نسخة أخلاقية-أبوية أكثر محافظة وتضييقًا، سعت مؤسسات الدولة لفرضها خلال العام 2020، مدعومة بمباركة اجتماعية، واستنادات تشريعية، عبر نصوص قانونية يصفها حقوقيون بأنها غير محددة ومطاطة، وتفتح باب التأويلات لتهم “التعدي على المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري”.

“قيم الأسرة”.. استهداف لمستخدمي التطبيقات

تلك “النسخة الأخلاقية” كان آخر ضحاياها مستخدمو تطبيقات الإنترنت، وخاصة الفتيات على تطبيقي “تيك توك” و”لايكي”. حيث تعرض بعضهن لملاحقات أمنية من إدارة مكافحة جرائم الحاسبات وشبكات المعلومات ومباحث الآداب. وجهت النيابة إليهن تهمًا، مثل: “الاعتداء على قيم ومبادئ الأسرة المصرية والمجتمع – استدراج الفتيات واستغلالهن عبر البث المباشر – ارتكاب جريمة الاتجار بالبشر”. وصدرت ضدهن أحكامًا وصلت للحبس ثلاث سنوات.

ترى مؤسسة حرية الفكر والتعبير، في تقريرها عن حالة التعبير في مصر، خلال الربع الثالث من العام 2020، تحت عنوان “قيم الأسرة المصرية تحاصر حرية التعبير” أن “السلطات المصرية لا تزال تقيد حرية الإنترنت”. حيث تسعى إلى السيطرة على تدفق المعلومات المتعلقة بالانتهاكات والسياسات العامة المجحفة لحقوق المواطنين.

لكن المحتوى السياسي على الإنترنت، بحسب التقرير، لم يكن مصدر الإزعاج الوحيد للسلطات المصرية. حيث شنت خلال الربع الثالث من عام 2020 حملة أمنية استهدفت عددًا من مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الإنترنت. ومنها تطبيق “تيك توك”. وذلك تحت دعاوى حماية الأخلاق والمبادئ والقيم المجتمعية”.

حنين حسام ومودة الأدهم في ميزان “قيم الأسرة”

التقرير رصد عدد من الحالات على رأسها قضية الطالبة حنين حسام، وهي القضية التي تكشف نتائج البحث  الأكثر رواجًا في مصر، والتي أعلنتها شركة “جوجل” كجزء من تقريرها لعام 2020، ما استحوذت عليه من اهتمام الرأي العام في مصر، حيث جاءت حنين حسام، كأولى الشخصيات التي بحث عنها المصريون على “جوجل“.

في الـ 27 من يوليو 2020، قضت المحكمة الاقتصادية بحبس حنين حسام ومودة الأدهم سنتين وغرامة 300 ألف جنيه لكل منهما. وذلك بعد إدانتهما بالاعتداء على قيم ومبادئ الأسرة المصرية والمجتمع. وكذلك وارتكاب جريمة الاتجار بالبشر، ونشر فيديوهات تحرض على الفسق والفجور.

كانت قوات الشرطة المصرية ألقت القبض على الطالبة بجامعة القاهرة حنين حسام، في أبريل الماضي، على خلفية نشرها فيديو تدعو من خلاله إلى استخدام تطبيق “لايكي” بمقابل مالي. حيث وجهت النيابة العامة لها اتهامات بالاعتداء على المبادئ والقيم الأسرية في المجتمع المصري. وأيضًا الاتجار بالبشر واستخدام فتيات في أعمال منافية لمبادئ وقيم المجتمع للحصول على مكاسب مادية. إلى جانب استغلال حالة الضعف الاقتصادي وحاجة الفتيات للمال. وهي نفس التهم تقريبًا التي وجهت لـ”مودة الأدهم”.

الحبس والغرامة

ما حدث مع حنين حسام ومودة الأدهم، وقع لغيرهما من مستخدمات التطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي. ففي يوليو الماضي ألقت مباحث الآداب القبض على “بسنت محمد – 20 سنة”، من مقهى جانب منزلها بمنطقة الرمل في محافظة الإسكندرية. واتهمت بنشر فيديوهات خادشة للحياء ومنافية للآداب عبر تطبيق “تيك توك”.

تم عرض “بسنت” على نيابة الشؤون المالية والإدارية بالإسكندرية، والتي أخلت سبيلها بضمان محل الإقامة على ذمة التحريات.

أيضًا ألقت مباحث الآداب بالقليوبية القبض على منار سامي، بعد تقدم محام يدعى أشرف فرحات، ببلاغ يتهمها فيه ببث فيديوهات قصيرة وصور على “إنستجرام” و”تيك توك”، تحوي: “إيحاءات جنسية لإثارة الغرائز بقصد جذب المشاهدين، وجمع المال ضاربة بالعادات والتقاليد للمجتمع عرض الحائط”.

وبعد أقل من شهر من القبض عليها، وفي التاسع والعشرين من يوليو، قضت المحكمة الاقتصادية في طنطا، بحبسها 3 سنوات مع الشغل. وكذا تغريمها 20 ألف جنيه لإيقاف التنفيذ، إلى جانب غرامة 300 ألف جنيه. ليتم تأييد الحكم في  19 سبتمبر من محكمة استئناف جنح طنطا الاقتصادية.

