فقدنا اليوم أحد أهم كاتبي السيناريو في الوطن العربي، أستاذنا الراحل وحيد حامد، هنا نعيد نشر ما كتبناه قبل أسابيع قليلة أثناء تكريمه وحصوله على جائزة الهرم الذهبي التقديرية من مهرجان القاهرة السينمائي.
عصا صغيرة يتوكأ عليها. جسدٌ ممتلئ قليلًا، وخطى ثقيلة ثابتة. ملامح طفولية ربما هي ذاتها التي ظهر بها منذ أوائل السبعينيات. دخل إلى مسرح الأوبرا أمس ليتسلم جائزة إبداعية: جائزة الهرم الذهبي التقديرية عن مجمل أعماله في افتتاح الدورة 42 لأكبر وأهم مهرجان سينمائي مصري: مهرجان القاهرة. قدمها له صديق مشواره المخرج شريف عرفة. دقائق من التصفيق الحاد، وقف الخلق ينظرون كيف صنع قواعد المجد وحده، لم يتحدث عن ذاته أو معاناته ولا عن الطريق الوعرة التي أحاطت رحلته أينما ذهب. لكنه اختار أن يقرأ من ورقه صغيرة أسماء لأناس ساعدوه في هذا المشوار ليشكرهم. وردد الجمهور: شكرًا وحيد حامد شكرًا وحيد حامد.
بصوته المليء بشجن مشواره الطويل، قال: “بشكر كل اللي اتعلمت منهم، وعلموني، وكان من الصعب إني أقف في المكان ده لولا حبكم ودعمكم وحبكم للسينما. بشكر كل الفرسان اللي وقفوا جنبي في مشواري الطويل في مجال التمثيل والنقد. أنا حبيت أيامي علشان اشتغلت مع الكبار”.
يسرا التي كانت في الصفوف الأولى، لم يخف على أحد دموعها المتوقعة نوعًا ما في لحظة كهذه. إلى جانبها إلهام شاهين ولبلبة وغيرهم من نجمات ونجوم حفرت كلمات وحيد حامد مشوارهم الفني من بداياته الأولى حتى آخر أعماله السينمائية في فيلم “إحكي يا شهرزاد“، الذي كرمت بطلته منى زكي كذلك عن مشوارها في الدورة ذاتها.
في دار الأوبرا المصرية التي تجمّع فيها بالأمس عدد غير قليل من نجوم وصناع السينما المصرية والإقليمية والعالمية، وفي أكثر من موضع وسياق كان يمكنك أن تسمع همس أحدهم عن “الأستاذ” و”تاريخ السينما”. كان متوقعًا أن تجد أسماء أفلامه تتناقلها الألسن فيما بينها لتصفه بـ”كاشف طيور الظلام”. هو البريء الأول، ومعالي الوزير، والطائر على جناح يمامة، والغول. وهو من لعب مع الكبار، وكان آخر الرجال المحترمين.
ثمة شيء ملفت للنظر في مشوار وحيد حامد كسيناريست، يشبه فيه السيناريست الأول والكاتب المصري العالمي نجيب محفوظ؛ كلاهما درسا الفلسفة. كان الأخير أستاذًا في الجامعة بكلية الآداب قسم الفلسفة، حين كان وحيد حامد لا يزال طالبًا.
يروي حامد أنه في إحدى المرات حكى لهم نجيب محفوظ الذي كان يسأل كل واحد منهم عن سبب اختياره قسم الفلسفة: “أنا لو كنت أعرف إني هطلع أديب مكنتش درست تاريخ”، أنه ليس من الضروري أبدًا دراسة الأدب لتصبح أديبًا، بينما على الإنسان دراسة كل ما تقع عينه عليه لما يساعده ذلك في تكوين وجهة نظر تجاه العالم. كلاهما، حامد ومحفوظ، بدءا من منطقة بعيدة عن الأدب، ثم انتقلا إليه بعد ذلك بصور مختلفة.
وكلاهما، لم ينسا الكتابة المسرحية والارتكاز على المسرح كفن لا يمكن لدارس سينما حقيقي تجاهله. كلاهما كتب في النقد أيضًا. وفي الصحافة بلغة لاذعة. كلاهما صعدا رويدًا رويدًا، ثم توحشا في السينما، ليصح اسم كل منهما دليل عليها، كما أنه دليل عليهما. كلاهما وضع لنفسه نظامًا صارمًا للكتابة. وحيد حامد سيعرف بجلسته الكتابية المعتادة في إحدى الفنادق المطلة على النيل.
بدايات مشوار وحيد حامد الذي لن ينتهي
في عام 1944 ولد وحيد حامد في مركز منيا القمح بمحافظة الشرقية. لاحقًا سيكوّن أسرة فنية بامتياز، شاركته خلالها السيدة زينب سويدان رئيس التلفزيون المصري سابقًا، وسينجبا أحد أبرز صناع السينما، المخرج مروان حامد الذي سيخرج أول فيلم له من كتابة والده: عمارة يعقوبيان. لم يكن مروان الوحيد الذي وقف وحيد حامد إلى جواره في بدايات مشواره الإخراجي، كذلك فعل مع شرف البنداري وتامر محسن وغيرهما.
