فبينما يسعى رئيس الوزراء العراقي إلى تنويع مصادر علاقاته الاستراتيجية -التي ظلت لعقود مرتهنة بصالح طهران- تشعر المجموعات الولائية في بغداد بتهديدات وجودية وسياسية يتعرض لها نفوذها المحلي. خاصة مع التعبئة الشعبية الموجودة ضدها، والاحتجاجات القائمة ضد تغولها السياسي والميداني، لذا، لا تعدو التهديدات الأخيرة ضد الكاظمي، حدثًا استثنائيًا في المعادلة العراقية. لكن ثمة سوابق عديدة لهذه الحالة المنفلتة بين رئيس الوزراء الحالي وعناصر وقيادات تلك الميلشيات المتفاوتة الخلفيات والسياقات.
بيد أن الثابت في كل هذه الحالات، هو اتساع درجة العداء بين الطرفين، على خلفية الممارسات العدوانية المتكررة ضد المدنيين من جانب العناصر الميلشياوية. وبخاصة في فترة الاحتجاجات، التي شهدت اختطاف ناشطين بالحراك الشعبي وكذا اغتيال آخرين.
عودة إلى الناصرية
في النصف الثاني من سبتمبر الماضي، أصدر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تعليمات إلى قوات مكافحة الإرهاب في مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار جنوبي العراق)، بملاحقة خاطفي الناشط سجاد العراقي. وهو أحد الرموز الشبابية للاحتجاجات الشعبية ضد الميلشيات المسلحة. وكان قد اختفى مساء 20 سبتمبر بعدما هاجمته مجموعة قوامها 7 أشخاص مدججين بالأسلحة والكواتم.
نفذت القوات الأمنية الخاصة عملية مداهمة واسعة في المدينة، مدعومة بمروحيات عسكرية، لمدة يومين. حيث كثفت عمليات البحث عن “سجاد” داخل مجموعة من المنازل المشتبه باستخدامها كسجون سرية للمنظمات التابعة للحشد الشعبي. وكانت من بينها منازل “منظمة بدر”، وميليشيا “عصائب أهل الحق”، التي انتقد قائدها قيس الخزعلي هذه الإجراءات بشدة.
حينها، غرد القيادي في “عصائب أهل الحق” جواد الطليباوي، عبر حسابه في “تويتر”. فقال: “لولا تضحيات عشائر ذي قار لما تحقق النصر، ولما كانت هناك هيبة للدولة”. وموجهًا انتقاده بشكل مباشر إلى رئيس الوزراء، قال: “من المعيب استعراض الكاظمي بجهاز مكافحة الإرهاب على أبناء عشائرنا بذريعة وجود شخص مخطوف”.
وكانت الناصرية مركزًا رئيسيًا للحركة الاحتجاجية المناهضة للحكومة، التي انطلقت في أكتوبر 2019. وتعتبر أن السلطات فاسدة وغير كفؤة ومرتهنة لإيران. وقد قضى نحو 600 شخص في العراق في أعمال عنف على صلة بالاحتجاجات، من دون محاسبة فعلية للمسؤولين ومن بينهم قيادات بالميليشيات الشيعية المدعومة من إيران.
وعليه، فإن التهديدات الأخيرة التي صدرت من الميلشيا ذاتها ضد رئيس الوزراء العراقي، تماثل سابقتها، وتعكس التوتر والخلاف المحتدم بينهما، غير أنها جاءت في أعقاب اعتقال القيادي التنظيمي، حسام الأزيرجاوي، على خلفية اتهام الأخير بتنفيذ عملية إطلاق صواريخ “كاتيوشا” على المنطقة الخضراء، شرق بغداد، والتي يتواجد فيها مقر الحكومة العراقية، والسفارة الأمريكية، بالإضافة إلى العديد من البعثات الدولية.
ما المختلف في التهديدات الأخيرة؟
ويتزامن استهداف المنطقة التي تتواجد فيها المصالح الأمريكية والغربية، مع اقتراب الذكرى الأولى، لعملية اغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، والقيادي بالحشد الشعبي، أبي مهدي المهندس، في مطار بغداد، التي حدثت، مطلع العام الحالي، بواسطة غارة جوية أمريكية. إذ إن قيادات الميلشيات المدعومة من طهران، ومن بينها كتائب حزب الله بالعراق، اتهمت الكاظمي، بصورة مباشرة، بأنه قدم تسهيلات للولايات المتحدة بغرض تنفيذ عملية اغتيال سليماني والمهندس، عندما كان مديراً للمخابرات العامة العراقية، قبل توليه رئاسة الحكومة، في مايو الماضي؛ وهي الاتهامات التي وصفتها المخابرات العراقية بـ”الباطلة”، واعتبرتها تمثل “تهديداً صريحاً للسلم الأهلي، وتسيء للكاظمي، وتؤذي سمعة الأجهزة الأمنية”.
مهلة اليومين والرد الحكومي
المسؤول الأمني ذاته في حزب الله العراقي، غرد في حملة الهجوم والتهديدات الأخيرة بـ “أن المنطقة اليوم تغلي على صفيح ساخن، وإن احتمال نشوب حرب شاملة قائم، وهو ما يستدعي ضبط النفس لتضييع الفرصة على العدو، بأن لا نكون الطرف البادئ لها”. وتابع: “لعل عمليات القصف في الأيام الماضية لا تصب إلا في مصلحة عدونا (الرئيس الأمريكي دونالد). ترامب الأحمق وهذا ما يجب أن لا يتكرر”.
وأردف: “إن تحالفنا مع الإخوة في فصائل المقاومة سواء المحلية منها أو الخارجية تحالف متين، ونحن ملتزمون بالدفاع عنهم ضمن الأطر المحددة والمقررة بيننا”.
