“الحبس الاحتياطى إجراء بالغ المساس بالحرية الشخصية، وقد كان له ماضٍ ملوث شهد إساءة استخدامه فى كثير من الدول، خاصة فى النظم التسلطية التى تتفوق فيها حقوق السلطة على حقوق الفرد، فبمقتضى هذا الإجراء يُودع المتهم فى السجن خلال فترة التحقيق كلها أو بعضها، ويتعرض لانتهاك كرامته الانسانية التى كان يتمتع بها إبان كان طليق السراح، وهو ما يحتم التدقيق فى مراعاة درجة التناسب بين آلام الحبس الاحتياطى ومصلحة المجتمع”.

هكذا وصفه الدكتور أحمد فتحى سرور فى تقديمه لكتاب المستشار سرى صيام عن “الحبس الاحتياطى فى التشريع المصرى فى ظل الضمانات المستحدثة بالقانون 145 لسنة 2006- صفحة 8″، فالحبس الاحتياطي من أخطر الإجراءات الجنائية التي تتخذ قبل المتهم في مرحلتي التحقيق والمحاكمة لما يترتب عليه من مساس مباشر بحق الإنـسان في الحرية وفى التنقل الذين كفلهما الدستور، لذلك ليس غريباً على كل المشتغلين بالقانون أن يبحثوا عن الحدود التى تتم فيها ممارسة الحرية الشخصية، ومدى التوازن الذى حققه المشرع بين كل من مبدأ الأصل فى المتهم البراءة، والحق فى الحرية الشخصية من ناحية، ومقتضيات مصلحة التحقيق وحماية أمن المجتمع من ناحية أخرى، وذلك فى إطار ضمانات مهمة رسمها الدستور والقانون للتعبير عن جوهر الحق فى الحرية الشخصية وأن الأصل فى المتهم البراءة.

وتعتبر حرية التنقل من أهم أوجه الحرية الشخصية، وقد حظيت بالحماية الدستورية فى كافة الوثائق الدستورية المصرية، كما تضمنها الإعلان العالمى لحقوق الانسان والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ويأتى المساس بحرية التنقل بإجراء القبض أو الحبس الاحتياطى وعندما تقتضى الضرورة ذلك الإجراء.

وآلام الحبس الاحتياطى -فى هذه الآونة- والتى يعانى منها آلاف المتهمين وأسرهم، وخاصة ذلك الذى تطول مدته لما يزيد على سنتين متجاوزا بذلك أقصى مدة نص عليها قانون الإجراءات الجنائية، طالما أن القضية ليست عائدة من محكمة النقض، وربما تطول المدة لما يزيد على ثلاث أو أربع سنوات بفعل تدوير المتهم على أكثر من قضية حيث يظل محبوساً احتياطيا على ذمة تحقيقات إحدى القضايا، وعندما يخلى سبيله، لا يطلق سراحه، ولكن يحبس احتياطياً من جديد على ذمة تحقيقات قضية جديدة.. وهكذا، لتتوه الضمانات الدستورية بشأن الحق فى الحرية والحق فى التنقل وسط غابة من الإجراءات التى تستتر خلف تلك التحقيقات والتى لا تشتمل فى أحيان كثيرة إلا على محضر تحريات فقط، وصفته محكمة النقض بأنه مجرد رأى يعبر عن صاحبة وليس دليل يمكن الاعتماد عليه لإدانة المتهم، ليضيع بذلك جوهر العدل والإنصاف فى خضم هذا الصراع الإجرائى والشكلى.

