مساء 25 فبراير الماضي، كان المشهد عاديا: استقلت نساء من قرية البرشا، في المنيا، سيارة “ميكروباص” للاتجاه إلى كنيسة أبو سيفين لإقامة شعائر صلاة نهضة، وقبل دقائق من الوصول للكنيسة فوجئوا بمهاجمة مجموعة الكنيسة واعترضت أخرى طريقهم بالحجارة. لم يكتب للنسوة الصلاة في هذه الليلة حيث وقعت اشتباكات عنيفة في البرشا.

توترت الأوضاع في هذه الفترة في قرية البرشا بين المسلمين والمسيحيين بسبب منشور على موقع “فيسبوك” نسب إلى أحد شباب القرية كان يحتوي على إساءة للنبي محمد، وتطور الأمر إلى دعوة على المجموعات الافتراضية على “فيسبوك” للانتقام من ذلك الشخص.  

حادثة عنف البرشا الأخيرة كانت إحدى حوادث العنف الديني في المنيا، ولحقها حوادث عدة، أكثر عنفًا وأشد ضررا. إذ تحتل المنيا المركز الأول على مستوى الجمهورية بعدد حوادث العنف الديني بواقع 78 حادثة منذ 2012 حتى الآن.

تعزيز المواطنة.. هل تصبح خطوة في قبول الآخر؟

بدا أن حوادث العنف التي جرت خلال السنوات الماضية في المنيا دفعت الحكومة المصرية عبر وزارة التضامن الاجتماعي للتعاون مع 8 جمعيات أهلية في المنيا لتنفيذ خطة مبادرة “تعزيز قيم وممارسات المواطنة” في 44 قرية، للعمل في القرى الأكثر فقرًا والأكثر تضررًا من تحديات الفقر والتشدد الديني والثقافي.

مبادرة “تعزيز ممارسات وقيم المواطنة” تعد التمويل الأول من نوعه الموجه من الحكومة تجاه جمعيات المجتمع المدني، تقول فيفيان فؤاد، مستشارة وزيرة التضامن الاجتماعي، إن الوزارة تمويل جمعيات مجتمع مدني لتنفيذ مشروعات تخص تعزيز المواطنة، مشيرة إلى أن تدعيم العلاقات بين المواطنين وتعزيز المواطنة كان يقتصر على التمويل الدولي.

عقب ثورة 25 يناير توترت العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، خاصة بعد القضية التي حملت رقم 173 لسنة 2011، وشُكلت للتقصي حول التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، ومرت القضية بأحكام غيابية على متهمين في يونيو 2013. وفي مارس 2016 منع بعض العاملين في تلك المنظمات من السفر أو التصرف في أموالهم. حتى صدر قرار استبعاد نحو 20 منظمة في 5 ديسمبر الجاري لانتفاء الجريمة وعدم كفاية الأدلة.

كيف تستفيد الدولة من المجتمع المدني؟

وفقا لفؤاد، الدولة تنسق حاليًا مع المجتمع المدني للاستفادة من خبرته في العمل الخدمي، في المقابل تستفيد جمعيات المجتمع المدني من الحكومة بالدعم السياسي والمالي وإعلامي، وتشير إلى أن تعزيز ممارسات وقيم المواطنة من الموضوعات التي يجب أن يتشارك فيها المجتمع المدني مع الدولة لتحقيق أقصى استفادة.

وتقول فؤاد، إن الوزارة تدعم 8 جمعيات ماليًا بـ12 مليون جنيه خلال تنفيذ استراتيجية لمدة عام، بالإضافة إلى الدعم الفني عبر ورش العمل ولقاءات للوصول إلى رؤية مشتركة للمواطنة. 

وعن آلية اختيار الجمعيات، تقول مستشارة وزيرة التضامن الاجتماعي إن الاختيار بناء على خبرة الجمعية في العمل التنموي والعمل الاجتماعي، بالإضافة إلى حجم الجمعية، فلا يفضل أن تكون جمعية صغيرة، حتى تتمكن من تحقيق الشفافية المحاسبية بالإضافة إلى وجود سمعة طيبة في المحافظة، وتقدمت جمعيات وتم اختيار 8 جمعيات.

