التوسع في التجريم
في الأصل العام وفي كل النظم الدستورية تقوم المجالس النيابية بتشريع القوانين، وعلى نحو استثنائي يكون ذلك الأمر مخولاً للسلطة التنفيذية وفي أحوال بعينها، تكون من قبيل الظروف الطارئة أو الأحوال التي تقتضي استصدار قوانين في حالة غياب البرلمان أو عدم انعقاده، ويكون ذلك وفق أسس وقواعد تنظمها الدساتير. لكن يدق الأمر حين صياغة النصوص الجنائية بشكل خاص، وذلك لكون هذه القوانين تسعى في مقامها الرئيسي لمنع أفعال لم تكن ممنوعة أو محظورة من قبل النص عليها، كما أنها تقيد من نطاق الأفعال المباحة التي يقوم بها الأفراد،كما أنه يجعل من أمر إتيانها من الأمور المعاقب عليها، ومن هنا وجبت الدقة عند الدخول في هذه الدائرة، أو بناء النصوص الجنائية.
وإذ إن الموضوع ينقسم إلى ناحيتين وهما ناحية التجريم وناحية العقاب، فسوف نتحدث عن ذلك في مقالين، سيكون المقال الأول عن زاوية التجريم، وهو ما نحن بصدده الآن.
في البدء، فإنه من حيث الأصل العام في التشريعات يجب أن تكون صياغتها اللغوية متسقة مع ما تتناوله من موضوعات، إذ اتفق القانونيون على أن تكون اللغة التشريعية بسيطة وغير معقدة، ذلك بما يكفي لأن يفهمها بصورة كاملة عامة الناس المخاطبون بأحكامها، وأن يكون حجم النص القانوني معقولاً وفي جمل لغوية بسيطة وغير معقدة، وأن تكون عبارات وكلمات النص القانوني بعيدة عن أي التباس، وهو ما يعني أن تكون قاطعة الدلالة، إضافة إلى اشتراط أن تفي بالغرض المقصود منها.
وتتمحور الفكرة الرئيسية في تنظيم القوانين الجنائية حول معنى الموازنة بين حماية المصلحة العامة وإتاحة حريات المواطنين، حيث إن التجريم في قوامه الأصيل يُشرع من أجل صون أو حماية الأفراد والمجتمعات، وتتجسد حماية الحريات العامة من خلال تبصير الأفراد بما هو غير مشروع من الأفعال قبل الإقدام عليها، بما يضمن لهم الطمأنينة والأمن.
سياسة التجريم
وتتوجه سياسة التجريم إلى حماية المصالح الاجتماعية، والتي تقتضي حماية المجتمع والأفراد من الاعتداء عليه، وتتضمن سياسة التجريم أيضاً بيان القيم والمصالح الجديرة بالحماية باستخدام العقاب ومنع إلحاق الضرر بالجماعة أو بقيمها، وفي هذا الإطار تباشر الدولة وظيفتها الجزائية لحماية المصالح الاجتماعية.
ولا تكفي مجرد رغبة السلطة في تجريم فعل بعينه والخروج به من دائرة الإباحة إلى دائرة المنع أو الحظر، بل يجب أن تكون هناك حاجة مجتمعية لوضع الفعل في دائرة المنع، ولما كانت المصالح المجتمعية متباينة ومتضاربة فيما بينها، وجب على المشرع أن يوازن بين تلك المصالح وأن تكون التضحية بواحدة منها في سبيل حماية باقية المصالح المجتمعية مُبرراً، ويجب كذلك التضحية بالمصلحة الأقل أهمية.
اقرأ أيضا:
تحقيق العدالة وعرقلة سير التقاضي
والأصل العام أن السلطة التشريعية ذات سلطة في تقدير ما يترأى لها من تشريعات، ولكن في مجال التجريم، وبشكل خاص فيما يتعلق بالحقوق والحريات وجب على السلطة التشريعية أن لا تتعمد مصادرة الحق أو الحرية أو التضييق عليها، فيجب أن تقف مقاصد الهيئة التشريعية عند حدود الأغراض أو الأهداف والمبادئ التي يحميها الدستور، وإلا كان القانون محل التنظيم قد طاله عيب الانحراف بالسلطة التشريعية.
