لا يحمل التوصيف أي مبالغة إذا ما اعتبرنا التهديد الذي تمثله “قضايا التحكيم الدولي” أكثر ضررًا على الاقتصاد المصري من الحروب نفسها. وذلك بالنظر إلى إجمالي التعويضات التي دفعتها مصر خلال العقد الأخير فقط. وسجلت أكثر من 74 مليار جنيه.
قبل أيام، سربت شركة ماليكورب البريطانية معلومات عن عزمها رفع قضية تحكيم دولي ضد وزارة الطيران المدني. وذلك للمطالبة بمبلغ 100 مليون دولار. فضلاً عن فوائد متأخرة منذ ١٦ عامًا، بعد فسخ التعاقد معها على إنشاء مطار رأس سدر.
بعيدًا عن تفاصيل القضية التي امتدت لعقدين بعد فوز الشركة البريطانية بمناقصة عالمية لمشروع إنشاء وإدارة وصيانة وإعادة مطار رأس سدر بنظام الشراكة. قبل أن يتم فسخ التعاقد معها. فإن تساؤلات تدور حول أسباب خسارة مصر دعاوى التحكيم، وعدم دراسة المشروعات جيدًا قبل التعاقد عليها.
التحكيم في أزمة موبكو
اضطرت الحكومة المصرية أن تدفع تعويضًا غير مباشر. وذلك بنقل ملكية أسهم أجريوم الكندية فى الشركة المصرية لمنتجات النيتروجينية التابعة لشركة مصر لإنتاج الأسمدة “موبكو”، ضمن إطار تسوية نزاع التحكيم الدولي بينهما.
تضمنت التسوية شراء وزارة المالية أسهم أجريوم الكندية البالغ عددها (59،5 مليون سهم)، دون ترتيب التزامات مالية علي الشركة المصرية. مع تنازل كندا عن كل دعاوى التحكيم الدولي ضد الحكومة المصرية وشركة موبكو.
غطت وزارة المالية والبورصة المصرية جزءًا من تفاصيل الصفقة لسبب غير معروف يتعلق بسعر السهم الواحد. ما يمكن من خلاله تحديد إجمالي ما تم دفعه للشركة الكندية. لكن يمكن استشفاف ضخامة المبلغ الذي دفعته مصر من بيان أصدرته “أجريوم” الكندية. إذ قالت إنها ستتنازل عن دعاوي التحكيم، وأسهمها حال حصولها على مبلغ 540 مليون دولار.
تعود المشكلة لنهاية عام ٢٠١٨. حينها تم إخطار “أجريوم كندا” بإنهاء اتفاق الإنتاج والتسويق الموقع مع الشركة المصرية. فقامت الأولى برفع دعوى تحكيم أمام المحكمة الدولية التجارية بباريس. وطالبت بنحو 140 مليون دولار تعويض عن الإخلال بالاتفاق.
عزت الشركة المصرية للمنتجات النيتروجينية إلغاء الاتفاق إلى عدم اكتمال الرصيف البحري بميناء دمياط. الأمر الذي أدخل الحكومة طرفًا في مشكلة بالإخلال بجزئها من الاتفاق. ذلك دفع وزارة المالية لتحمل تبعاته.
قضايا التحكيم.. لماذا احتلت مصر المرتبة 149؟
يرجع خبراء قانون احتلال مصر المرتبة 149 من 189 دولة على العالم في قضايا التحكيم الدولي، إلى عدم فهم الإدارات المتوسطة القانون جيدًا حينما تبرم تعاقداتها.
ووفق الأكاديمية الدولية للوساطة والتحكيم، فإن عدد طلبات التحكيم المقدمة إلى غرفة التجارة الدولية بباريس المتعلقة بمصر بلغ أكثر من 100 طلب سنويًا، بينما ترجع الأكاديمية ضخامة هذا العدد إلى نقص الكوادر البشرية والخبرات القانونية اللازمة لمواكبة المتغيرات العالمية في مختلف القطاعات القانونية. خاصة التي تهتم بالقضايا الاستثمارية والاقتصادية مع الشركات العالمية وبين الحكومات وهيئاتها المختلفة.
ويمثل التحكيم الدولي شرطًا يضعه المتعاقدون عند التنازع، ما يمكنهم من اللجوء إلى هيئة تحكيم يتفقون عليها بدلاً من اللجوء للقضاء العادي لحل النزاع والإبقاء على السرية ويهدف تشجيع الاستثمار. وأغلبهم يستندون لاتفافية المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية” “إكسيد” التي تنص على أن موافقة الطرفين على التحكيم طبقًا لهذه الاتفاقية تعني اتفاقهما على استبعاد سائر سبل تسوية النزاع الأخرى.