وبدأت جمعيات (الجزويت والفرير، والخبر السار، وصناع الحياة، الهيئة القبطية الإنجيلية، وجمعية الأورمان، والسامري الصالح، وبناء للتنمية، والأسر المسلمة) في عقد لجان مجتمعية مدربة على قبول التنوع الديني والثقافي ومفهوم المواطنة المصرية، وتدريبهم على مهارات العمل الجماعي والتطوعي ودمج فئات المجتمع في التدخلات التنموية والثقافية وذلك من أجل الحد من ظواهر التطرف والتشدد لدى الشباب والمجتمع.

تقول مستشارة وزيرة التضامن الاجتماعي، إن كل جمعية تعمل فيما تتميز فيه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعمل جمعية الجزويت والفرير على تشجع الشباب على التطوع وتعلم الشباب والأطفال، أما جمعية صناع الحياة تنشر ثقافة التطوع وجمعية الأسر المسلمة تعمل على تقديم مساعدات اجتماعية للجميع، بالإضافة إلى تفاعل كل الجمعيات على نشر تاريخ المنيا الأثري بعصوره المختلفة، الفرعونية والقبطية والإسلامية، عبر رحلات (اعرف المنيا ).

وعن ضرر التيارات الإرهابية في المنيا، تقول إن أحد أهداف المبادرة نشر الوعي فيما يخص الضرر الاقتصادي الذي يلحق الفكر المتطرف، موضحة: “الكلفة الاقتصادية تكون كبيرة على محافظة فقيرة مثل المنيا لذلك نعمل على تعريف المواطنين الأمر، التطرف يزيد من الفقر، ربما لن يتغير الأمر سريعًا أو بين يوم وليلة، لكننا نعمل على إحداث تراكم معرفي لدى المواطنين من خلال التوعية”.

وفي سياق منفصل، ترى فيفيان فؤاد، أن الشباب الذكور يحتاجون إلى اهتمام في التربية والتنشئة مثل المرأة ويجب أن يكون لهم برامج، “للأسف الشديد في الأحداث الطائفية نجد أطفال ذكور 12 سنة متورطين”.

ومن ضمن برامج برنامج تعزيز المواطنة، ينفذ برنامج المتطوعين الشباب “شباب من أجل المواطنة”، يتم تدريب الشباب والفتيات على قيم العمل الاجتماعي والتطوعي، وعلى كيفية دمج الخلفيات الدينية والاجتماعية المتنوعة في برامج تنمية وخدمة المجتمع. وعن الخطة التي ستعمل عليها الوزارة بالتعاون مع المجتمع المدني في تلك المبادرة يمكن أن تصبح نموذجًا للعمل وتعمم في محافظات مصر، موضحة “الجمعيات الأهلية ستكون البوتقة التي تدعم عبرها قيم وممارسات المواطنة، وليس العكس”.

اقرأ أيضا:

الدولة والمجتمع المدني| حلفاء في مواجهة الفقر وكورونا.. “أعداء” في السياسة

استراتيجية جديدة للتعامل لتحقيق المواطنة

غالبية القرى التي تشتعل بالفتن الطائفية يرجع إلى سيطرة فصيل معين (أقباط أو مسلمين) وكل منهما منغلق على ذاته، هكذا ترى مريم إبراهيم، المدير التنفيذي لجمعية الخبر السار، التي تفضل دخول القرى الأكثر فقرًا عبر أنشطة اجتماعي تنموية يتخللها رسائل قبول الأخر، لافتة إلى أن كل جمعية لديها أدوات لتناول قضايا المواطنة.

تعمل جمعيات المجتمع المدني ومنهم جمعية (الخبر السار) مع وزارة التضامن على 3 محاور لتعزيز المواطنة، المحور الأول تحسين البيئة والمسكن الصحي.

فبحسب إبراهيم التي تشرح، أن البعض قد يعتقد أن ذلك المحور ليس له علاقة بحوار الأديان، لكنه أداة لشعور المواطن بسد احتياج ولحياة كريمة، وأن يعمل في المشروع مسيحون ومسلمون ويكون المنتج النهائي إيجابي للمواطنين، كل ذلك يحدث مساحة للتعامل الإيجابي، يقصد أحيانًا أن يعمل المقاول المسيحي في البيت المسلم والعكس، حتى يكسر حاجز الصورة النمطية عن الآخر ولتعزيز العمل بين الاثنين، وتقديم مساعدات اجتماعية، تكون في كل مناسبة وتتكون لجنة مكونة من شباب مسلم ومسيحي يقدموا مساعدات للأسر.