ومن زاوية الواقع التطبيقي، وفيما يتعلق بالقانون المصري، فمن من الملاحظ خلال السنوات الأخيرة أن هناك توسع كبير في مجال التجريم في مجال القانون الجنائي المصري، بما يؤرق وضع الحقوق والحريات بشكل كبير، وبما يجعل معظم هذه القوانين تصب في خانة الانحراف التشريعي والبعد عن المقاصد العامة للدستور المصري،وبما تمثله مبادئ سيادة القانون واحترام الدولة للقانون محل خطر حقيقي، ومن قبيل التمثيل الفعلي على ذلك، تجد ما جاء في المرسوم بقانون رقم 126 لسنة 2011، بما استحدثه من تجريم التمييز بين الأفراد وطوائف الناس، وأن يترتب على ذلك التمييز إهدار مبدأ تكافؤ الفرص أو العدالة الاجتماعية أو تكدير السلم العام.
وكذلك ما جاء بالقرار بقانون رقم 41 لسنة 2014، والذي استبدل نص المادة 78 من قانون العقوبات، وأهم ما جاء فيها في هذا المعنى “ارتكاب عمل ضار بمصلحة قومية أو الإخلال بالأمن العام والسلم العام. وهناك العديد من هذه العبارات التجريمية الفضفاضة قد وردت في قانون مكافحة الإرهاب، وهو معروض حاليا أمام المحكمة الدستورية العليا، للنظر في أمر مدى دستوريته وفقا لهذه الزاوية وزاويا أخرى مغايرة.
وفي ظل مجلس النواب المصري في نسخته المنقضية، قد أصدر ما يمثل نموذجاً للتوسع في استخدام الألفاظ التجريمية، وخير مثال لذلك هو القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والذي تضمن استحداث توسع تجريمي بقوله “كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري”. وفي هذا القانون ما يكفي لاعتباره نموذجاً قاسياً للتوسع في نطاق التجريم، عن طريق العبارات الفضفاضة، والواسعة المعاني، فكيف يمكننا ضبط معنى محدد للفظ القيم الأسرية، حتى تكون محل تجريم، وهي من العبارات الغير قاطعة الدلالة، أو التي يمكن تأويل معناها، أو التخبط في تفسيرها، وعلى حسب قول المحكمة الدستورية المصرية، أنه إذ كان النص الجنائي غامضًا أو متميعًا بحيث يصعب على المخاطبين بأحكامه الوقوف على دلالته، فإنه يكون غير مستوف للضوابط الدستورية للقاعدة الجنائية.
وما سلف ذكره ليس إلا نماذج بسيطة للتوسع في نطاق التجريم من قبل المشرع المصري في السنوات الماضية، وهو أمر من الخطورة بمكان ليس هيناً لتضيقه من نطق الحريات العامة والخاصة بشكل ملموس، ويتنافى بشكل كلي مع القواعد العمومية في نطاق التجريم، وهو الأمر الذي يحدو بنا أن نتوجه بالخطاب إلى المشرع المصري في شكل مجلس النواب المقبل بأن يقوم بدوره أو صلاحيته الوظيفية الأهم، ألا وهي رخصة التشريع بأن يقوم بمراجعة التشريعات الجنائية، وبشكل خاص ما صدر منها خلال الفترة الانتقالية، وهي تلك التشريعات المتعددة التي وافق عليها البرلمان السابق في وقت وجيز على الرغم من كثرتها، إذ لم تُتح له فرصة مناقشتها بشكل راسخ ومتعمق لضيق وقت الفترة التي حددها له الدستور المصري، وهي فترة أسبوعين، لم تكن كافية بحال من الأحوال لمراجعة هذا الكم الكبير من القرارات بقوانين التي صدرت،والتي تجاوز عددها ثلاثمائة قرار بقانون.