و”الإكسيد” مؤسسة تابعة للبنك الدولي تأسست عام 1966، وتسعى إلى تسوية الخلافات المتعلقة بالاستثمار بين المستثمرين الأجانب والبلدان المستقبلة لاستثماراتهم، وقد انسحبت منها دول كما لم تنضم لها دول أخرى، أهمها البرازيل والهند وإيران والعراق وليبيا.
وضع المستثمرون الأجانب قبل ٢٠١١ اشتراطات ثابتة تتيح لهم اللجوء لمراكز التحكيم الأجنبية، التي خسرت مصر عبرها معظم القضايا. وذلك بسبب أخطاء في إبرام الاتفاقيات من الأساس، وليس لعيب في هيئة قضايا الدولة.
نجحت هيئة قضايا الدولية في كسب 11 قضية للمنازعات الخارجية والتحكيم الدولي خلال 17 عامًا. أخر تلك القضايا دعوى لشركة تشامبيون هولدينج الأمريكية، جنب الخزانة العامة 7.8 مليار جنيه مصري. وقد تمكنت الهيئة خلال 7 سنوات مضت من تجنب خسارة ما يعادل 6 مليارات و183 مليون دولار. إلى جانب 174 مليون يورو، ومليارين و400 ملايين جنيه، تمثل جميعها قيمة مطالبات المستثمرين في منازعات هذه الفترة.
أخطاء الماضي وضرورة المعالجة
كانت السنوات الخمس التي تلت ثورة يناير أكثر الفترات التي تحركت فيها دعاوى تحكيم ضد مصر. حينها تم تحريك 19 دعوى ضد الحكومة المصرية، أغلبها بسبب أحكام قضائية ضد عقود شابها فساد ما قبل الثورة.
يقول الدكتور محمد الشيمي، الخبير المصرفي والمستشار بالمحاكم الاقتصادية، إن الحكومة الحالية لا تتحمل أخطاء الماضي، ويضيف أنها نجحت في حل المشكلات التي أحدثتها السياسات السابقة دون الوصول للتحكيم.
ويشير الشيمي، في تصريحاته لـ”مصر 360″، إلى مشكلات في التطبيق تحدث في ظل تغير القرارات. فضلاً عن تضارب القوانين وما تؤدي إلىه من اختلاف في وجهات نظر، تعتبرها الجهات الأجنبية محل تناقض. لذلك يؤكد ضرورة الاحتكام لمعايير أخرى تقيم بها قضايا التحكيم الخاصة بمصر. على أن تناقش هذه المعايير عدد الدعاوى التي كسبتها مصر من إجمالي الدعاوى المرفوعة ضدها؛ لوضع سلسلة زمنية تربطها بسياقاتها.
ويطالب الخبراء بأن تضع مصر نصًا في الاتفاقات الاستثمارية يجعل الاختصاص في النزاع لمركز القاهرة الإقليمي للتحكيم بدلاً من المراكز الدولية. هذا إلى جانب اختيار المحكمين من أصحاب الكفاءة والدراية الكافية. على أن يتم تدريب الإدارات المختصة على أحدث مستجدات إدارة العقود والمطالبات التعاقدية.
وتشير الدكتورة بسنت فهمي، الخبيرة الاقتصادية، إلى بعد أخر في مشكلة التحكيم يتعلق بتغير الظروف الاقتصادية التي تؤدي إلى صعوبة تحقيق الاتفاقيات التي أقرتها جهات حكومية. وتلفت إلى ضرورة تحقيق التوازن بين حماية الاستثمار والصالح العام والتنمية المستدامة.
وتشير في تصريحاتها، لـ”مصر 360″، إلى مشكلة العمالة؛ إذ أن كثير من المستثمرين يرفضون وجود العامل المصري لانخفاض مستوى تدريبه ويرغبون في عمالة من شرق آسيا. وهو ما يرفضه المفاوض المصري، ويصب في الأخير في شكل الاتفاق المبرم. موضحة أن الحكومة الحالية تسعى لحل كل مشكلات المستثمرين قبل وصولها للتحكيم.
ويطلب خبراء بأن تتضمن تعاقدات الدولة تعقيد شروط اللجوء للتحكيم الدولي حتى لا يكون الخيار الأول للمستثمر والتفكير في استبداله بمحكمة دولية دائمة لتسوية المنازعات.