منة عبد العزيز.. اللوم على الضحية

هناك مستخدمات أخريات لتطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، ألقي القبض عليهن، بنفس التهم، منهن من صدرت أحكام ضدهن أيضًا، لكن الواقعة الأكثر مأساوية كانت، اتهام النيابة العامة لـ “منة عبد العزيز”  بـ”التحريض على الفسق والفجور”، وحبسها على ذمة التحقيقات، على الرغم من ظهورها في فيديو تدعي فيه تعرضها لجريمة اغتصاب مصورة، وابتزازها بنشر الفيديو، ورغم ثبوت الواقعة أمرت النيابة بحبسها، لتحولها من ضحية إلى متهمة. قبل أن تصدر النيابة العامة بيانًا في التاسع من يونيو لم يخلو من إلقاء اللوم عليها.

القرار الوارد في بيان النيابة، رغم أنه استبدل الحبس الاحتياطي بالإيداع في إحدى مراكز “استضافة وحماية المرأة المُعنَّفة”، لم يسقط عنها الاتهامات. كما أن إيداعها “دار رعاية” لم يكن لأنها ضحية جريمة اغتصاب تجب حمايتها. بل لأنها “متهمة ومعوجة” يجب تقويم سلوكها.

السلطة الأبوية والسيطرة السياسية

الهجمة على مستخدمات تطبيقي “تيك توك” و”لايكي” ومواقع التواصل الاجتماعي خلال عام 2020، لها عوامل اجتماعية. وقد تمددت جذورها داخل المجتمع المصري. كما أنها لها جذور تشريعية وسياسية. سواء تلك الموروثة من عقود ماضية. أو المرتبطة بالظروف السياسية الحالية. أو التشريعات التي صدرت خلال السنوات الماضية.

تصف أميمة حسين، الباحثة الاجتماعية والسياسية، هذه الهجمة بانها امتداد لسلطة أبوية مؤسساتية واجتماعية وممارسات استبدادية في آن واحد. فمن ناحية تفرض سلطتي المجتمع والدولة الذكوريتين، سطوتهما على أجساد النساء. وذلك بوصفها ملكًا لهما وتحت وصايتهما. ومن ناحية أخرى يمثل هذا إعلانًا من المؤسسات الأمنية بأن كل المنصات المتاحة على الفضاء الإلكتروني خاضعة لما تتيحه هي وما تمنعه. وذلك يشمل المنصات المستخدمة في التعبير عن الرأي والمعنية بالترفيه على حد سواء.

وهذا في اعتقاد أميمة حسين بمثابة ممارسات مكملة للمشهد السياسي السلطوي الذي يغلق المجال العام، ويصادر الحريات. وعلى رأس ذلك حرية الرأي والتعبير. وهو ما بموجبه يزج بالمعارضين في السجون لسنوات دون محاكمة، على ذمة قضايا هشة.

أزمة تشريعية

ويرى المحامي أحمد ممدوح أن هناك عوار تشريعي كبير في القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات. وذلك فيما يتعلق بـ”الجريمة السيبرانية”. حيث تضمنت بعض مواد القانون نصوصًا فضفاضة وغير محددة. مثال على ذلك ما نصت عليه المادة 25: “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري”.

هنا يوضح ممدوح أن مثل هذا النص “فضفاض”، لأن مجتمع يضم طوائف دينية مختلفة وثقافات متعددة، كيف سيتم فيه تحديد القيم الأسرية والاجتماعية التي تختلف من مكان لآخر ومن فئة لأخرى؟

ولا يتوقف الأمر عند قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. فهناك أيضًا المادة 14 من قانون 10 لسنة 1960، والمعروف بـقانون مكافحة الدعارة.

وتنص على أنه: “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن 3 سنوات وبغرامة لا تجاوز 100 جنيه لكل من أعلن بأية طريقة من طرق الإعلان دعوة تتضمن إغراء بالفجور أو الدعارة أو لفت الأنظار”. فكيف سيتم تحديد إن كانت هذه الدعوة تتضمن إغراء ولفت للأنظار أم لا؟

هذا إضافة للعديد من النصوص كما في المادة 178 من قانون العقوبات. ونصها: “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد عن 10 آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من نشر صورًا بقصد العرض إذا كانت خادشة للحياء العام”.

هذه النصوص “المعيبة” أعطت -وفق المحامي أحمد ممدوح- للنيابة العامة المخولة بإقامة الدعوى، الحق في فرض القيم الأسرية التي تراها من وجهة نظرها. واتهام من يخالف ما فرضته. ومن ثم إحالته للمحاكمة. فرسخت رقابة تسلطية على المواطنين من خلال استحداثها وحدة الرصد التابعة لمكتب النائب العام. كما أصدرت المحاكم أحكامًا تستند إلى هذه النصوص (غير المحددة). وذلك بناءً على تفسيرات قد تغلبها الأهواء والشروح الشخصية.