عودة الدين أم التديّن البدائي؟

كيف تتحدد علاقتنا اليوم بديننا الإسلامي الحنيف؟ 

هل يتعلق الأمر بصحوة مباركة كما يتغنى بعض الخطباء أم مجرد هوس وتنطع ونفاق كما يوحي واقع الحال؟ هل يعود الناس إلى دينهم كما تردد بعض المنابر أم يبتعد الشباب عن الدين كما تردد منابر أخرى؟ هل لدينا من الأخلاق ما يكفي لتصديره إلى العالم المعاصر كما يزعم بعض الواعظين، أم أننا نواري انحطاطنا الأخلاقي خلف أقنعة التستر والتقية والكتمان كما يبدو في معظم الأحيان؟ 

المفارقة أن الذين يتغنون بما يعتبرونه صحوة مباركة وعودة للدين بالنظر إلى امتلاء المساجد، وانتشار الحجاب، وتكاثر القنوات الدينية، هم أنفسهم من يتباكون على ضياع الفضيلة والأخلاق بالنظر إلى حجم الغش والرشوة والتحرش والإدمان والعنف وما إلى ذلك ! 

هل هي مفارقة في الواقع العيني أم أنها مفارقة في إدراك الواقع؟

هناك استنتاج مبدئي: الإفراط في الشيء تفريط فيه. وهو ما يعني أن الإفراط في مظاهر التديّن قد لا يكون سوى تفريط في جوهر الخبرة الدينية نفسها. بهذا المعنى تبدو المعادلة صحيحة:

الذي يحدث في مستوى الجوهر ليس عودة الدين إلى الناس، ولا عودة الناس إلى الدين، بل هو مآل آخر بالغ الضرر على الدين والدنيا معا، يتعلق الأمر بعودة العقل السحري البدائي تحت غطاء الدين هذه المرة. الأمر الذي يمثل خطرا كبيرا على مصائر الإسلام، ومآلات المسلمين في القرن الواحد والعشرين. غير أن هذا التحذير يحتاج إلى مزيد من التفسير.

أعراض النكوص إلى العقلية البدائية بادية للعيان. مثلا، إن ما يسمى بالرقية الشرعية، والطب النبوي، وصرع الجن، والعلاج بالقرآن، واستعمال المعوذتين لتحقيق النجاح أو درء الفشل، ومحاولات التأثير على الواقع عن طريق الأدعية والصلوات وتقديم القرابين، سواء في مجال العلاقات الدولية أم في مجال كرة القدم، ذلك كله وغيره لا يحيل إلى عودة الدين، أو العودة إليه، بقدر ما يحيل إلى الاستعمال السحري للدين، استجابة لدوافع كامنة في اللاوعي الجمعي البشري، والتي تنفجر بين الفينة والأخرى لا سيما داخل المجتمعات المغلقة.

يتعلق الأمر بمظاهر نكوص جماعي نحو العقلية البدائية بمختلف مخاوفها وخرافاتها، والتي تتجلى أيضا من خلال طريقة التعاطي مع الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية. وهو ما يساهم في إجهاض ممكنات الفكر العلمي في العالم الإسلامي. 

اقرأ أيضا:

“التدين الشعبي”.. المتشددون يفسدون سماحة المصريين

      من يملك الجنة؟

 

ليس في هذا الاستنتاج أي وجه من وجوه المبالغة، بل ذلك ما تؤكده ردود الفعل الحاقدة والشامتة كلما ضربت كارثة طبيعية إحدى المجتمعات غير المسلمة في مشارق الأرض أو مغاربها، وكلما أصاب الموت أو المرض أحد الحكام، لا سيما في الدول الغربية. والحال أننا أصبحنا بلا مزية ولا إنجاز غير الفرح بمصائب الآخرين، والبحث عما نتشفى به ونشفي غليلها، ثم نحسب ذلك إنجازا للذات ونصرا للدين، فيا للعار ! فهل هناك من انحطاط غريزي أحط من هكذا موقف؟!

بصدد أسلوب التعاطي مع مصائب الآخرين، يتعلق الأمر إجمالا بثلاث خرافات بدائية اخترقت نمط التديّن لدى شعوبنا، وذلك بإيعاز من قيم الموروث الفقهي، وإيديولوجية الإسلام السياسي، وسأبسطها على النحو التالي:

الخرافة الأولى، تُعبر مختلف الظواهر الطبيعة عن الحالة الانفعالية للآلهة أو الله- فعندما يغضب الله أو يسخط يسلط علينا الأعاصير والزوابع والزلازل والأوبئة والجائحات وغيرها من الكوارث، وما أن يرضى عنّا حتى تعود الطبيعة إلى هدوئها وسكينتها. الرؤية نفسها ظهرت خلال بداية كورونا حين ضربت الجائحة إقليم ووهان بالصين فاعتقد الكثيرون بأن الله سلط عقابه على الصينين جزاء ما فعلوه بالروهنغا، أو بسبب سنوات الشيوعية، أو أكل “اللحم غير الحلال”، أو لأي سبب آخر قد لا يعرفه إلا الله، إلى درجة أن عشرات الشيوخ وأتباعهم اعتبروا فايروس كوفيد 19 جندا من جنود الله ( !).

الخرافة الثانية، يجوز لله أن يعاقب ملايين الأهالي الآمنين بسبب أفعال بضع عشرات منهم، بل يحق له أن يأخذ الجميع بجريرة البعض، فيما يسمى بالعقاب الجماعي والذي كانت تجيزه الأنظمة اللاهوتية والسياسية القديمة. لأجل ذلك لم يكن الرجم والجلد والقطع والصلب وغيرها مجرد عقوبات تبتغي العدالة والإنصاف، بل كانت نوعا من التطهير الجماعي لدرء غضب السماء على الجميع، لذلك جرت العادة أن يشارك العوام في تلك العقوبات ولو بالمشاهدة والمباركة. ذلك هو النكوص الغريزي الذي حدث على مرأى العالم في السنوات الأخيرة داخل المناطق التي سيطرت عليها التنظيمات المتطرفة في مناطق الشام والعراق، ومنطقة الصحراء الكبرى.

الخرافة الثالثة، بإمكان بعض المجموعات أن تساهم في تأجيج غضب الله على جماعات أخرى، عن طريق بعض الطقوس والشعائر، من قبيل القيام بالصلوات، تقديم القرابين، ترديد الترانيم، وأدعية الويل والتبور وعظائم الأمور، وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالاستعمال السحري للدين، وتمثل بعض أوجه النكوص الجماعي باسم الدين إلى أنماط التديّن البدائي.

غير أن حجم الهلع الذي يغمر نفوس الشامتين أنفسهم حين تطالهم بعض الكوارث أو الجائحات، يقدم نموذجا إضافيا للنكوص إلى مرحلة الخوف البدائي من الظواهر الطبيعية، مرحلة إنسان المغاور والكهوف. 

حين يتعلق الأمر بالغرائز ليس هناك من قعر أخير للسقوط. لذلك فإن السقوط الغريزي هو الخطر الأكبر الذي تجب مقاومته على الدوام، وبكل الوسائل الثقافية والفنية الممكنة، سواء بالنسبة للأفراد، المجتمعات، أم النوع البشري كافة.