أيضًا كان تعاون وحيد حامد مع الشباب فرصة لتجديد دمه السينمائي. وربما بدأ هذا التعاون على إثر إنشاء جماعة فنية ثقافية مع ممدوح الليثي ووائل الإبراشي وعمرو خفاجة وعادل إمام وأحمد زكي وعادل حمودة وغيرهم الكثير. سميت هذه المجموعة أحيانًا، بسخرية، “جماعة الشر”. كانوا يجتمعون كل يوم جمعة للنقاش في الفن والحياة.
بدأ الكتابة بالقصة القصيرة، ثم ألف مسرحيات مثل “آه يا بلد” التي لا تزال تحصد الجوائز مع كل عرض لها. أما أولى محاولاته الإذاعية، فكانت من خلال برنامج “46/120″، ومنه قدم مسلسلات للإذاعة، مثل مسلسل طائر الليل الحزين عام 1976 الذي نجح بشكل لافت للنظر.
بعد النجاح الكبير للمسلسل الإذاعي، وكعادة ما كان يحدث آنذاك، كان الاهتمام مركزًا على ما نجح في الإذاعة وتحويله للعرض التلفزيوني أو السينمائي، خوفًا من المجازفة بتقديم فكرة جديدة تلفزيونيًا أو سينمائيًا.
عندما قيل لوحيد حامد إن مسلسله الإذاعي سيعمل عليه كتاب سيناريو مصور لتحويله إلى مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي؛ رفض، طالبًا أن يقوم هو بنفسه بكتابة السيناريو المصور رغم أنه لم يفعلها من قبل. وافق الإنتاج مجبرًا على ما يبدو.
اقرأ أيضًا: الإرهاب في الحقيقة والسينما.. الواقع أشد قسوة
هكذا كانت التجربة السينمائية الأولى لوحيد حامد محل إشادة، خاصة من المخرج يحيى العلمي. وبه زادت موهبة نجم سيصبح من علامات السينما والتلفزيون في مصر بعد ذلك، وهو محمود عبدالعزيز. كما سيؤكد وجوده مع عادل إمام بعد عملهما الأول سويًا: أحلام الفتى الطائر، المسلسل الذي استطاع منافسة مباريات كرة القدم.
يتوغل أكثر فأكثر
رسّخ حامد تواجده مع الكبار. أخذ وقته ووضع مجهوده ليحدث ذلك، وقد كان. حافظ بمجهود كبير يعلمه أي كاتب، على تواجده باستمرار وتعدد الأعمال، وبين القيمة الفنية التي تحملها الكتابة وأفكارها. وربما سنجد عدد قليل جدًا استطاع مجاراة هذا العمل الشاق. هكذا بات من غير الممكن الحديث عن تاريخ السينما المصرية دون ذكر عدد غير قليل من أعمال وحيد حامد.
ربما تجدر الإشارة هنا إلى ما كتبه المخرج الشاب إياد صالح حول مسلسل الجماعة من تأليف وحيد حامد، حين قال إنه من الأعمال التلفزيونية التي استطاعت
خلال نقاش سريع مع عدد من النقاد وصناع الأعمال الدرامية، كان لافتًا حديث المخرج الشاب إياد صالح حول مسلسل الجماعة من تأليف وحيد حامد.
في مناقشة سريعة مع عدد من النقاد حول تلك الأعمال وقراءة عدد من الكتابة التي تناولت السينما والتلفزيون مؤخرًا ملاحظة لافتة تمامًا قالها المخرج الشاب إياد صالح حول أن مسلسل الجماعة الذي كتبه وحيد حامد كان من أحد الأعمال التي ظهرت مؤخرًا وحولت وجهة جمهور الشباب المصر والعربي تجاه السينما ربما لأنها لم تعد تعتمد على النظام القديم الذي تجاوزه الزمن مع إتاحة الفرجة على الصناعة التلفزيونية في هوليود ونتفليكس وغيرها، هذا التفاني الذي وضعه وحيد حامد للسينما يظهر ربما في كل مرة كأنه المرة الأولى.
الفيلسوفة حنة آرندت في كتابتها إلى زوجها هانيرش بلوش كتبت: “أستطيع أن أعيش فقط في الحب. ولذلك كنت خائفة جدًّا من أن أضيع ببساطة، فجعلت نفسي مستقلة”. وربما تكون نفسها الكلمات التي يمكنها التعبير عن وحيد حامد ككاتب لا يمكنه عمل سوى ما يحب بما صنع تجربته الفريدة التي تخللتها المحاولة الدائمة بلا ملل.
كانت الجائزة التي حصل عليها حامد في مهرجان القاهرة السينمائي، أمس الأربعاء، مستحقة لمشوار زادت أعماله عن الـ80. ننضم إلى منظمي المهرجان بشكرًا وحيد حامد.