في أحد أفلام العظيم المحبوب إسماعيل يس كان يؤدي دور رجل فقير يدعى (أفلاطون)، راهنه أحد الأغنياء على أن يعطيه ما يريد من مبالغ مالية. ليتأكد لكل منهما قيمة المال -وكما نعرف فإن المقصود بلفظة “المال” هو ما لي، أي ما أملك- إذ كان يحدثه عن السعادة التي يمكن أن يحصل عليها الأشخاص الأغنياء. لكن تسير الأمور في منحى آخر. ويتأكد لهما في نهاية الرواية خلو هذه المقولة من المعنى، وتهافت هذه الفرضية من أساسها.

بالطبع، لا أقصد أن أختزل تلك الخبرات الحياتية العميقة، حول قيمة الحياة، ومعنى السعادة، ومن ثم أضفي عليها سطحية فجة كما هو معتاد، عندما نقرن السعادة بالفقر، والمرض بالغنا، وغيرها من المقولات التي اعتاد البعض على ترديدها، وتعد مثل نظيرتها التي تقرن السعادة بالمال.

في واقع الأمر تقدم لنا هذه التجارب الحياتية التي نواجهها خبرات متفاوته المغزى، حسب ما يراه كل منا في تجربته “الذاتية”، وما يواجهه من أزمات، ومن ثم تظل القضية في بعض جوانبها قضية شخصية، خاصة فيما يتعلق بالغاية من الحياة، وأيضا في معنى السعادة، وهنا يمكن صياغة الاستفهام على النحو التالي: ما هي طبيعة العلاقة بين ما يمتلكه الشخص وماهيته كما يراها هو، ومثلما يطرحها الآخرون عنه؟ 

من المعروف أن كل شخص يكون تصورا ذهنيا ما عن هويته، وبطبيعة الحال فإن بعضا من هذا التصور الذهني يأتي عبر مقولات الآخرين، ومن خلال تعبيراتهم الاجتماعية التي يواجهوننا بها، وربما المشاعر التي تعتريهم عندما نحضر في محيطهم الاجتماعي، أوعندما يستدعي ذكرنا أحدهم . وما نلاحظه في هذا الصدد هو ارتباط ” ماهيتنا” كما نراها، ويؤكدها الآخرون بما نمتلكه ماديا أومعنويا، بحيث يبدو وكأننا نتماهى مع ما نمتلك ليشكل جزءا هاما من “ماهيتنا” كما نعرفها.

بالحظ وبالصدف

كثيرًا ما يسيطر الإحباط واليأس على قلوبنا، وننظر إلى الحلم باعتباره رفاهية لا نمتلكها، فنترك أنفسنا للحياة ترسل بنا حيث تشاء، وتفعل بنا ما تريد، وكثيرون منا تدعم ظروفهم الاجتماعية هذا النهج السلبي في الحياة، وعادة ما يساندهم في هذا مجموعة من القيم السلبية التي تسود بيننا، وتسيطر على عقولنا، وتجعلنا متواكلين، غير مقدمين على الحياة، غير راغبين في المبادرة والإقدام.

من بين هذه القيم السلبية: الإيمان بالحظ المطلق.. فإذا كنت تمتلك حظا جيدا ستتحقق، وتحصل على المكاسب المادية الكبيرة التي توفر لك رفاهية الحياة دون تعب أو عنت، ودون أن تمتلك أية مقومات للنجاح والترقي.. أما إذا عاندك الحظ.. فويل لك.. فنقعد منتظرين الحظ الجميل ليحل لنا مشكلاتنا، ويأتينا بما لا نستطيع الذهاب له. وثانيهما: الإيمان بالصدفة.. فقد تضعك الظروف في مكان وزمان يمنحك فرصة للترقي والنجاح ربما لا يمكنك الحصول عليها مهما ثابرت وبحثت واجتهدت.. ويجعلنا الإيمان بالحظ وبالصدفة نقعد منتظرين أن تأتينا الفرصة –صدفة- أو نسعى في الحياة بلا حماسة في العمل، أو رغبة في التعلم، في انتظار أن تأتينا الصدفة والحظ الجيد بفرصة تنتشلنا من الضياع وعدم التحقق، فتتعاظم أمانينا في الثراء السريع دون جهد، والتحقق بلا إمكانات .

ربما فعلا تأتينا فرصة نجاح وترق غير متوقعة (بالحظ وبالصدف) تنقلنا إلى عالم نظنه أفضل، وتحقق لنا مظاهر الرفاهية في الحياة.. وقد لا تأتي.. ومثل هذا الحدث مثل “اللوترية” أو “اليانصيب”.. تخيل أنه في صباح كل يوم، ومع طلعة شمس كل يوم جديد، يقوم مليون شخص (لديهم نفس رغبتي) بشراء ورقة يانصيب، متمنين أن يسعدهم الحظ وتأتيهم الصدفة بمكسب ينقل حياتهم من الشقاء إلى النعيم، ومن البؤس إلى الرفاهية والرخاء، وكل فترة من الوقت يحدث بالفعل ( مع الإيمان المطلق بأن القائمين على عملية الفرز وسحب اليانصيب، يتمتعون بالنزاهة والأمانة والشفافية المطلوبة ) أن يفوز أحدهم باليانصيب هذا.. ولكن لنراجع سويا عدد المشاركين لكي يتحقق الفوز لأحدهم.. إنه وبلا شك عدد ضخم “مليون فرد”، ومن ثم تصبح فرصتي “واحد في المليون”. ربما تعجبني الفكرة وأشارك على أمل أن أصبح هذا الواحد في المليون. ولكن ماذا لو لم تأت؟! 

