توقيع الإتفاق الإبراهيمي بين إسرائيل والسودان هو نقطة تطور جديدة وناجحة لإسرائيل في أفريقيا. وهي خطوة كللت بنجاح لا يعود فقط إلى الضغط الأمريكي علي السودان وربط رفع اسمه من على قائمة الدول الراعية للإرهاب. لكنه أيضًا يعود إلى وجود إسرائيلي مؤثر في أنحاء أفريقيا. وذلك بفضل جهد إسرائيلي متواصل في القارة، لم ينقطع أبدًا. حيث تم تحديد الآفاق الاستراتيجية لهذه العلاقة حتى قبل قيام دولة إسرائيل في فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨.

يمكن القول إن العلاقات الإسرائيلية تملك عمقًا تاريخيًا تأسس على المحاولات المبكرة لإيجاد وطن قومى لليهود في أوغندا. وأيضًا على روابط ثقافية وديمغرافية. فضلاً عن توظيف مداخل متعددة لتأسيس علاقة إسرائيلية متميزة بالأفارقة. حافظت على استمراريتها، كما استفادت من تراكماتها التاريخية. وقد نجحت إسرائيل نجاحًا كبيرًا في توظيف كل المداخل الممكنة بشكل صحيح. وذلك في أطر الاستراتيجيات العامة لدولة إسرائيل، بحيث تشكل أفريقيا في الوقت الراهن أحد أركان الاستراتيجيات الإسرائيلية في العصر الحديث.

وبطبيعة الحال فقد تفاعلت طبيعة دولة إسرائيل الناشئة في محيط معاد تعتمد على الاستيطان كآلية للاستمرار والتوسع. مع المعطيات الأفريقية الجيوسياسية، ليتم وضع الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية  طبقًا لعدد من المحددات. هذه المحددات تشمل أولاً: تحجيم وتحييد القدرات العربية في إطار الصراع العربى الإسرائيلي، بما ينطوي عليه من مهددات أساسية لوجود الدولة الإسرائيلية ذاتها. ثانيًا: دعم  متطلبات الأمن المائي الإسرائيلي، التي تعد عماد استمرار الدولة وتوسعها. ثالثًا: حرية الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، كأحد المعطيات المحلية للأمن الإسرائيلي، بما يشمله من توفير المتطلبات العسكرية والاقتصادية لدولة إسرائيل. رابعًا: دعم العلاقات السياسية مع الدول الأفريقية، بما تمثله من كتلة تصويتية كبيرة في المحافل الدولية. وهي التي تصل حاليًا إلى 54 دولة. وأخيرًا محاربة ومحاصرة قوى الإسلام السياسيى والاتجاهات القومية الإيدلوجية، التي يعادي بعضها إسرائيل. وتعتبر أن الصراع العربى الإسرائيلي صراعًا للوجود وليس للحدود فقط.

اقرأ أيضًا: السودان على طريق العلمانية.. اتفاق مبادئ يقرّ فصل الدين عن الدولة

وقد سجلت أفريقيا أول حضور لها فى الفكر السياسيى الصهيوني عام 1903مع عقد مؤتمر بازل فى سويسرا. وطرحت فيه فكرة إقامة وطن قومى لليهود فى أحد المستعمرات البريطانية بديلاً عن فلسطين، إذا تعقدت الأمور السياسية فيها بشأن استيطان اليهود. وقد تم اقتراح أوغندا في هذا السياق من جانب السير جوزيف تشمبرلن. وبالفعل تم تكوين لجنة لدراسة المقترح. وقد حاز هذا المقترح على درجة عالية من الجدل فى الأوساط اليهودية بين اتجاهين؛ أحدهما لليهود الشرقيين “الحريديم” تحديدًا الذين اعتبروا ذلك بمثابة تخلي عن المعتقدات الدينية الصحيحة وتفريطًا فى أرض التوارة (فلسطين). بينما اعتبره اليهود الروس مخرجًا من حالة الأزمة اليهودية فى أوروبا. لاسيما أن مذابح كشينييف، التى راح ضحيتها عدد من اليهود الروس كانت ماثلة في الأذهان. وهي التي جرت في نفس العام.