إن أى ضمانة دستورية أو قانونية لم تأت من رياح الصدف، ولا كانت جزء من عطايا الأكرمين أو منحهم، بل هى غرس من نضال ودماء وآلام الشعوب والضحايا، وثمرة كل من كابدوا من أجل رعايتها ونموها واشتداد عودها، لتستوى ركناً بازخاً ترتكز عليه مفترضات العدالة والإنصاف، فالتبصير بصحيح القانون، والغوص فى بحر التراث، وتجليه ما غمض من النصوص، ووضع قاعدة تطبيقية كحد أدنى لا يجوز النزول عنها، لم يكن يقف أبداً عند البحث عن إرادة من وضعوا النص فقط، ولا عند حدود تفسرات وقراءات من أُلقى على عاتقهم تطبيقه، لكنه بالأساس كان بحثاً فى مقتضيات الشرعية الجنائية وأصولها، بل وتطويع النصوص الإجرائية بما يحمى ويصون تلك الشرعية دعماً لحقوق الإنسان، وقد تناضل من أجل هذه الغايات كل المشتغلون بالقانون فى كل ربوع المعمورة، عبر سنوات وعقود وقرون من حياة البشرية.

ولم تكن مصر بحضارتها وعراقة شعبها بعيدة عن هذا العطاء الإنسانى، بل كانت أحد ركائزه، وحتى وإن مر عليها فى تاريخها فترات من الظلامية أوالشمولية أوالتسلطية أو الرجعية شأنها شأن غيرها من الدول، إلا أن نضال وتضحيات شعبها -قديماً وحديثاً- وبحثه عن الحق والخير والعدل والحرية كالشمس الساطعة لا ينكرها إلا الجاحدون.

ومصادر القواعد القانونية التى تطبق فى المحاكم لم ولن تقف عند النص المكتوب (التشريع)، فالنهوض برسالة العدالة المقدسة يستلزم دوماً تطبيق القانون بمفهومه الواسع سواء كانت القاعدة مكتوبة أو غير مكتوبة، فالقانون الطبيعى لا يعتبر نتاج عمل يصدر عن الدولة وأجهزتها، بل هو مجموعة من القيم السابقة فى وجودها على القواعد القانونية الوضعية، وهى قيم جوهرها العدل، وتعرضها أو تعلنها وثائق الحقوق، ولا تنشئها، وينظر إلى الإخلال بها باعتباره من صور الاضطهاد التى تجب مقاومتها[1]. وكان منطقيا أن تنظر كافة الوثائق الدستورية والحقوقية إلى الحقوق الطبيعية بوصفها حقوقاً لا تتقادم، ولا يجوز النزول عنها، وترقى فى أهميتها إلى حد تقديسها[2].

لذلك، فإن هؤلاء الذين صاغوا بأفكارهم ومنطقهم وعباراتهم الأسس والمبادئ التى تدعم العدل والحرية، فى أبحاثهم أو مذكرات دفاعهم وعرائض صحفهم أو حيثيات أحكامهم كان انطلاقا “لآفاق تكون بذاتها عاصماً من جموح السلطة أو انفلاتها، وبما يحدد للجماعة إطاراً لمصالح تصون بها مقوماتها”[3]، هم أكثر البشر علماً بأن النصوص لا تأتى من فراغ  ولا تتنزع مفاهيمها عنوة، ولا تتساقط من مكان مجهول، بل تمهد لها أفكار سابقة عليها، وتحرض على تبنيها، وتدعوا لها، سواء جاء ذلك علنا أو متسترا فى قوالب أخرى.

إن المعاناة من آلام الحبس الاحتياطى طويل المدة يجب أن يلتفت إليها المجتمع، كما يجب أن تلتفت إليها كافة مؤسسات العدالة ليتم وضع حدا لهذه المعاناة، وبما يساعد على خلق ضمانات حقيقية تحمى المجتمع من إساءة استخدامه، وتجعل من نصوص الدستور ومبادئه سياجا يحمى الحقوق والحريات، وتحول دون جعلها مجرد برواز تشريعى فاقد القيمة أو الصلاحية.

____________________

[1] ) راجع المستشار الدكتور عوض المر- الرقابة القضائية على دستورية القوانين فى ملامحها الرئيسية-صادر عن مركز رينيه جان دبوى للقانون والتنمية- ص 182

[2] ) مرجع سابق الدكتور عوض المر- ص 182

[3] ) راجع حكم المحكمة الدكتورية العليا رقم 23 لسنة 15 قضائية دستورية جلسة 5 فبراير 1994