وتضيف المديرة التنفيذية لجمعية الخبر السار، أن المحور الثاني هو “تعزيز قيم المواطنة مع الآخر”، ويكون من خلال فاعليات في الـ 44 قرية، لكن كل فاعلية تختلف من قرية لأخرى، ففي جمعية الخبر السار بدأت تعلم شباب مسلم ومسيحي على صناعة أفلام وثائقية عن عادات وتقاليد الماضي في القرى تحت عنوان “مصر الجميلة”.

” على سبيل المثال أم محمد هتخبز مع أم كيرلس وتقاسمها الخبز في النهاية، واستماع رجال القرية إلى الحكواتي معًا”. أما المحور الثالث، عبر إنشاء أنشطة اقتصادية وتنمية الحرف التراثية.

ومن ضمن المخرجات المفترضة لمبادرة تعزيز المواطنة أن يصبح كل القادة المحليين في القرى مدربين على قيم ومبادئ المواطنة وعلى طرق حل النزاع وبناء السلام، ليتمكن من إذابة الخلافات والبحث عن أماكن الاتفاق بين الطرفين، بالإضافة إلى عمل إنشاء غرفة “نادي السلام” في كل قرية تحتوي على أفلام هادفة تعزز قيم المواطنة والدعوة لجلسات رسم للأطفال ومسرح تفاعلي لمعالجة القضايا الطائفية عبر الثقافة.

المنيا الأكثر تضررًا من الفكر المتطرف

لكن ما الأسباب التي جعلت المنيا أصبحت أكثر تضررًا من الجماعات الإرهابية وبؤرة للأفكار المتطرفة خلال السنوات التي تلت عزل الرئيس السابق محمد مرسي حتى ومن قبلها؟ هذا ما يجيب عليه الباحث في الملف القبطي، نادر شكري.

“المنيا لها طبيعة خاصة أكثر من المحافظات الأخرى، إذ إن نسبة الأقباط فيها من ربما تصل إلى 40 % وخاصة في قريتي (دير أبو حنس والبرشا)، إضافة إلى تثبيت التيارات الدينية قواعدها منذ السبعينات، وسيطرة التيارات المتشددة على الجمعيات الخدمية، التي استطاعت استقطاب أبناء المنيا المسلمين للدفاع عن الدين” يشرح شكري.

الوضع كان أخطر قبل ثورة 25 يناير 2011، فبحسب شكري كان أسبوعيًا تقريبًا تحدث حادثة إرهابية سواء حرق منازل أو كنائس، وكانت استراتيجية الرئيس السابق محمد حسني مبارك وقتذاك القبض على الجانبين لاحتواء الأمر، ثم إجراء جلسات صلح عرفية وبالتالي يضيع حق المجني عليه، ما يعطي للجاني مبرر في الاستمرار وأنه لن يقاضى.

لكن ثمة أمر غامض في التوتر الديني المستمر في المنيا بين المسلمين والمسيحيين إذ تبدأ الأمور بشكل فردي وتتحول سريعًا إلى اشتباك جماعي، يفسر شكري الأمر بأنه نتيجة صورة ذهنية لدى مسلمين في المنيا أن الأقباط عائلة واحدة وتعاقب إذ أخطأ فرد، ويتحول العقاب من فردي إلى العقاب الجماعي، بالإضافة إلى أن المنيا أكثر المحافظات التي تضم كنائس مغلقة.

الأعمال الإرهابية في عروس الصعيد ليست وليدة الألفية، لكن بدأت على الأرض في أغسطس عام 1993، حينما أعلنت هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، الجناح الدعوي للجماعة الإسلامية إنشاء محكمة شرعية لمحاسبة المخالفين للشريعة وأحكامها، فى محاولة منها لإظهار قوتها فى مواجهة الدولة ومؤسساتها. وتمكنت الهيئة الخارجة عن القانون أن تنفذ بعض أحكام الجلد.

يضيف الباحث القبطي: أن التيارات المتطرفة زرعت أفكارًا تحض على كره المسيحيين، منها أن الأقباط كفرة يعبدون 3 آلهة، وأن لديهم أسلحة في الكنائس، وفي عصر الرئيس السابق محمد أنور السادات انتشرت شائعة إنشاء دولة مسيحية منفصلة في الصعيد.

