ثمة تساؤلات أوّلية يمكن طرحها قبل الخوض في الحديث عن الرواية: لماذا سعى  المترجم المصري مارك جمال ودار التنوير العربية للنشر بإعادة تركيز الانتباه على ترجمة الرواية الإسبانية “خريف البطريرك” للكاتب الصحافي الكولومبي جابيريال غارسيا ماركيز (1927/ 2014) التي صدرت طبعتها الأولى منذ عام 1975، كما سبق أن تُرجمت للعربية؟ وما الذي يجذِب القاريء العربي في رواية ربما حُرقت أحداثها بالنسبة له ولمن تبادل الحديث معهم عنها؟ ما يدفعنا إلى سؤال أكثر تأسيسًا: هل يمكن لبعض الأعمال الفنية سواء المكتوبة أو المصوّرة أن تموت بحكيها أساسًا؟ ربما يمكن لهذه الرواية أن تُجيب عن كل ذلك.

ماركيز

في كتاب “سيمولوغية الشخصيات الروائية” للكاتب فيليب هامون، يقول إن الرواية (المرجعية) هي التي “تحيل على معنى ممتلئ وثابت حددته ثقافة ما كما تحيل على أدوار وبرامج واستعمالات ثابتة وقراءتها مرتبطة بدرجة استيعاب القارئ لهذه الثقافة، لتؤدي دور البطولة بطريقة متوقعة وثابتة”، لذلك وعلى ما يبدو أن روايتنا المذكورة كذلك هي رواية مرجعية، لا يمكن حرق أحداثها الفانتازية بالحديث عنها لأنها في الأساس تعتمد على حكاية تقليدية متعارف عليها في ذاتها، فهي تُصنّف باعتبارها “رواية الديكتاتور” التي انتشرت في أمريكا اللاتنينية آنذاك لمحاولات الخوض في الحديث حول شخصية الديكتاتور برمزيات روائية مختلفة تساعد على إتاحة قراءتها دون أن تُمنع من النشر إذا نُشر كلامها دون مباشرة دون رمزية.

في الوقت الذي تميّز خلاله ماركيز دون سواه من بالكتابة الرمزية التي تجمع الخيال مع الواقع دون معرفة أيهما يطغى على الآخر وتجلعه يتصدّر نقاشات الحديث عن “الواقعية السحرية” وعن حياته الخيالية التي دفعته للكتابة والتي جعلت قرّاءه لا يمكنهم الجزم إذا كانت تلك الكتابات خيالية أم تتّبع حقائق وأحداث حقيقية.

في الرواية يسرد ماركيز فترة ما من عُمر أحد دكتاتوريّ العالم في أمريكا الجنوبية غارقًا في تفاصيل وأوصاف عن شخصية يتعايش معها القاريء بينما يصعُب حكيها، بالتالي لا يمكن لترجمتها السابقة أن تقتل محاولة أخرى مُجهدة لملاحقة تلك “القصيدة” الطويلة الأكثر إرهاقًا لكاتبها نفسه.

100 عام من العزلة

بالإضافة إلى أن شعوبنا في العالم العربي قبل غيرها ربما هُم الأكثر احتياجًا للقراءة حول الشخصية الديكتاتورية في العموم، ذلك الذي يرون أشباهه باستمرار. لذلك تمثّل رواية البطريرك/الأب/الرئيس مخاض يرويه صحافي قرأ وكتب وعايش كثيرًا دكتاتوريّ العالم وصادقهم أيضًا؛ إذ كان “جابو” أو جابريال الصديق المقرّب لفيدل كاسترو الرئيس الكوبي آنذاك.

ماركيز الذي اعتاش ماديًا من النجاح الساحق الذي حققته روايته “مائة عام من العزلة” والتي جعلته يتّخذ قراره بأخذ فترة انعزال تام بعيدًا عن الأدب رآها الفترة الأنسب لكتابة رواية البطريرك التي جاءت فكرتها قبل رواية “العزلة” التي حصل بها على جائزة نوبل.

