هناك تصور يرى صلاح جاهين أحد فرعين انبثقا من نهر فؤاد حداد الشعري، يؤمن بأن عبد الرحمن الأبنودي وجاهين كلاهما ابنا مشروع قصيدة العامية الجديدة التي أسسها حداد في بداية الخمسينيات. إلا أن هذا التصور الذي دافع عنه جاهين بنبل كبير- يبدو ظالمًا للشاعرين الكبيرين، لاسيما وأنهما رفيقا حداد اللذان أسسا معه مشروعه الجديد، وإن سبقهما حداد إليه.
لم يكن صلاح جاهين، الذي تحل اليوم الخامس والعشرين من ديسمبر ذكرى ميلاده الـ 90، شاعرًا فقط. وإنما حالمًا تصارعت داخله لسنوات طويلة ألوان عديدة من الفنون، ظلت أحيانًا متجاورة، وأحيانًا أخرى طرد بعضها البعض عن صدارة اهتمامه وإنتاجه الفني. فمن الشعر إلى رسوم الكاريكاتير، ومن السيناريو إلى كتابة الأغاني. ثم مسرح العرائس، وحتى التمثيل – حلم مراهقته- الذي زاره على استحياء، بعد أن عاد إليه منتصرًا في الألوان الفنية الأخرى.
ريشة جاهين الرشيقة
دخل صلاح جاهين إلى دنيا الصحافة في منتصف الخمسينيات كسكرتير تحرير لمجلة “روز اليوسف“. إلى أن اكتشف الكاتب أحمد بهاء الدين، ما لديه من موهبة رسم الكاريكاتير، ففرد له مساحة كبيرة على صفحات المجلة. أخرج جاهين في هذه الصفحات بريشة رشيقة جل ما برأسه من رأي في قضايا عديدة. بعدها بعام شارك في تأسيس مجلة “صباح الخير”. وكانت المجلة الثانية التي امتلأت برسومات جاهين، وارتبطت بهموم الناس ومشكلاتهم.
حققت رسومات جاهين شعبية كبيرة، وأصبح القارئ مرتبطًا بإنتاج جاهين ارتباطًا كبيرًا. فقد لمس كاريكاتير الشاب ذو الـ 25 عامًا، حيات المواطن اليومية، الذي رأى فيه تجسيدًا لهمومه وأحلامه، بعبقرية وبساطة شديدتين.
شعر جاهين وفلسفته
كما أنتج جاهين في عام 1956 ديوان أول “كلمة سلام”، ثم ديوان “موال عشان القنال”، فمنتجه الشعري الأهم في الفترة ما بين أعوام 59 و62. وذلك عبر صفحات “صباح الخير”، التي حملت طياتها فلسفة جاهين الشعرية والحياتية؛ “الرباعيات”. ذلك الديوان الذي حقق عند طبعه مبيعات لم يسبق إليها ديوان شعري قبله.
هكذا كشفت الرباعيات ما يملكه جاهين من خط فلسفي وشعري متفرد، لم يكن قد ظهر بعد في أعماله السابقة.
“دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت
وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت..
وحاجات كثير بتموت في ليل الشتا..
لكن حاجات أكثر بترفض تموت
عجبي..”
الكمال الذي وجده يحيى حقي في جاهين
رأى الكاتب الكبير يحيى حقي، والذي قدم لـ “رباعيات صلاح جاهين” بدراسة قصيرة، أنه وجد الكمال الذي كان ينشده في هذا العمل. فيقول: “في البيتين الأول والثاني عرض للأوليات، والبيت الرابع دقة المطرقة – لم يتحقق أثره إلا لأن البيت الثالث [الخارج عن الروي] قد خدعنا بتأكيده أن أشياء كثيرة تموت في الشتاء. فإذا بنا نفاجأ كأننا نسقط من شاهق، أن أشياء أكثر ترفض أن تموت في الشتاء”.
هنا، يرى حقي قمة فلسفة جاهين، التي رغم رعب الشتاء الذي أغلق الأبواب على البيوت، محاصرًا شعاع الشمس ومحوله إلى خيوط عنكبوت باهتة وهشة، تباغتك تلك الفلسفة فتنتصر للحياة في وجه الموت عبر أشياء كثيرة ترفض أن تموت. أشياء أكثر من تلك التي هزمها الشتاء.
يواصل الكاتب الكبير يحي حقي انبهاره برباعيات جاهين، فيضيف: “الديوان يأخذ شكل العد الذي تنسلك فيه حبات من حجار كريمة مختلفة المياه. لكنها تنبع جميعًا من معين واحد. إياك أن تظن أنك تستطيع أن تتبين غوره. فهذا الحصى اللامع الذي تظن أنه في متناول يدك، إنما هو غارق في قاع سحيق.. الرباعية الواحدة تنبئ عن إقبال شديد على الحياة وإكبار لها. وتعلق بها، وتنبئ في الوقت ذاته عن الاستهانة بهذه الحياة واحتقارها لا تدري أهي لذة حسية أم هي لذة روحية؟ أمتفائل هو أم متشائم؟ مؤمن هو أم كافر؟”.