ومنحت الميليشيات الحكومة العراقية مهلة، لا تتجاوز اليومين، حتى يتم الإفراج عن المتهم الذي جرى توقيفه، قبل أيام. بينما أكد الكاظمي -من جانبه- على أن “أمن العراق أمانة في أعناقنا، ولن نخضع لمغامرات أو اجتهادات”. وأضاف في تغريدة على “تويتر” بعد تهديدات العصائب: “عملنا بصمت وهدوء على إعادة ثقة الشعب والأجهزة الأمنية والجيش بالدولة بعد أن اهتزت بفعل مغامرات الخارجين على القانون”.
وأكد على أنه “طالب بالتهدئة لمنع زج بلادنا في مغامرة عبثية أخرى، ولكننا مستعدون للمواجهة الحاسمة، إذا اقتضى الأمر”. كما رد الناطق بلسان القائد العام للقوات المسلحة العراقية، على تهديدات الميليشيات، بأن “هناك مليون و800 ألف عنصر عسكري يأتمرون بأوامر مباشرة من الكاظمي في فرض الأمن وملاحقة العناصر الخارجة عن القانون”.
الوضع الحالي أحد تجليات سقوط بغداد
لا يرجح الباحث العراقي، عبد القادر الجنابي، أن يشهد العراق انفراجة سياسية، في ظل أعبائه الاقتصادية، وتحديات إقليمية عديدة؛ حيث تكررت حوادث العنف، كما تتعمد الميلشيات أن تتحدى الحكومة، بواسطة قوتها الأمنية وألويتها الأمنية، وذلك من خلال الاستعراض العسكري، كما حدث قبل أيام، وفي أقاوت أخرى سابقة، أمام مقر الحكومة، في المنطقة الخضراء، بهدف الضغط للافراج عن المعتقلين.
ويضيف الجنابي لـمصر 360″: “يمثل الوضع السياسي، في العراق، أحد تجليات واقع اللحظة التي تلت سقوط بغداد، عام 2003، واحتلالها من قبل القوات الأنجلو الامريكية، فقد تعرضت الدولة إلى جملة تغييرات عنيفة، بنفس درجة التحول التي رافقت المنطقة، من الناحية الجيوسياسية، حيث جرى تقويض المؤسسات الوطنية، وتفكيكها، بفعل الحسابات السياسية والطائفية التوافقية الجديدة، والتي نجم عنها تقنين هيئة ميلشياوية مثل الحشد الشعبي، ضمن المؤسسة العسكرية الأمنية الرسمية، على الرغم من التبعية والولاء الخارجي لها، على المستويين السياسي والعقائدي”.
وإلى ذلك، دان الناطق باسم الجيش العراقي، يحيى رسول، استهداف المنطقة الخضراء، في العاصمة العراقية، بغداد، بقصف صاروخي، ما ترتب عليه أضرار جمة في عدد من الأبنية السكنية، والسيارات، مضيفاً: “مثل هذه الأعمال الإجرامية، تستهدف المواطن وأمنه وتسعى إلى الانتقاص من هيبة الدولة وزعزعة الاستقرار”.
وشددت خلية الإعلام الأمني، التابعة للجيش العراقي، على أن “مجموعة خارجة عن القانون تقدم على إطلاق عدد من الصواريخ باتجاه المنطقة الخضراء”. وأوضحت في بيان رسمي: “تبين أن منطقة الانطلاق (للصواريخ) كانت من معسكر الرشيد، وسقطت داخل المجمع السكني على عدد من عمارات القادسية السكنية، حيث نتج عن ذلك حدوث أضرار مادية في هذه البنايات وعدد من العجلات المدنية دون خسائر بشرية”.
من جانبها، قالت السفارة الأمريكية في بغداد، في بيان، إن هناك أضرارا مادية بسيطة جراء الهجوم، مؤكدة عدم سقوط ضحايا في الهجوم. ونددت السفارة الأمريكية بالهجمات الصاروخية، داعية الحكومة العراقية والسياسيين إلى اتخاذ خطوات لمنع الهجمات ومحاسبة مرتكبيها. ترجع بدايات تأسيس الحشد الشعبي، من خلال الفتوى التي أصدرها المرجع الشيعي، آية الله علي السيستاني، عندما طالب بضرورة التصدي لعناصر تنظيم داعش الإرهابي، وأصدر ما يعرف بـ “الجهاد الكفائي”، بيد أنه في العام 2016، تم تمرير قانون في البرلمان العراقي، نجح في تحويل الحشد من فصيل عسكري غير نظامي، إلى مكون سياسي وعسكري رسمي.
وسبق لمنظمة العفو الدولية، أن طالبت “الدول التي تزود العراق بالأسلحة، بوضع ضوابط صارمة لمنع وصول الأسلحة لميليشيات الحشد الشعبي، بهدف تفادي وقوع جرائم حرب في حق المدنيين”.
ووصفت المنظمة في تقريرها تلك الميليشيات بأنها “ارتكبت جرائم قتل وعذبت واختطفت آلاف الرجال والصبيان”. وقالت المنظمة الدولية المعنية بحقوق الإنسان، إن قوات الحشد، قامت بعمليات إعدام خارج نطاق القضاء، وتعذيب واختطاف آلاف الرجال والفتيان، دونما خشية من أي عقاب، بينما كشف التقرير الصادر عن المنظمة، أن الحشد الشعبي يمتلك أسلحة مصنعة، في 16 بلداً، على الأقل، وتتراوح بين “أسلحة صغيرة وأخرى خفيفة، إضافة إلى صواريخ، وأنظمة مدفعية، ومركبات مصفّحة، صينية وأوروبية وعراقية وإيرانية وروسية وأمريكية”.