ثمة منعرجات عديدة خاضتها تونس مع الإسلام السياسي، النظري والحركي. وذلك منذ ظهور الإخوان المسلمين، في سبعينيات القرن الماضي، ولاحقًا تيار السلفية الجهادية.
ورغم حالة التحديث والعلمنة التي حدثت في عهد الرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة، والتطور اللافت في المجال التشريعي والحقوقي، خاصة في ما يتصل بأوضاع المرأة، إلا أن ذلك لم يمنع وفرة العناصر التونسية الملتحقة بقاعدة الجهاد العالمي، والمنخرطة في أحداثها التاريخية، بداية من الحرب الأفغانية، مروراً بالصراع في البوسنة، ثم مرحلة احتلال العراق، وحتى ظهور تنظيم ما يعرف بـ”الدولة الإسلامية”، عقب أحداث الربيع العربي.
مسارات العنف في تونس
وبينما ساهمت الأحداث الإقليمية والعالمية في تنامي ظاهرة الجهاد المتشدد، فإن خصوصية الحالة التونسية ومفارقتها، كشفت عن الفجوة التي حدثت على خلفية عدم مرافقة التحول التشريعي والقانوني لانتقال مماثل في البنية الاجتماعية وتطورها، والتي ظلت تقليدية، ومن ثم، صمدت باعتبارها كتلة حيوية، وحاضنة للأفكار الأصولية والسلفية الدينية.
اقرأ أيضًا: بعد 9 سنوات من صعوده.. الإرهاب يضرب تونس مجددًا
التحق ما يقارب ثلاثة آلاف تونسي إلى تنظيم داعش الإرهابي، في العراق وسوريا، بينما انضم نحو ألف وخمسمائة آخرين إلى التنظيم ذاته في ليبيا. ذلك حسبما تشير التقديرات الرسمية للحكومة التونسية. وقد عاد منهم نحو ألف فقط.
حصل “مصر 360” على نسخة من إحدى الوثائق التنظيمية لشاب من مدينة سوسة الساحلية. يُدعى هذا الشاب محمد علي بن عافية -مواليد العام 1992- كنيته أبو زيد التونسي. حوت وثيقة انضمامه للتنظيم مجموعة من المعلومات، تعني بتحديد هوية الوافد الجديد على المستوى التنظيمي والعقائدي. وكذا خلفياته السياسية، وأنشطته السابقة فيما يتصل بالعمل الدعوي والجهادي.
إدارة تنظيم داعش لأفراده
وفي ما يعرف داخل التنظيم بـ”الإدارة العامة للحدود”، وضمن قسم آخر مصنف تحت مسمى “بيانات مجاهد”، تبرز مجموعة من الأسئلة التي تتعقب مسارات الشاب العشريني، لتحديد أدواره المحتملة.
التحق أبو زيد التونسي، حسبما يظهر من الوثيقة الخاصة به، بالتنظيم، في مطلع أكتوبر العام 2013، وذلك عن طريق مدينة تل أبيض، شمال سوريا، والمتاخمة للحدود مع تركيا.
وتبدو الوثيقة مسؤولة عن توفير قاعدة بيانات رئيسية عن هؤلاء المجندين في صفوف داعش، وذلك ضمن هياكلها الإدارية والتنظيمية العديدة والمعقدة التي عمدت إلى تشكيلها، وتعنى بحصر الأفراد، وتصنيفهم من نواح عدة؛ سواء العمرية، والصحية، والتعليمية، والأسرية، والمستوى الشرعي، ومستوى السمع والطاعة، وارتباطاتهم التنظيمية السابقة، والبلدان التي عبروا إليها وسبق لهم زياراتها.
اقرأ أيضًا: تونس.. 18 عامًا من مواجهة الإرهاب
يضاف إلى ذلك مصدر حصول هؤلاء الشباب إلى ما يعرف بـ”التزكية الشرعية”، التي تكون عبر أحد الشخصيات الموثوق بها لدى التنظيم.
كما تبدأ البيانات بمجموعة من الأسئلة؛ هي بالترتيب حسبما جاءت بالوثيقة: الاسم واللقب – الكنية – اسم الأم – فصيلة الدم – تاريخ الولادة والجنسية – الحالة الاجتماعية – العنوان ومحل الإقامة – التحصيل الدراسي – المستوى الشرعي. وأيضًا ما هي مهنته قبل المجيء، والبلدان التي سافر إليها وكم لبث بها، والمنفذ الذي دخل منه والواسطة.
