أحب ديسمبر مع رياحه الشتوية الباردة تهب عليَ نسائم الماضي، كنت طفلة صغيرة تزين بيديها شجرة الميلاد، تعلق مع زملائها شجرًا وأجراسًا وهدايا في الفصل ثم تنتظر صباح الرابع والعشرين من ديسمبر. بابا نويل يزور الفصول كلها في مدرستنا الإنجيلية الشهيرة، نلتقط معه الصور ونأكل ونلعب ونكسر روتين مدرستنا الصارمة.

أحب ديسمبر، أسمع فيه آلام حبل العذراء قبل أن تضع مسيحها “نور أشرق في الظلمة للمستقيمين”. نوقف احتفالاتنا مؤقتًا حتى يأتينا يناير، كنيستنا المصرية تحتفل بالتقويم الشرقي في السابع منه. يومان مشهودان تظلم فيهما مدينتنا في الصعيد وتكتفي بنور المسيح يشرق على فجرها. تغلق المحال أبوابها ويعم سكون تقطعه دقات أجراس القداس في التاسعة مساء السادس من يناير.

نسمع لهاث جيراننا نحو القداس، نشم عطورهم على السلم ممتزجة بروائح إفطار العيد، ها هي روائح اللحوم تعود لبنايتنا بعد شهر من صوم لا نشم فيه إلا روائح الطعمية والبطاطس المقلية بينما ترانيم كيهك تقطع الصمت تمدح في العذراء وابنها المسيح وكأنها موسيقى تصويرية لآلام حبل العذراء وصبرها وقلقها، “سباني حبك يا مريم يا فخر الرتب، القناديل فضة بتضوي والصلبان دهب، مدحي في البتول زاد قلبي فرح”.

تمر أعوام كثيرة ولا أغادر طفولتي، أعمل بالصحافة ولا أنسى نسائم ديسمبر وروائح يناير وكأنها حفرًا في وجداني. في 2015 تعهد إليَ صحيفتي بتغطية الملف القبطي، كمن يمنحني مفتاحًا للكنز، كنا في يونيو حيث فاتتني روائح الميلاد في يناير وشجن القيامة في أبريل.

ثم يأتي عام 2016، عام لا تنساه الكنيسة ولا يغفله التاريخ، ففي نهايته تنفجر الكنيسة البطرسية وتحديدًا في الـحادي عشر من ديسمبر. هذا ليس عهدي بديسمبر، لم أعرف فيه فقدًا ولم أذق فيه موتًا.

انفجار الكنيسة المرقسية بالعباسية

كنت من أوائل من وصلوا إلى الكنيسة الجريحة، حتى إنني رأيت جزء منها ينشطر بعيني بينما أحاول النزول من الكوبري تجاه الكاتدرائية، صرخت ونزلت من التاكسي جريًا على الكوبري وقد سقط حذائي، انتبهت بعدها وعدت فوضعته في جيب الجاكيت، كان مشهد الأشلاء على الأرض وصوت صراخ الأمهات “تروما” ستلازمني طويلًا.

لم أنتبه إلا حين وجدت نفسي في مستشفى دار الشفاء المقابلة بين الشهداء والمصابين، لم أستطع أن أكتب سطرًا واحدًا عن تلك الفجيعة طوال ست ساعات، وهو أمر غريب عليَ، بينما كان زملائي في صالة التحرير يلاحقونني بالاتصالات لمتابعة الموقف كنت أبكي وأفقد قدرتي على التنفس حتى قابلت صديقي مايكل فيكتور فقرر أن يصطحبني بسيارته إلى صحيفتي.

كان هذا أقسى ديسمبر عرفته في حياتي، حضرت جنازات الشهداء كلها، وبكيت في كل مرة رأيت فيها صندوقًا أو سمعت فيها صراخ أم مكلومة، كنت أشعر بذنب لا أعرف له مصدرًا، شعور يتجدد كلما كتبت عنها أو مررت أمامها.

في ليلة رأس السنة من العام نفسه، انتهت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة من ترميمها وكان عليّ أن أحضر أول قداس فيها، بكيت مرة أخرى وارتعشت أصابعي وأنا أرى الدماء وقد طليت دهانًا بينما جلست جواري الدكتورة نرمين أم الشهيدة الطفلة ماجي مؤمن وقد كانت كعادتها تنظر إلى السماء تفتح حوارًا مع الملائكة.

في يناير جاء عيد الميلاد في موعده، ولكنه كان عيدًا قاسيًا محملًا بالفقد وبأرواح الشهداء تطوف حولنا في كل اتجاه، لقد كان هذا آخر قداس في كاتدرائية العباسية. كان صوت المعلم إبراهيم عياد معلم الكاتدرائية الشهير مختنقًا بالشجن حتى إذا جاءت لحظة لحن الميلاد “نجم أشرق في المشارق والمجوس تبعوه حتى أدخلهم بيت لحم وسجدوا لملك الدهور.. هلليلويا، هلليلويا، هلليلويا، هلليلويا، يسوع المسيح ابن الله ولد في بيت لحم”.

نزل لحن الميلاد العذب بردًا وسلامًا على صدور المُصلين، فانطلقت الزغاريد تعم الكاتدرائية تُبدل مشاعر الفقد فرحًا وتبعث أملًا فيمن أودعوا شهدائهم في السماء عند المسيح هناك.

يشكّل القداس القبطي حالة مصرية خاصة واستثنائية، فهو الطقس الذي تعيشه بكل حواسك، روائح البخور تنبعث في سماء الكاتدرائية ويرسم دخانها صلبانًا في الهواء تجاور الأيقونات المعلقة، لحن القداس المصري الخالص بلغته القبطية يعتمد الحنجرة دون إيقاعات، وحين تطفئ الأنوار تشعر وكأنك تنتظر نور المسيح ليشق العالم بفجر جديد.

حافظت الكنيسة القبطية على ألحان قداسها، وطقوسها آلاف السنين، نقلتها من جيل إلى جيل وكأنها حارسة على التراث الذي بناه آبائها بدمائهم وتضحياتهم وصلواتهم في الكهوف والجبال والصحاري.

ليس هناك في مصر اليوم أقدم من الكنيسة، أثر حي بلحنه القوي ومدرسته اللاهوتية العريقة، في مصر آثار فرعونية وأخرى يونانية وثالثة إسلامية، ولكنها آثار متحفية للدرس والتعليم، أما الكنيسة فللعيش والتأثير.

في السنوات التالية، ستنتقل القداسات إلى كنيسة العاصمة الإدارية الفخمة، وسأذهب كعادتي لأعيش القداس القبطي بروحي وقلبي كفتاة مسلمة لم تشعر بالغربة يومًا بين الأقباط فصار السؤال عن هويتي الدينية مُلحًا، بينما لا أستطيع حتى اليوم أن أُقدم إجابة أُحادية عن تلك الهوية. أحب التعددية وأؤمن بها لأنها صنعتني طفلة تنتظر الكريسماس ومدائح العذراء، وشابة تحمل قلمها تدون به واقع الأقباط في رحلة دائمة أقطعها بروحي نحو الكنيسة.