استطاع هرتزل حسم الموقف لصالح فكرة استيطان أوغندا. وقام الحاخام الصهيونى الروسي راينس بعملية التوفيق النظري بين فكرتي التعاليم التوراتية والفكرة القومية الصهيونية، التي دشنها هرتزل. وذلك بين الفريقين العلماني والديني  اليهودين.

بالتوازي مع ظهور فكرة الوطن القومي اليهود هربًا من الاضطهاد الأوروبي ظهرت أيضًا فكرة عودة السود الأفارقة هربًا من الاضطهاد فى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أسس فكرة عودة السود إلى أفريقيا  سياسيًا ماركوس جارفي (1878-1940). حيث لقي هذا الطرح دعمًا من المفكرين الأوربيين الصهاينة. فى هذا السياق أسس جارفي شركته البحرية بمشاركة أحد اليهود الأوربيين. واتخذت الشركة نجمة داود السوداء التى تجوب الأطلنطي رمزًا لها. حيث تلاقي الأفارقة واليهود عند فكرة مؤسسة، وهي الاضهاد المشترك. ونجح المفكرون الصهاينة في تدشين روابط بين نشأة دولتي إسرائيل وليبيريا بعودة كل من اليهود والأفارقة من أوربا وأمريكا.

في هذا السياق، شكلت إثيوبيا رأس الرمح الإسرائيلي فى منطقة القرن الإفريقي، فامتلكت معها أقدم العلاقات بدول القرن الإفريقي. حيث دشنت إسرائيل أساطير مشتركة على خلفية توارتية بين اليهود والإثيوبيين وزعمت أن الأمبرطور الإثيوبى ملينك تجرى فى عروقه دماءً يهودية. طبقًا لذلك فقد نصب الأمبرطور هيلاسلاسى نفسه أسدًا ليهوذا. وهو الرمز المنتشر فى العاصمة أديس أبابا.

وتعد قبيلة الفلاشا الأثيوبية اليهودية القبيلة الثالثة عشر فى التاريخ اليهودي. وقد اعتمد هذه المقولة متحف تاريخ الإنسانية بالعاصمة الأمريكية واشنطن. ودشن جناحًا خاصًا لإثيوبيا معتمدًا على هذه الرواية. وذلك على الرغم مما يشوب هذا الاعتقاد من أساطير غير واقعية. حيث يعتبر بعض علماء الإنثربولوجيا الغربيين “الفلاشا مسيحين دخلت عليهم عناصر يهودية”.

وتوجت إسرائيل هذه المجهودات التاريخية بمشروع الأخدود الأفريقي العظيم الذي طرحته رسميًا فى يونيو 2002 أمام لجنة التراث العالمي باليونيسكو. وهو مشروع يهدف في ظاهره إلى التعاون الثقافي بين الدول التي تشكل الأخدود الممتد من وادي الأردن حتى جنوب أفريقيا. حيث أحاطت إسرائيل هذا المشروع بما تقول أنه تراث من الاضطهاد المشترك بين اليهود والأفارقة، وأنهم من ضحايا الاضطهاد والتمييز العنصري، وأشارت فى ذلك إلى أن كلا  العنصرين له ماضٍ مؤلم ممتد. ما يدفع إلى الاعتقاد بأن سياسة إسرائيل في أفريقيا تعد تطلعًا لا لحماية الشعب اليهودي فقط. بل لمساعدة الأفارقة (الزنوج) الذين تعرضوا للاضطهاد. خصوصًا مع مقولة تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية في كتابه وطن قومي إن لليهود والأفارقة تاريخ مشترك من الاضطهاد. وذلك كمدخل للأفارقة حين طرح أوغندا ضمن خياراته التي تفاوض عليها لإنشاء الوطن القومي اليهودي.

جدير بالذكر أيضًا أن أفريقيا تحتضن بين ظهرانيها جاليات يهودية متفاوتة الأحجام ومتباينة القوة والتأثير. ففي شمال أفريقيا جماعات من اليهود السفارديم الذين قدموا بالأساس من إسبانيا والبرتغال خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر. أضف إلى ذلك فقد قدمت إلى أفريقيا جماعات من اليهود الإشكيناز من شمال وشرق أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وإذا كان حجم هذه الجاليات، خارج جمهورية جنوب أفريقيا، هو جد متواضع إلا أن وضعها الاقتصادي في بعض دول القرن الإفريقى مثل كينيا يتسم بالقوة والتأثير.