وبالإضافة إلى ذلك يسأل: هل لديه تزكية من أحد ومن، وعن تاريخ الدخول، وهل سبق له الجهاد وأين، ومقاتل أم استشهادي أم انغماسي. فضلاً عن الاختصاص، ومكان العمل الحالي، والأمانة التي تركتها، ومستوى السمع والطاعة، والعنوان المتاح للتواصل معه، وتاريخ القتل والمكان، وملاحظات.
ما يقارب الـ(23) سؤالاً، تستهدف تشكيل صورة بانورامية حول العنصر التنظيمي الجديد والوافد، بغية التعرف على هويته، وتحديد عناصرها الأولية، بدقة، حتى يتسنى تحليلها وإعادة تركيبها وتوظيفها، بالشكل الذي يستفيد منها التنظيم أقصى استفادة، وضغط الفرد في حالة الطواعية والالتزام والانضباط.
إعادة تشكيل وتهيئة الأفراد
في حالة الشاب التونسي، الذي تظهر وثيقته أن مستواه التعليمي “متوسط”، لم يتخط المرحلة الثانوية، ومصنف باعتباره “مقاتل”، بينما مستوى السمع والطاعة “غير محدد”؛ فإن سوابقه التنظيمية منعدمة.
غير أنه حصل على “التزكية الشرعية” من “أبو محمد الشمالي”، والذي ورد اسمه في الوثيقة، ووثائق أخرى مماثلة. هذا الرجل تحفل سيرته بالعديد من المحطات المثيرة في النشاط الجهادي منذ العام 2005. وقد بدأت صلاته التنظيمية بالانضمام إلى تنظيم القاعدة في العراق، قبل أن ينشق عنهم، ويلتحق بالتنظيم الجديد “داعش”.
برز اسم أبي محمد الشمالي، أكثر من مرة، في وثائق عدة أخرى، باعتباره أحد العناصر الحيوية والمسؤولة عن تهريب ونقل العناصر الجديدة المنضمة لداعش في سوريا. خصوصًا، عن طريق غازي عنتاب في تركيا، ومنها إلى مدينة جرابلس المتاخمة للحدود السورية التركية. وهي التي ظلت تحت سيطرة التنظيم حتى العام 2016، وقت تحريرها منهم في معركة “درع الفرات”.
تركيا وداعش.. الدور والأهداف
يمكن توصيف العلاقة ببن تنظيم داعش وتركيا، بأنها “علاقة تبني براجماتي ومصالحي”. فلا يمكن الجزم بأن تنظيم داعش صنع جهة استخباراتية بعينها. لكن الأدلة والتوثيقات المختلفة تؤكد تعامل العديد من المؤسسات الاستخباراتية لدول عدة مع التنظيم. وذلك على أساس هذا الأساس ووفق ذلك المنطق، بحسب الصحفي السوري المتخصص في شؤون الإسلام السياسي، باز علي بكاري.
يوضح علي بكاري، لـ”مصر 360″: “تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية، وبقيادة الرئيس التركي الحالي، تعمد إلى إحياء مفاهيم “العثمانية الجديد” ومبادئ “الأممية الإسلامية” أو “الخلافة””. نتيجة لذلك شكلت تركيا دعمًا لوجيستيًا للتنظيم، كما وفرت ملاذات آمنة لعناصره المسلحة والعسكرية، خاصة الموجودين في سوريا، وفق بكاري. إذ إنها تملك حدودًا طويلة، تمتد لأكثر من ٨٠٠ كم. وقد وظفت التنظيم الإرهابي في تأزيم الوضع السوري، وتحقيق أدوارها الوظيفية.
وتعد مدينة تل أبيض السورية، معبرًا رئيسيًا للجهاديين. كما يتوافر فيها الدعم العسكري القادم من تركيا، بحسب الصحفي السوري.
هنا، يوضح علي بكاري لـ”مصر 360″ أنه “حتى بعد اندثار أسطورة التنظيم”، وهزيمته في آخر معاقلة بمنطقة الباغوز، العام الماضي. لم تتوان تركيا عن دعم فلول التنظيم، وإعادة تعبئة أفراده من جديد تحت مسميات عديدة. وذلك من قبيل ما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري”، الذي ينتسب له مجموعة عناصر سبق التحاقها بداعش والقاعدة. وتحمل ألويته وميلشياته توصيفات إسلامية صريحة. وكذا أسماء زعماء أتراك، مثل: “فيلق السلطان مراد” و”جيش الفتح”، بهدف التغيير الديمجرافي والاجتماعي والثقافي للمنطقة.
