تفتيش عار، اعتقالات، انتهاكات، معتقلات تمتلئ بالمعارضين والخصوم السياسيين. هكذا هو ملخص الوضع الحقوقي في تركيا منذ محاولات الانقلاب الفاشل في 2016، حسبما تشير التقارير الحقوقية، المحلية والأممية، حيث إن دائرة القمع قد وصلت حدودها القصوى ووصل معها عدد المعتقلين في السجون التركية، البالغ عددها 385، إلى ما يقارب 260 ألف شخص، حسب بيانات وزارة العدالة التركية، وتتفق معها المراكز الحقوقية.
سقف الحريات يتهدم لحساب السياسة
وامتدت حوادث القمع، بصورها المتباينة، ووتيرتها السريعة، بين المؤسسات الصحفية والأحزاب السياسية، وبنفس الدرجة، في جهات الدولة الرسمية؛ ومن بينها الجيش والقضاء، وعمد الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، إلى فرض قانون الطوارئ، إثر الأحداث الأمنية المنفلتة التي شهدتها أنقرة، قبل نحو خمسة أعوام، وقد تسبب ذلك في ارتفاع عدد المعتقلين، وتنامي الانتهاكات الحقوقية.
ليس ذلك وفقط، بل أقر البرلمان التركي قانونًا يعرف بـ”مكافحة الإرهاب”، في أعقاب الانتهاء من حالة الطوارئ التي استمرت بين عامي 2016 و2018. ومن المفترض أن يجري العمل به، حتى العام 2021. وفي ظل هذا القانون الأخير، بلغت حصيلة المعتقلين نحو “44,930 شخصًا. وهؤلاء من بينهم 31,442 سجينًا سياسيًا، متهمون بالانتماء إلى حركة عبد الله جولن”، بحسب البيانات الحقوقية.
في أواخر العام الماضي، بلغ عدد المعتقلات في السجون التركية نحو 18.000 امرأة، كما تشير منصة “تركيا الآن”، في نسختها العربية. وتكشف الأرقام عن اعتقال نحو 44 سيدة تركية، في العام 2020، من بينهم “الرئيس الفخري لبلدية سيلفان نشيدة توبراك. وكذلك الصحفية عاشئة كارا، وقيادات نسائية من منظمة حقوق المرأة. في إطار التحقيقات التي تجريها تركيا للقبض على أعضاء مؤتمر المجتمع الديمقراطي الكردي. وقد تم تعذيبهن، وضربهن، ولكمهن لكمات عدة في وجوههن، ومناطق متفرقة من أجسادهن، حسب “تركيا الآن”.
اقرأ أيضًا: تركيا وفن صناعة الأعداء.. أردوغان يحاصر بلاده بالأزمات والنيران
المرأة التركية وتوحش السلطة
يمتد سجل الانتهاكات الحقوقية في تركيا ليشمل واقعة تهديد خمسة رموز نسائية من المعارضة التركية بالاغتصاب والخطف، بحسب منظمة العفو الدولية. ومن بين هؤلاء: الممثلة التركية بيرنا لاشين، والصحفية نفشين مانجو. أيضًا رئيسة محافظة إسطنبول عن حزب الشعب الجمهوري، جنان قافتنجي أوغلو، والمحامية فايزة ألتو. وذلك تحت تهديد السلاح بسبب مواقفهن السياسية المعارضة للرئيس التركي.
تشير البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية التركية، التي أن وقائع العنف ضد المرأة، قد ارتفعت بنسبة 50 %، من 145 ألفًا، في العام 2015، إلى نحو 220 ألفًا، في العام 2018.
هنا، يكشف النائب المعارض بالبرلمان التركي، عمر جيرجيرلي، عن تعرض 30 امرأة، أثناء فترة احتجازهن إلى التفتيش العاري. ومما فاقم من تبعات هذه القضية، نفي النائبة في حزب العدالة والتنمية الحاكم، أوزليم زنجين، للحادثة. وقالت: “لا أعتقد أن هناك عمليات تفتيش عار أصلا في تركيا”.
بين الدفاع والمراوغة حول الانتهاكات بحق المرأة
غير أنه، وفي ظل الملاسنات الحادة والعنيفة التي جرت بين نواب البرلمان، سواء من جانب الفريق المناصر للحكومة أو الفريق المعارض، فقد اعترفت ضمنيًا مصلحة السجون والمعتقلات التركية بالحادث، والذي وصفته بـ”التفتيش الدقيق” في سجونها، بينما اعتبرت الأمر بمثابة ممارسة “ضرورية ” و”استثنائية”، على حد تعبيرها، بهدف وضع ضوابط لعمليات التهريب داخل السجون.
وقالت المديرية العامة للسجون في بيان رسمي: “إن عملية التفتيش الدقيقة هي ممارسة استثنائية”. وأضافت أنها “بمثابة إجراءات احترازية، تقبلها المنظمات الدولية، وتنفذها العديد من الدول”. كما لفتت إلى “التفتيش يستهدف أولئك الذين أدينوا أو سجنوا في تهم تتعلق بالمخدرات والإرهاب، ويريدون إساءة استخدام أجسادهم”.
وتمثلت الخروقات القانونية، والانتهاكات بحق المسجونين، التي وثقتها المنظمات الحقوقية، في حظر إجراء أي نوع من الاتصال بين المسجونين وأسرهم، وذويهم أو محاميهم.