وبالمقابل، فإن الجالية اليهودية في جنوب أفريقيا تعد واحدة من أغنى الجاليات اليهودية في العالم. وطبقًا لأحد التقديرات فإن مساهمة يهود أفريقيا في خزانة “الدولة العبرية” تأتي في المرتبة الثانية بعد مساهمة يهود الولايات المتحدة. بيد أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم كل من الجاليتين فإننا نلاحظ أن تبرعات يهود جنوب أفريقيا بالنسبة إلى كل شخص تفوق في بعض السنوات تبرعات اليهود الأمريكيين.

وبطبيعة الحال كان لابد وأن تستفيد إسرائيل من كل هذه المعطيات والمعادلات المصنوعة بإحترافية لتحقيق مصالحها.

اقرأ أيضًا: من قائمة الإرهاب إلى المواجهة …”الآن يمكنكم دعم السودان”

في هذا السياق، يمكن رصد بلورة اليهود قبيل إعلان دولتهم فى الثلاثينات والأربعينات رؤية مفادها أن الأقليات غير العربية على الأراض العربية “تمثل حليفًا طبيعيًا لإسرائيل”. وقد طور ديفيد بن جوريون رئيس الوزاء الأسبق هذه الرؤية فى مطلع  الخمسينيات من القرن الماضي فى إطار لجنة مكونة من إسرائيل جاليلي ايجينال واوين، موشيه ساسون، وروبين شيلوح، وجولدا مائير ليضع الاستراتيجيات الإسرائيلية في إزاء الوطن العربي. وقد لخص بن جوريون توجهات التقرير الصادرعن هذه المجموعة بعبارة أصبحت عقيدة إسرائيلية ممتدة ومفادها إن إسرائيل شعب صغير بإمكانات وموارد محدودة. ولإحراز التقدم الإسرائيلي المطلوب على الدول العربية لابد من اكتشاف نقاط ضعفها وتحويلها إلى معضلات. مشيرًا في هذا السياق إلى طبيعة العلاقات الإثنية والطائفية المتضمنة داخل الحدود العربية وضرورة توظيفها.

وطورت إسرائيل استراتيجية بن جوريون اعتبارًا من التسعينيات. كما يقول موشى فيرجى العميد السابق في جهاز الموساد الإسرائيلى، على يد فريق من الخبراء العاملين فى مناطق المحيط العربي منهم أورى لوبرانى سفير إسرائيل فى كل من تركيا وإيران وأثيوبيا ويهوديت رؤتين المتخصصة في السودان وشرق أفريقيا وقد عقد هذا الفريق إجتماعات مكثفة على مدى ثلاث أشهر حيث طورت هذه الاستراتيجية خط بن جوريون من خلق الأزمات داخل الدول العربية لتحجيم عناصر القوة لدى العرب إلى دفع الجماعات الإثنية الموجودة على التخوم العربية الى الانسلاخ والانفصال وإقامة كياناتهم الإثنية المستقلة، وأيضًا التعامل مع الأقليات بكافة أنواعها داخل البلاد العربية مثل شيعة الخليج أقباط مصر مارون لبنان. وهكذا وقد حقق تطبيق هذا التجديد الإسرائيلى نجاحًا كاملاً في الحالة السودانية بفصل جنوب السودان وميلاد دولته الجديدة في يوليو  2011. فضلاً عن وجود إمكانات جدية لمزيد من الشرذمة للدولة السودانية بوجود معضلتى دارفور وشرق السودان. على أنه من الضرورى الإشارة هنا أن المخططات الإسرائلية لم تكن لتنجح الإ نتيجة فشل العرب في نسج علاقات إفريقية عربية ناجحة تملك مقومات طبيعية وغير مصنوعة منها ما هو جيوسياسي مستند علي وجود دول عربية في أفريقية. ومنها ما هو ديمغرافي مستند إلى وجود ٣٠٠ مليون عربي في أفريقيا، ومنها ما هو ديني وثقافي مستند على الإسلام.

من هنا، يكون طبيعي أن تفوز إسرائيل بـالسودان درة التاج الأفريقي، والمؤثرة استراتيجيًا على مصر. ولعل هذا التطور يكون اختبار للقدرات المصرية في مواجهة هذا التحدي الاستراتيجي المستجد.