اقرأ أيضًا: في ذكرى فؤاد حداد…قصيدة العامية من “والد الشّعرا” إلى “نجوم السوشيال”
جاهين والسياسة وثورة يوليو
آمن صلاح جاهين بـ “ثورة يوليو” وبزعيمها جمال عبد الناصر إيمانًا مطلقًا. كان درويشها ومبشرها، فكتب لها عشرات الأغاني التي تغنت بها مصر كلها. حتى أنه حول المنشورات السياسية لـ”يوليو” إلى كلمات غنائية، لحنها كمال الطويل، والموجي، وشدا بها عبد الحليم حافظ.
يقول صلاح جاهين، في أحد لقاءاته التلفزيونية، إنه كان لا يحب الأغاني الوطنية ويعتبرها مجرد أناشيد صارخة، لكنه يرى في يوليو وانحيازها للطبقات الشعبية من العمال والفلاحين غير ذلك. وهو أمر جعله يكتب عن نضالها ومشاركتها في الحياة الجديدة التي خلقتها حركتها الثورية. وهو امر صاغه كمال الطويل في قالب موسيقي متفرد، وغناه عبد الحليم حافظ بعبقرية شديدة، كما يرى جاهين.
تماهى صلاح جاهين مع أحلام “يوليو” وآمالها. صدق ساستها ودافع عنهم، ولم ير أخطائها وجرائم قادتها كما رآها فؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهما. إلا أنه لم يكن راضيًا عن مجمل إجراءاتها، ومنها تلك التي تتعلق بتقييد حرية الرأي واعتقال المعارضين والمثقفين والمبدعين، ومنهم أصدقائه ورفاق دربه. كان يرى أن عباءة الثورة تتسع للجميع، وأن كلمات المحبين لا يمكن أن تهدم الثورة. بل إنها تدعمها وتصحح مسارها.
عبّر جاهين عن عدم الرضا هذا في قصيدته “غنوة برمهات” التي أهداها لرفيقه فؤاد حداد، في أحد المرات التي اعتقل فيها:
“حسيت بِه في ضلوعي، كأنه الحليب.. في بِز مطرودة بلا طفلها.. الدمع، لأ ده الدم، لأ ده اللهيب.. لأ ده الكلام، أحمر، ملعلع، رهيب.. كما شمس عز الصيف، يتقدح صبيب.. آه يا لهيب زعابيب بؤونة وأبيب.. أنا صدرى قلعه نحاس.. صهدت على الحراس داخوا.. ولما زاد الصهد، ساح قفلها.. ملعون فى كل كتاب يا داء السكوت.. ملعون فى كل كتاب يا داء الخرس”
رغم ذلك، لم يربط صلاح جاهين لم يربط الحراس يومًا بقادتهم من رجال يوليو. فلم يمد الفيلسوف الخط على استقامته. وصرح بأن هذه الأقفال التي أغلقت السجون على رفاقه، وهذا الخرس الذي يلعنه، فرضته سلطة الثورة وقادتها. فكما العاشق ظل جاهين هائمًا في عشقه.
جاهين والنكسة
“وقالوا طفوا النور حصل هجوم
طفينا كله بس للأسف
قلبي المضيء بالحب كالنجوم
لمع في وسط الضلمة وانكشف
هدف مباشر جات له قنبلة”
هكذا كان صلاح جاهين. أزمته هي قلبه، وقلبه العاشق هذا موضع قوته وموطن ضعفه. قلب صدّق شعارات “يوليو” وآمن بأهدافها. فلم يستجب لنداءات التحذير، ولم يتمكن من إطفاء النور عند الهجوم. لأنه نجم حالم، يلمع وسط الظلام فانكشف. كان هدفًا مباشرًا وسهل لقنابل العدوان، فسقط صريع عشقه.
بالطبع كانت النكسة بمثابة الصدمة التي زلزلت جيل يوليو كله، لاسيما مع جاهين حيث كان وقع الهزيمة عليه أشد وأقسى، وسببًا رئيسيًا لنهاية حاول التحايل عليها والهرب منها فلم يستطع.
لذلك ورغم تغنيه بانتصار أكتوبر، بدا كمن لم يصدق هذا الانتصار، فبقي باكتئابه حتى وفاته في أبريل من العام 1986.
القلب الحالم والألعاب الخطرة
في حوار أجراه معه طارق حبيب عام 1977، لبرنامج “أوتوجراف”، يقول صلاح جاهين: “الفن بصرف النظر عن رسالته وأهميته، كان بالنسبة له لعبة”.
“دي لعبة؟.. أيوة دي لعبة.. دي لعبة كل الناس.. الشاطر والمحتاس.. ونماذج على أجناس.. وجميعًا جوه اللعبة.. لا طبعًا ده غلط جدًا.. الناس مش جوه اللعبة.. دي اللعبة اللي جواهم.. زي البطيخة واللبة”
لم ير جاهين الفن وحده لعبة. بل كانت الحياة كلها كذلك؛ الفن والشعر والحب والسياسة، كلها ألعاب. لكنها ألعاب خطرة، أصابت قلبه الحالم، وأودته به.
“علي رجلي دم .. نظرت له ما احتملت
علي إيدي دم.. سألت ليه؟ لم وصلت
علي كتفي دم.. وحتى على راسي دم
أنا كلي دم .. قتلت؟… والا اتقتلت؟”