6 أنماط للفتنة في المنيا

تنوعت الفتن الطائفية فى مصر ما بين حوادث فردية تحولت لأحداث طائفية، ووقائع التحول الدينى، وبعض حوادث العنف الجماعى، واستهداف دور العبادة “خاصة الكنائس”، بحسب دراسة فإن المنيا جاءت في المرتبة الثانية منذ عام 1972 وحتى عام 2016 بعد القاهرة.

أما الأحداث الطائفية في المنيا خاصة، فهي تنحصر في 6 أنماط، فبحسب دراسة “في عرف من” فإن الأكثر شيوعًا بسبب منع إقامة الشعائر الدينية للأقباط أو تبادل خبر تحويل منزل إلى كنيسة، أو علاقة عاطفية بين مختلفي الديانة، أو تعبير عن الرأي في مسائل دينية، أو مشاجرات أهلية لأسباب عديدة تتحول إلى نزاع طائفي وينضم لكل طرف مؤيدون ويترتب على ذلك الاعتداء عقاب جماعي، أو عنف سياسي، والنمط السادس والأخير استضعاف الأقباط من خلال الخطف وطلب دفع فدية.

لعلّ النمط الثالث وهو الرأي في المسائل الدينية والذي يصنف أحيانًا إساءة دينية، كان سببًا في اشتعال الأحداث الأخيرة في قرية البرشا خلال في نوفمبر الماضي، والتي تطورّت الاشتباك  فيها إلى حرب شوارع بين الجانبين، بحسب المحامي ميخائيل أيوب، محامي الأقباط المحبوسين على ذمة التحقيقات.

يدلل أيوب بأن قرية البرشا عاشت ليلة عنيفة بسبب شائعة غير معلومة المصدر عن الاشتباكات التي حدثت بالقرب من كنيسة أبو سيفين التي تتوسط الوجهين البحري والقبلي أغلقت 5 ساعات خوفًا من اقتحامها من قبل متطرفين. ويشير إلى أن الاشتباكات أسفرت عن حرق سيدة عجوز من زجاجة مولوتوف وأصيب آخرون بكدمات وحرقت بعض العشش وحرق مسجد.

تمكنت عناصر الأمن سريعًا من السيطرة على الوضع، وفي الساعة الواحدة صباحًا قبض الأمن على 48 مسلمًا و30 مسيحيًا، ووجه الاتهام إلى 15 مسيحيًا و20 مسلمًا، بالإضافة إلى صاحب التعليق المسيء للرسول وأخر من قرية مجاورة حرض على العنف بالنشر على مواقع، والاتهامات تنوعت بين التظاهر والشروع في القتل وحرق عمد ومقاومة السلطات وإتلاف مسجد. وجدد للمتهمين 15 يومًا.

يضيف أيوب، أن اليوم الذي تلى أحداث العنف حدث صلح بين الأهالي من المسيحيين والمسلمين برعاية الأمن ولجنة المصالحات، وعادت القرية هادئة.

المنيا تحل المرتبة الرابعة من حيث المحافظات الأقل فقرًا على مستوى الجمهورية، ولعلّ الحوادث الإرهابية أضرت أقباط المنيا بشكل خاص، إذ أصابهم 60% من خسائر العمليات الإرهابية الذي حدث بعد فض اعتصام رابعة في أغسطس 2013، بحسب شكري الذي يرى أن الفقر في قرى المنيا أحد الأسباب الرئيسة في انتشار التطرف والعنف الديني، وما ساعد على ذلك تراجع دور المجتمع المدني الذي كثيرًا ما ينظر إليه بتوجس وخوف، لافتًا إلى أن الدور على وزارة التضامن الاجتماعي للتعاون مع الأمن لفتح آفاق جديدة.

ينتظر من الشراكة التي ولدت بين الحكومة والمجتمع المدني في المنيا أن تفتح المجال للتعاون ولتعزيز الثقة بين الطرفين لتحقيق أهداف مشتركة في تنمية وعي المواطن، خصوصا أن التجربة أثببت قدرة المجتمع على اختراق مساحات لا توليها الحكومة اهتماما كبيرا.