ومنعت السلطات التركية الأعضاء المشتبه في انتمائهم إلى حركة “جولن”، لمدة 565 يوماً، من إجراء الاتصالات بمختلف أشكالها، بما في ذلك الرسائل البريدية، وتم تسجيل هذه المعطيات في سجن سيليفري بمدينة إسطنبول”. بحسب منظمة هيومان رايتس ووتش الأمريكية.
إدانة أممية على ممارسات السلطات التركية
بحسب تقرير صادر عن مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، التابع للخارجية الأميركية، فإنه “منذ محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس التركي في يوليو 2016، أقالت تركيا أكثر من مئة ألف موظف حكومي”. وذلك بدعوة الاشتباه في علاقاتهم برجل الدين المقيم في الولايات المتحدة، فتح الله جولن، الذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء الانقلاب.
ولفت التقرير الحقوقي، إلى أن الممارسات غير الإنسانية، التي قام بها النظام في تركيا، بحجة “الحرب ضد الإرهاب”، لم تكن أكثر من ذريعة. وغرضها التنكيل بالمعارضين والخصوم المحتملين لمنافسته.
وتباينت حدة الانتهاكات، والتي تراوحت بين “الإخفاء القسري والتعذيب والقتل العشوائي خارج إطار القانون”. إذ تم “توقيف عشرات الآلاف من الأشخاص، بشكل تعسفي، ومن بينهم برلمانيون سابقون، ومحامون، وصحفيون، وأجانب، وموظفون في البعثة الدبلوماسية الأميركية بتركيا”.
وألمحت الخارجية الأمريكية، في تقريرها، إلى تورط عناصر تنتمي للنظام في الخروقات الحقوقية. وفي الوقت ذاته هناك “استمرار في الإفلات من العقاب”. بينما تقبع شخصيات منتخبة ديمقراطيًا في السجون، مثل حكام الولايات، الذين جرى انتخابهم في انتخابات البلدية، ثم عزلهم، وسجن غالبيتهم.
وطالبت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الأمريكية، السلطات التركية، بـ”إجراء تحقيق” في حالات تعذيب وسوء معاملة محتملة على أيدي قوات الأمن في إسطنبول، وفي جنوب شرقي البلاد. وذلك بعدما أكد التقرير الأممي على “وجود أدلة موثوقة تظهر أن الشرطة وقوات الأمن في أحياء تركية قد ارتكبت انتهاكات خطيرة ضد 14 شخصًا على الأقل في ستة حوادث في ديار بكر (جنوب شرق) وإسطنبول خلال الشهرين الماضيين قبل نهاية 2020.
اقرأ أيضًا: الانتهاكات الجوية.. سقوط ورقة التوت الأخيرة لتركيا في شرق المتوسط
تحالف اليمين التركي
في حديثه لـ”مصر 360″، يوضح الباحث الحقوقي، مصطفى عبدي، مدير مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، إلى أن تركيا تحت إدارة حزب العدالة والتنمية، تقع منذ أحداث “الانقلاب المزعوم”، حسب توصيفه، في ظل أعباء سياسة قانون الطوارئ، أو مكافحة الإرهاب، التي سمحت بتشكيل بنية قانونية متسلطة وعنيفة.
وأضاف عبدي: “نجح الرئيس التركي في إخضاع المؤسسات التشريعية إلى سلطة الجهاز التنفيذي”. وأنه وضعها تحت إدارته المباشرة ونفوذه (أي إدارة مؤسسة الرئاسة). وذلك بعدما أجرى تعديلات كبيرة على شكل الحكم الذي كان برلمانيًا. ثم تحول إلى الرئاسي. ومن ثم عصف بمبدأ الفصل بين السلطات، وقوض الحكم في شخصه.
وتابع عبدي:”حدثت هيمنة من جانب اليمين الراديكالي، في تركيا، بواسطة الرئيس التركي، سواء التيار القومي المتشدد، أو عناصر الإسلام السياسي، في ظل الخطاب السياسي الجديد والمؤدلج، المرتكز على مبادئ وقيم “العثمانية الجديدة”، واستعادة الأممية الإسلامية، ولذلك نجد هذا التحالف المتين بين العدالة والتنمية والحزب القومي المتطرف، برئاسة دولت باهتشلي”.
ويشير الباحث الحقوقي مصطفى عبدي إلى أن هذه التيارات اليمينية المتطرفة، تستفيد من موجة صعود اليمين العالمي، والتيارات الشعبوية، بينما تفرض مناخ من الرعب، وفق قانون الطوارئ بتركيا، ضد المناخ السياسي والديمقراطية وسيادة القانون، حسبما يشير الباحث الحقوقي.
وهذه التكتلات الثلاثة تعتبر المناخ السياسي والانفتاح الديمقراطي، وحقوق الأقليات، ومن بينها القضية الكردية، بمثابة نهاية لوجودهم السياسي، في تقدير المصدر ذاته، والذي يرى أنه “تراهن هذه القوى على تصفية الحراك الديمقراطي الداخلي، بواسطة قوانين الطوارئ، والميلشيات التي تجندها هذه الأطراف، ككيان موازي لمؤسسات الرسمية للدولة، لتصفية الحركات الديمقراطية القانونية، كما حدث، مثلاً، مع اعتقال قيادات الحزب الشعوب الديمقراطي، وعلى رأسهم صلاح الدين دمرتاش، إذ إن هذا الحزب يشكل الكتلة الثالثة على مستوى القاعدة الانتخابية في تركيا”.