رغم كون “خريف البطريرك” لم تنل الشهرة والمبيعات الكبيرة ذاتها فإنها كانت في رأيه “الأصعب” وربما الأهم أيضًا في مشروعه الأدبي الثوري في سياق الظرفية التاريخية لكاتبها الذي واجه مفهوم الديكتاتورية ذلك صغيرًا بسبب تحكمات والده وسيطرته الدائمة عليه، التي جعلته يعلن عدم حبّه له ثم واجه العديد من الديكتاتوريات التي كتب عنها كثيرًا.

ثمة سبب شخصي غالبًا هو ما كان يُحرّك ماركيز للكتابة؛ ففي “الحب في زمن الكوليرا” كان يسرد قصة حب والديه وفي “حكاية موت معلن” التي حوّلت إلى عمل مسرحي نشر مذكراته الشخصية وحكايات صديقه سانتياجو الذي وجد نفسه يواجه تهديدات بالقتل لا يعلم مصدرها، كتب سيرته بشكل أكثر تفصيلية في “عشتُ لأروي”. روايته “خبر اختطاف” جاءت بعد اغتيال صديقه الصحافي بييه موكانو وأعمال الشغب التي تلتها في المدينة بسبب تحريضات زعيم العصابات الشهير بابلو إسكوبار. “ليس لدى الكولونيال من يكاتبه” استوحاها من أحاديثه مع جَدُّه.

الحب في زمن الكوليرا

“العودة إلى الجذور” يحكي فيها عن قريته الصغيرة. إلى جانب رواياتٍ أخرى وقصص صحافية لا يمكن حصرها الآن ربما يتحدث خلال عدد ليس قليلٍ منها أيضًا عن مواجهة الإنسان لمصيرة وعالمه غير المعلوم بالضرورة. فإنه في “رائحة الجوافة” حكى في حواراته مع صديق عمره الكاتب الصحفي أبوليو ميندوسيا  حول رواية “خريف البطريرك” وعن مفهوم السُلطة الذي شغله خلال أغلب كتاباته لكنه خلالها تناوله بأريحية شديدة جعلته يكتبها “كلمة كلمة على مهلٍ يعطيها حقّها من التفكير والتحرر أثناء الكتابة” فقرر اختيار الكتابة عن فترة الخريف الحزين لذلك “الإله/البطريرك/الرئيس” ليلهث القاريء ورائه ويقتفي أثر جُملُه الطويلة الشاقة التي كُتبت بها الرواية؛ إذ لا تريدك أن تترُكها إلّا منتهية فلا يقطعها سوى ستة فواصل صغيره لالتقاط الأنفاس فقط.

بعد نسختين غير تامتين حاول خلالهما الكاتب صُنع توليفة من الدكتاتورين وحيواتهم غير الطبيعية بجانب عدد لا نهائي من الأغاني الساحلية الكولومبية صوّرت الرواية دكتاتور/إله مُتخيّل عاش ما بين 107 و232 عامًا في “مملكته الموحشة مترامية الأطراف” يشفي المرضى والمفلوجين، يصل جبروته إلى أن “لا أحدًا يموت نزولًا عند أمره بل صار خطّاب يتزوجون بغير حبٍ وموتى يُبعثون وأشرار يضحى بهم قبل الأوان” يموت بسببه البعض دون أسباب منطقية لمجرد تقاطُع حياتهم معه وبالرغم من موته الوهمي في منتصف الرواية إلّا أننا نجد ذِكره الدائم على ألسنة الرواة الذين يُجهّلهم الكاتب عمدًا ولا نعرف أسماء أيًّا منهم، تُمركِز حياة الديكتاتور والدته بينديسيون ألبارادو التي “لا سمحت للطاعون أن يفزعها ولا سمحت للحب بأن يرهبها ولا سمحت للموت بأن يخيفها” كانت مصدر التعزية والأمان في عالمه بحواراته الدائمة معها على اعتبارها دائمًا ما تهبه قبسٌ من نورها “الأعظم حكمة” ربما مثل أغلب حكايات ديكتاتوريّ العالم التي تتمركز جزء كبير من رؤيتهم للحياة من خلال “علاقتهم بوالدتهم” على حد اعتقاد الكاتب ذاته في حوار نقله المترجم كمقدمة يتحدث خلالها الكاتب عن بطل روايته المُتخيّل.