هل فكرت يوما لما لا تجرب أن تقوم بفعل آخر يجعل فرصة نجاحك واحد في المئة عوضا عن واحد في المليون! لما لا تجرب أن تقوم بفعل آخر، يحطم سكون الانتظار، ويدفعك خطوات للأمام، تجعلك تقترب من تحقيق ما تريد.. وفي الوقت نفسه يجعلك تستمتع بعملية الحركة والفعل بديلا عن الثبات والانتظار. 

ولكن.. عليك أن تعلم.. أنك في هذه الحالة ستتخلى عن الإيمان بكل من الحظ والصدفة، كي تتبنى قيما أخرى مثل: احترام قيمة العمل والإتقان، احترام قيمة الوقت والالتزام، القدرة على تنظيم حياتك والاجتهاد، واجب السعي من أجل تطوير مهاراتك وقدراتك والمبادرة، التقدم ببطء وروية في خطواتك نحو التحقق والنجاح والمثابرة.  يمكنك أن تعي ذاتك عندما تستطيع أن تنظر إلى نفسك بهدوء وموضوعية، وأن تفحص وتحلل الشخص الماثل أمامك، الذي هو في الواقع “أنت” بكل عيوبك ومناط تميزك. حيث تلعب تنمية وعيك الذاتي دورًا كبيرًا في خلق تأثير إيجابي على الآخرين،  وهو  الأمر الذي يفسر تنمية الوعي الذاتي. وعبر وعيك بذاتك تستطيع (على سبيل المثال)  أن تدرك ما الذي تريد أن تقوله! وما إذا كان لديك بالفعل ما تود أن تقوله،  كما أنك تصبح أكثر رغبة في الاستماع لما يراه الآخرين عنك، أو عن رؤيتك، أو عملك الذي تقدمه، وتستطيع أن تتعامل مع النقد،  وتميل إلى تلقي هذه الرؤية بوصفها تعليقات على ما تقوم به، وليس على شخصك.

إن وعيك بذاتك يحدد مدى التأثير الذي تتركه على الآخرين، وقدرتك على أن تترك أثرا،  لأنك في هذه الحالة تكون قادرا على التعرف على نقاط قوتك الشخصية، وتحد من فاعلية نقاط ضعفك.  كما تبدأ في رؤية الكيفية التي يؤثر به سلوكك على الآخرين،  وتدرك الأسلوب الذييستجيبون به إليك. إن ما هو أهم من كل ذلك،  أن وعيك الذاتي يجعلك قادرًا على الحديث بانفتاح ودقة حول مشاعرك.

فارق كبير ومزعج بين “وهم الثراء” عن طريق الفوز باليانصيب وأنت جالس بلا فعل، تنتظر قفزة هائلة من حالة الفقر والبؤس إلى حالة الثراء، بسرعة رهيبة ( وربما يتحقق هذا بالفعل.. وقد لا يتحقق ) وبين كد، ومثابرة، وعمل، من أجل تحقيق تقدم معلوم ومرصود ولكنه بطئ وممتع. 

لقد حلمت

لكن.. وقبل أن تقرر.. عليك أن تدرك أن قدرتك على تحقيق المهام والأدوار التي تؤديها في الحياة، ترتبط بوضوح الرؤية، وأن تتعرف على ضرورة كل مهمة مرحلية أقوم بها، ولماذا أقوم بها، وعلى كل دور ألعبه في الحياة، وما أهميته بالنسبة لك! ولكي تحقق هذا، يجب أن يصبح لحياتك معنى واضح، ولكي يكون لحياتك معنى واضح، يجب أن تحلم، حلما يشمل حياتك كلها، حاضرها ومستقبلها، يربط كل المتفرقات التي تقوم بها، ويعطي لكل فعل معنى بجوار الفعل الآخر، فتترابط حياتك، وتتعرف على مفرداتها، وتتمكن من تحقيق ما تريده، وتمتلك المبررات المقنعة لما تقوم به من أفعال، أو تضطر لإنجازه من مهام وأدوار، اعلم جيدا أن الانتظار يحرمك من ممارسة حياتك حتى يأتيك الحظ بصدفة تحقق لك ما تتمناه.. يضعف قواك.. يحد من قدرتك على مواجهة تحديات الحياة.. بينما التحرك والفعل.. إمكان الفشل والنجاح.. أن تدرك أن الوقوع في الخطأ تلو الخطأ يدفعك إلى اكتشاف ذاتك. يعلي من قواك، ويطور من قدراتك، يجعلك متأهبا لمواجهة التحديات، والوقوف في وجه مصاعب الحياة وأزماتها، يمنحك متعة المحاولة، يمنحك سعادة تحقيق النجاحات البسيطة، ويعطي لحياتك طعما ويهبها المعنى، كي تعرف أن القضاء على مخاطر الحياة يعني القضاء على فرحة النجاة، وأن الوصول إلى عالم أفضل بلا عنت وكد يفقدني فرحة قطف زهرة السلامة والإنجاز من بين أشواك الخطر، فالعالم الذي يخلو من الكفاح هو عالم يخلو من متعة التحقق والنجاح.