علانية الجلسات من أساسها، إذ منحت رئيس الدائرة الحق في السماح بنقل وقائع الجلسات من عدمه «لا يجوز نقل وقائع الجلسات أو بثها بأي طريقة كانت إلا بموافقة كتابية من رئيس الدائرة». 

اشتراط وجود موافقة كتابية مسبقة من رئيس الدائرة يتعارض مع مضمون الفقرة الأولى من نفس المادة والنص الدستوري الذي يوجب علانية الجلسات.

إذن، الحق في نقل جلسات المحاكم مقيد منذ أكثر من عامين بالتعديل الذي أجري على قانون الإجراءات الجنائية، ومع ذلك قررت الحكومة أن تضيف قيودا جديدة وتعاقب كل من تسول له نفسه نقل أو نشر وقائع أي جلسة بالحبس والغرامة وفق التعديل المقترح على قانون العقوبات، بدعوى «عدم التأثير على الشهود أوالقضاة أو القضايا بشكل عام، وعدم التشهير بالمتهمين، وعدم نقل أي معلومات تضر بالأمن القومي»، كما برر البعض التعديل.

قانون العقوبات بصيغته الحالية به من المواد التي تعاقب بالحبس والغرامة بالفعل كل من نقل جلسة محاكمة قرر القاضي سريتها وكل من حاول التأثير على القضاء أو الشهود أو على سير العدالة، كما حظر قانون تنظيم الصحافة والإعلام تناول كل ما تتولاه سلطات التحقيق أو المحاكمة بما يؤثر على صالح التحقيق أو المحاكمة، ويعاقب نفس القانون كل من نشر أخبار أو إحصاءات أو شائعات تضر بالأمن القومي أو تلحق ضرر بالمصلحة العامة.

لن تكون تلك الخطوة الأخيرة التي تضع فيها السلطة قيدا جديدا على حرية الصحافة والإعلام، فكلما وجد الصحفيون بابا لنقل خبر أو معلومة دون وصاية من الرقيب إلى الرأي العام، ستعمل السلطة على إغلاق هذا الباب بالقوانين سيئة السمعة المخالفة للدساتير والاتفاقيات والمعاهدات التي وقعت عليها مصر.

ترسانة القوانين المقيدة لاستقلال وسائل الإعلام، وضعت مصر في ذيل الدول الذي تحترم حرية الصحافة في معظم التقارير الدولية المعنية بقياس حال الصحافة والإعلام وحرية الرأي والتعبير، فتصنيف مصر في آخر تقرير لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، جاء في المرتبة 166 ضمن 180 دولة حول العالم شملها التقرير، يأتي هذا في وقت تحاول فيه السلطة أن تصور للعالم أنها تعمل على بناء «دولة مدنية ديمقراطية حديثة»، بحسب التكليف الذي أصدره رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي لرئيس وزرائه مصطفى مدبولي بعد عودته من فرنسا، على حد قول رئيس الوزراء نفسه.

تتعامل الأنظمة المستبدة، مع حرية الصحافة واستقلالها باعتبارها ترفا، وترى أن حق المواطن فى الحصول على المعلومة والتحليل هو حق مؤجل، وأن أى حديث عن التنوع وتداول الأفكار يؤثر على الاستقرار ويثير البلبلة ويخدم أعداء الوطن.

بالطبع لا تخشى تلك الحكومات على الأوطان أو الشعوب بقدر خشيتها على نفسها، فالمواطن الذى يعرف ويعلم يظل مصدر قلق للأنظمة المستبدة، وكلما تكشفت أمامه الحقائق ونقلت إليه الصحافة والإعلام المعلومات المحققة ووجهات النظر المختلفة، زاد خطره على الأنظمة التى تسعى إلى التأبيد فى السلطة، ومن ثم تعمل تلك الأنظمة على غلق المحبس، وتأميم حق المواطن فى صحافة حرة من المنبع، حتى يتسنى لها تسييره وتوجيهه، فتفرض القوانين التى تمكنها من البقاء بلا حسيب أو رقيب.

لن تستقر الدولة وتنطلق نحو المستقبل، في وقت تصر فيه السلطة على وضع قيود جديدة على الصحافة والإعلام، فبدون صحافة حرة تراقب أعمال سلطات الدولة الثلاث وتمارس دورها باعتبارها عين المحكومين على الحكام، سيظل الفساد والتخلف والفوضى هي الحاكمة في دولة الاستبداد.

الصحافة الحرة والانتخابات النزيهة التنافسية والفصل بين السلطات وتداول السلطة واحترام الدستور والقانون وحرية العمل المدني والأهلي، هي قواعد الدولة المدنية الديمقراطية التي كلف بها السيسي رئيس وزرائه.