أتصفح هاتفي المحمول، لأستقبل رسالة “الحقوا في زيارة استثنائية لآخر الشهر بمناسبة حقوق الإنسان”، من إحدى صديقاتي على مجموعة واتساب التي تجمعنا للحديث حول الزيارات، والترتيبات الأسبوعية لزيارة ذوينا في سجن طرة، صديقتاي إحداهما تزور شقيقها والثانية تزور زوجها.

ذهبت للبحث عن الخبر، ووجدته منشورا في عدة مواقع إلكترونية “قررت وزارة الداخلية منح جميع السجناء زيارة استثنائية على ألا تحتسب تلك الزيارة ضمن الزيارات المقررة للنزلاء، مع تطبيق الإجراءات الوقائية والصحية وقواعد التباعد الاجتماعى بين النزلاء والزائرين، وذلك بمناسبة قرب الاحتفال باليوم العالمى لحقوق الإنسان، وحرصاً من وزارة الداخلية على تقديم كافة أوجه الدعم والرعاية لنزلاء السجون وإتاحة الفرصة للقاء ذويهم بمختلف المناسبات”.

وزارة الداخلية تقول إن الزيارات الاستثنائية تأتي في إطار حرص الوزارة على إعلاء قيم حقوق الإنسان، وتطبيق السياسة العقابية بمنهجها الحديث، وتوفير أوجه الرعاية المختلفة للنزلاء.

ألقى القبض على زوجي طبيب الأسنان وليد شوقي من عيادته في أكتوبر 2018، وبعد ما يقرب من عامين من اتهامه على ذمة القضية 621 لعام 2018، أخلى سبيله، ليعاد تدويره وحبسه على ذمة القضية 880 بتهم مماثلة.

زيارة استثنائية ..فرحة منقوصة

استقبلت خبر الزيارة الاستثنائية بفرحة منقوصة، فبعد انتشار وباء كورونا، علقت وزارة الداخلية الزيارات بداية من مارس وحتى أغسطس 2020، وعادت الزيارات بإجراءت احترازية، لتصبح مرة واحدة شهريا بعد أن كانت مرة أسبوعيا للسجين المحبوس احتياطيا، ومرتين في الشهر للسجين المحكوم عليه، وأصبحت الزيارات الأسبوعية يطلق عليها “طبلية”، ومن خلالها نستطيع إدخال المأكولات والأدوية للسجناء دون رؤيتهم.

الزيارة الاستثنائية التي أعلنت عنها وزارة الداخلية تعد زيارتي الثانية لزوجي بعد حبسه في القضية الجديدة، وهي الزيارة الثانية أيضا من وراء الحاجز، الذي يفصل بيننا بمسافة تصل لمترين.

اتفقت مع صديقتي التي ستذهب لزيارة شقيقها وتسكن بالقرب مني على الذهاب سويا كما تعودنا، تحدثنا عبر المجموعة المغلقة عن أنواع الأكل التي سنحضرها والفاكهة والخضروات، فأصبحت تلك المجموعة ملخصات لما يحدث في الزيارات الأسبوعية، ومكانا للمواساة والدعوات، وقليلا من الضحك والنكات، التي تنتهي دوما بعبارات “ربنا يفرجها على الجميع” من ثلاثتنا.

تعودت منذ عامين وشهرين على عدم النوم في الليلة السابقة للزيارة، أتظاهر بالنوم بعد الخلود في السرير، أبدأ فعليا في الدخول في النوم، فينتابني شعور “هرتوح عليا نومة”، فأنهض “مفزوعة” لأنظر في ساعة الهاتف المحمول أجدها قبل ميعاد النهوض بالكثير من الساعات، وهكذا يستمر الوضع طيلة الليل حتى السادسة صباحا عند موعد المنبه.

جهزت حقائب الطعام من الصباح، فتحت باب الشقة في السابعة صباحا، توجهت لسيارتي الخاصة، متجهة لمنزل صديقتي، أرسلت لها رسالة على الواتساب “أنا قدام البيت انزلي”، لترد “نازلة البسي كمامتك”.

طريق يصل لنصف الساعة ما بين منزلي من السيدة زينب لسجن طرة، اعتدت على رؤيته كل صباح، أمر على الكورنيس تستقبلني المطاعم على اليمين، وبعد الكنيسة المشهورة والمحكمة الدستورية، يرحب بي سور السجن، ولا أرحب به، فمشهده يشعرني بقبصة في القلب كانت وما زالت معي منذ زيارتي الأولى لهذا المكان قبل أكثر من عامين.

حديثي مع صديقتي طوال الطريق، كان عن زوجي وشقيقها، يتخلله العديد من الأسئلة الجانية “هتاكلي إيه النهاردة وهتعملي إيه بعد الزيارة”، لنعود لحديثنا الأصلي عن السجن والسجان، وكأن مغناطيس يجذبنا إليه.