ورغم الحديث الضروري عن حياته الظاهرة التي يوهم شعبه خلالها بعلاجه للمرضى والعمي والمفلوجين بلمسة منه والملئية بمنافقيه إلّا أن الرواية تحاول سرد الجزء الخفي من هذا الرئيس التعِس الذي “يستسلم لمطارحة الحبِ قسرًا والنوم بثيابه أرضًا والاستلقاء على وجهه من دون وسادة ويتخلّى عن كل الحِرف التي ورثها فصار يواجه أخطار السلطة الأشد هولًا.. يتجشم الكثير من الأحلام الضائعة سدٍى والكثير من التنهدات المكبوتة، تنهدات الأوهام المستحيلة، وهو يتوّج ملكات الجمال الكثيرات العابرات البعيدات كل البُعد عن المنال، وهو لا يكاد يسمّهن مسًا، ذلك أنه رضي بأن يعيش إلى الأبد قدرًا ليس قدره.  المؤلف. ص37

كما مشهد سينمائي يصوّر الكاتب موته البطيء بعد أن أصبح “يرتمي على الأرض بالبنطال الخشن الذي كان يرتديه منذ لم يعد يحضر الإجتماعات” بحرفية شديدة إذ يقضى عليه الموت وهو حافي القدمين في ثياب الشحاذين، ذلك الموت الذي جاءه بعد أن نفرِ منه وأحبّ الحياة “بعد أعوامٍ من الأوهام العقيمة حتى بدأ يتبين أن المرء لا يعيش حياته بل ينجو بها وأن المرء يتعلم بعد فوات الأوان أنه لن يجد متسعًا سوى ليتعلم كيف يعيش حياته. ولا حتى في الحيوات الأكثر طولًا ونفعًا [يمكنه تعلّم شيئًا آخر غير ذلك]  المؤلف. ص332 فما السلطة بالنسبة له سوى: بيتُ الغرقى ورائحة الخيول المحترقة وما يومها إلا مثل الشفق الموحش، فالسلطة لا تجلب يومين شبيهين ببضعهما البعض.

خريف البطريرك

الرواية تمثّل قصيدة طويلة أو فيلم سينمائي من مشهد واحد غير ممنتج حول آخر أيام ديكتاتور لم ينتصر عليه شيئًا سوى الموت، ولم يعجزه سوى الملل ولم يعش إلّا بمصادقة الوهم فانسحبت رمزيتها الأبدية لتشمل غالبية سلطويّ العالم ليصعب نسيانها مع مرور السنوات على كتابة فكرتها التي لا يمل العالم من تكرارها. وهو ما يؤكده كذلك الغلاف الذي اختارته الدار لشخص لا تظهر صورته بينما نشاهد بوضوح ملابسه العسكرية الناصعة.

عندما قرأت تعليقات النقّاد على رواية “مائة عام من العزلة”  لفت نظري أحد تعليقات القرّاء آنذاك أن الرواية هي “الكتاب الأوّل بعد سفر التكوين الذي يجب أن تُفرض قراءته على الجنس البشري” في الوقت الذي كُنتُ مدفوعًا كعربي نشأ وسط دكتاتوريات متعاقبة أن أرى على الدوام أن خريف البطريرك هي روايته الأهم والأكثر قربًا لي بما تمثّله تلك الكتابات من تعزية وتنفّس قليلًا مما يعيشه العربي فكُنت أود لو باستطاعتي تحريف الكلمات واعتبار “خريف البطريرك” دون غيرها سِفر التكوين الجديد.