اقرأ أيضًا : عودة داعش : ضربات موجعة بتونس للذئاب المنفردة
تونسيون في قاعدة الجهاد العالمي
بحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة، فإن التونسيين هم الأكثر انضمامًا إلى التنظيمات الإرهابية في ليبيا وسوريا والعراق. وقد زاد عددهم عن 5500 شاب.
وأوضح الباحثون في الأمم المتحدة، في التقرير، الصادر عام 2015، أن “عدد المقاتلين الأجانب التونسيين هو الأعلى، ضمن من يسافرون للالتحاق بمناطق نزاع في الخارج، مثل سوريا والعراق”.
وبحسب المصدر ذاته، فإنه يتواجد نحو “4000 تونسي في سوريا، وما بين 1000 و1500 في ليبيا، و200 في العراق، و60 في مالي و50 في اليمن” وأن “الـ625 العائدين من العراق إلى تونس هم موضع ملاحقات من العدالة التونسية”.
ومن جانبها، أعلنت الحكومة الرسمية، منع نحو 12500 شاب، يشتبه بأنهم كانوا سيلتحقون بتنظيمات جهادية في الخارج، من مغادرة البلاد، كما وضعت 500 آخرين، عادوا إلى تونس تحت المراقبة.
وبحسب الباحثين الأممين فإن “أغلب التونسيين الذين يسافرون للانضمام إلى مجموعات متطرفة في الخارج، شبان تراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً. وبعض هؤلاء الشبان ينحدرون من أوساط اجتماعية واقتصادية فقيرة، ولكن أيضاً من الطبقة المتوسطة وطبقات عليا من المجتمع”.
مؤتمر القيروان.. الجهاديون في ساحات المساجد التونسية
لا يتبنى الصحفي التونسي، المتخصص في قضايا الإسلام السياسي، سرديات التهميش الاجتماعي والفقر، باعتبارها السبب الأصيل في تعبئة الأفراد لحساب التنظيمات الجهادية، حيث التحق بالجماعات الجهادية، أفراد من طبقات اجتماعية مترفة، وعلى درجات علمية مرموقة.
ويلفت في حديثه لـ”مصر 360″، أن الظروف التي تشكل النزعة الجهادية، والأصولية المتشددة، متفاوتة ومتحركة، لكن الثابت أو القاسم المشترك فيها، يمكن أن يندرج في حالة الشحن العقائدي، والإغراء الذي يمثله التنظيم، من خلال دعايته والترويج لأدبياته، دون أن نغفل وجود قاعدة من الجهاديين التونسيين، ينتمي بعضهم إلى أحياء شعبية فقيرة، من بينها “حي التضامن”، و”حي سيدي حسين”، في أطراف العاصمة تونس، وكذا ضواحي أخرى، في مدينة بنزرت بالشمال.
ويتابع: “التحق التونسيون بتنظيم داعش، بأعداد هائلة، وشكلوا قاعدة ذائعة الصيت، خاصة وأنهم الأكثر شراسة في تنفيذ العمليات المسلحة والتفجيرات، فانتسبت مجموعة كبيرة منهم في ما يعرف تنظيمياً بـ”الانغماسيين”، كما تولوا مسؤولية إدارات مهمة في التنظيم، لاسيما ما يعرف بـ”ديوان الجند”، كما حصدوا مناصب متقدمة”.
ويشير المصدر ذاته إلى أن الحاضنة الأولي للسلفية الجهادية، تواجدت، منذ العام 1981، الذي كرس مبادئ ومقولات إسلامية، روج لها تنظيم الإخوان، أو بالأحرى الفرع الإقليمي له في تونس، والذي أصبح لاحقاً يعمل تحت مسمى “حركة النهضة”، وعمد الإخوان في تونس إلى تشكيل بيئة معادية، ضد دولة ما بعد الاستقلال، التي أسسها الحبيب بورقيبة، ونزعته العلمانية.
وفي تونس، دشنت المجموعات السلفية الجهادية، عقب الربيع العربي، وتحديداً، في مايو العام 2012، مؤتمر القيروان، وشارك فيه نحو عشرين ألف شاب تونسي، تجمعوا في ساحة مسجد عقبة بن نافع، حيث منحت الحكومة الانتقالية، بقيادة حركة النهضة، وقتذاك، كافة التسهيلات لتنظيم المؤتمر الاستعراضي، الأمر الذي نجم عنه أكبر هجرة وتدفق العناصر الجهادية إلى بؤر ومناطق الصراع، بين ليبيا وسوريا والعراق، وذلك في ظل سيطرة التيار السلفي الجهادي على نحو أربعمائة مسجد، قبل أن تنجح الدولة في استعادتهم مع حكومة حزب نداء تونس، العام 2014.