اقرأ أيضا:

محمد سعد عبد الحفيظ يكتب: الحبس الاحتياطي.. ثقب مصر الأسود

“يا رب تبقى أخر مرة”

أركن السيارة عند صاحبة الكشك التي لا أعرف اسمها، ولم تسألني هي أيضا عن اسمي منذ رأيتها للمرة الأولى في 2018، تستقبلين أسبوعيا بعبارة “يا رب تبقى أخر مرة”، فابتسم لها وأخرج أكياس الزيارة من السيارة، لأجد نفس الأشخاض الذين يعرضون المساعدة علينا أسبوعيا أنا وصديقتي في حمل الأكياس، فنرفض لأن الأمر البسيط.

26 شهرا في هذا المكان، بنفس التفاصيل الأسبوعية، لا أستطيع ألفته أو التعلق به كغيره من الأماكن التي نتعلق بها بسبب ترددنا الدائم عليها، جدران السجن وبابه الأسود ما زالا يقبضان روحي، أكرهههما لأنهما يحبسان خلفه زوجي وأحلامه وأحلامنا سويا.

خطوات مملة ومكررة أسبوعيا، تبدأ بتسجيل الاسم للزيارة، ثم الانتظار عدة ساعات على المقهي المقابل لباب السجن، كونا صداقة مع صاحبة المقهي ونجلها، لكننا لم ننجخ في تكوين صداقة مع المكان، كراسي القهوة والقطط التي تمر عليها أصحابنا في تلك الزيارة، نشعر بالبرد فنطلب من “حمادة” ابن صاحبة المقهى مشروبات ساخنة، أطلب “نسكافية بلاك”، وترفض صديقتي طلب شيء لأنها تخاف من الكورونا، وتطلب مني عدم إزاحة الكمامة.

يأتي الدور فأسمع اسم زوجي، يطلب مني الضابط البطاقة، فيسألني من أنا لأن بطاقتي غير مدون بها اسم زوجي، فأخبره أنني زوجته وها هي قسيمة الزواج ليتأكد أنني من أقارب الدرجة الأولى، تبدأ المرحلة الأولى بتفتيش الطعام، وقوانين تلك المرحلة أنه لا يوجد قوانين، ممنوعات هذا الأسبوع من الطعام قد تصبح مباحة الأسبوع القادم، وكذلك الأدوية.

جوزك جاي في إيه ومقبوض عليه من امتى؟

أعبر من الباب، لمكان جديد من الانتظار، أصبحت أتجاهل الحوار مع الأشخاص، فإجابة سؤال “جوزك جاي في إيه ومقبوض عليه من امتى؟” أصبحث ثقيلة على قلبي، لا أقدر على الحكي مجددا، فقدت تلك الحماسة التي كنت أتخلى بها منذ بداية القبض على زوجي، وكذلك صديقتي.

يعاد ترديد اسم زوجي من جديد، فأمر من نفق يطلق عليه “أنبوبة”، تفتشني سيدة للتأكد من أن هاتفي المحمول لا يوجد معي، ولا توجد معي أي ممنوعات آخرى، وأذهب لسيدة أخرى في غرفة صغيرة تكرر ما فعلته الأولى، لأصل للمرحلة الأخيرة التي أرى بها زوجي، وحينها يحل آذان الظهر.

من وراء السلك

حجرة كبيرة يقسمها لنصفين حاجز من السلك، أدخل الحجرة لأرى زوجي من وراء السلك، لا يمنحنا السلك لمس أطراف أيدينا لأن بيني وبينه ما يقرب من مترين وفقا للإجراءت الاحترازية. يقف بجانبه واحد من العاملين بالسجن، وبجانبي أيضا واحدة من النساء التي تفتش السيدات قبل دخول الزيارة.

يحمل الشخص الواقف بجواز زوجي ورقة وقلم، ربما يدون حديثنا، لا أعلم لماذا، ينظر لي زوجي ويقول “وحشتيني أوي”، فأردد نفس الجملة، ليبدأ الحديث عن نور ابنتنا التي يطلب رؤيتها وأتحجج بأنها مريضة، حتى لا تراه من وراء الحاجز، فيسألني عن ووالدته وصحتها وأحوال أسرتي وأصدقائه بالخارج، أنسى كل ما رتبته من كلام للحديث معه قبل الزيارة، لأجد وقت الزيارة المقرر 20 دقيقة قد انتهي وهو يوصيني بالاعتناء بنور، وإحضارها في المرة القادمة.

أخرج من الزيارة، لاستلام بطاقتي ثم الخروج من الباب الصغير الأسود الذي دخلت منه، تهدأ الضوضاء التي كانت تملأ المكان أمام السجن، فبائعو الفاكهة رحلوا، وأنفض الأشخاص من على المقهي المقابل للسجن بعد انتهاء الزيارة، فاتوجه للسيارة مع صديقتي، نريد الخلاص من هذا المكان، نتمني أن تكون المرة الأخيرة، نركب السيارة ونتذكر أن الحالة النفسية ربما تضعف المناعة وتزيد الإصابة بفيروس كورونا، فنقرر الاستماع للأغاني في الكاسيت، ونتظاهر بأن شيئا لم يكن.. فقط نتظاهر.