انتهت آخر جولات مفاوضات سد النهضة الإثيوبي بين مصر والسودان وإثيوبيا بفشل جديد. بعد تجدد الخلاف على دور الخبراء والمراقبيين الممثلين عن الاتحاد الأفريقي -الراعي للمفاوضات- والبنك الدولي، ومدى كونهم أداة تسهيل للحوار وحسم الجدل حول أي من المسائل الفنية أو القانونية. وهي خلافات على قواعد إجرائية لكيفية الحوار، سبقتها خلافات أخرى حول عدة قضايا قانونية وفنية في جولات سابقة أديرت تحت مظلة الاتحاد الأفريقي.

في 10 يناير الجاري، اجتمع وزراء الخارجية والمياه من مصر والسودان وإثيوبيا في هذه الجولة من المفاوضات. وذلك برئاسة جنوب أفريقيا -بصفتها رئيس الدورة الحالية للاتحاد الأفريقي- حيث حاولت الأطراف الأربعة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بقواعد ملء وتشغيل سد النهضة. ذلك وفق توصيات هيئة مكتب الاتحاد الأفريقي، التي عقدت على مستوى القمة عدة مرات خلال عام 2020. إلا أن هذه أيضًا لم تسفر كما الجلسات السابقة عن حل ممكن.

بناءً على ذلك فمن المنتظر أن ترفع وزيرة الخارجية بجنوب أفريقيا -التي ترأست المفاوضات- تقريرًا شاملاً لرئيس جنوب أفريقيا. يكون الغرض منه تحديد الإجراءات الممكنة للتعامل مع هذا الخلاف بين الدول الثلاث. على أن يتم تقدير الموقف فيما يتعلق بإمكانية عودة الحوار مرة أخرى.

السودان يعرقل هذه الجولة

وزارة الخارجية المصرية أوضحت –في بيان صجفي– أن “السودان تمسك بضرورة تكليف الخبراء المُعينين من قبل مفوضية الاتحاد الأفريقي بطرح حلول للقضايا الخلافية وبلورة اتفاق سد النهضة”. وهو الطرح الذي تحفظت عليه كل من مصر وإثيوبيا. ذلك تأكيدًا على حق الدول الثلاثة في صياغة نصوص وأحكام اتفاق ملء وتشغيل السد. وأضاف البيان المصري أن “خبراء الاتحاد الأفريقي ليسوا من المتخصصين في المجالات الفنية والهندسية ذات الصلة بإدارة الموارد المائية وتشغيل السدود.

جانب من اجتماع المسؤولين المصريين في مفاوضات سد النهضة
جانب من اجتماع المسؤولين المصريين في مفاوضات سد النهضة

التشدد في الموقف السوداني

إذن، فإن الموقف السوداني كان الأكثر تشددًا في هذه الجولة من المفاوضات. وقد أعلن السودان اعتراضه على “ضياع” مزيد من الوقت. خاصة بعد “الخطاب الاستفزازي” لوزير المياه والطاقة الإثيوبي للاتحاد الأفريقي قبيل بدء الاجتماع السداسي. حيث أكد عزم بلاده على الاستمرار في ملء السد للعام الثاني في يوليو المقبل، وبمقدار 13.5 مليار متر مكعب. بغض النظر عن التوصل لاتفاق أو عدم تحقق ذلك. مؤكدًا أن بلاده ليست ملزمة بالإخطار المسبق لدول المصب بإجراءات الملء والتشغيل وتبادل البيانات حولها.

هذا الأمر، دفع يوزير الموارد المائية السوداني ياسر عباس، أن يصرح لوكالة الأنباء السودانية عقب انتهاء الاجتماع بضرورة تغيير منهجية التفاوض. إذ قال: “طالبنا بتوسيع دور الخبراء للحد الذي يمكنهم من لعب دور أساسي في تسهيل التفاوض”. ويرى الوزير السوداني أنه “لا يمكن الاستمرار في هذه الحلقة المفرغة من المباحثات الدائرية إلى ما لا نهاية بالنظر لما يمثله سد النهضة من تهديد مباشر لخزان الروصيرص”.

والروصيرص خزان سوداني تبلغ سعته التخزينيه أقل من 10% من سعة سد النهضة. وتقول السودان إنه إذا تم الملء والتشغيل دون اتفاق وتبادل يومي للبيانات، فإن هذا سيضر بخزانها.

من المباركة إلى التوتر وتصعيد الخلاف

تغير الموقف السوداني بشأن المفاوضات يأتي بعد سنوات ساندت باركت فيها الخرطوم فكرة إنشاء السد وقللت أو تغافلت عن آثاره السلبية على الأمن المائي السوداني. وفي بعض الأحيان الحكم على السد الإثيوبي باعتباره ذي فوائد عديدة للسودان، في مقدمتها حماية السدود السودانية من الطمي وغيرها من الفوائد في تنظيم جريان المياه طوال العام. لكن هذه المغازلات سرعان مع انتهت وتحولت خصوصًا في الموقف الفني بالتأكيد على العديد من الأضرار إذا ما استمرت إثيوبيا في التصرفات الأحادية.

هذا التغير في المواقف الفنية في السودان فيما يتعلق بسد النهضة جاءت مصاحبة لحالة التوتر القائمة حاليًا بين الخرطوم وأديس أبابا بسبب النزاع الحدودي شرق السودان في منطقة الفشقة. وهي المنطقة التي استولت عليها ميليشات الامهرة الأثيوبية لسنوات طويلة واستردها السودان مؤخرًا. ما ينذر بحرب مباشرة بين الدولتين، بعد تحرك الجيش السوداني للحدود ووجود مشاهدات لتحركات من الجيش النظامي الإثيوبي.

اقرأ أيضًا: سد النهضة: من الدعم إلى المعارضة ومخاوف الجفاف.. تحولات الموقف السوداني

على عكس اللهجة المتشددة التي بدأت بها إثيوبيا هذه الجولة من المفاوضات في 3 يناير. ذلك بالتأكيد على عدم الموافقة على أي اتفاق يحرم إثيوبيا من استخدام مياه النيل الأزرق. فضلاً عن الخطاب الذي أرسله وزير المياه الإثيوبي لرئاسة الاتحاد الأفريقي بأن بلاده ستقوم بالملء الثاني دون انتظار أي نتائج للمفاوضات. جاء البيان الإثيوبي عقب هذه الجولة الأخيرة من المباحثات هادئًا. كما أكد أن إثيوبيا تضع في اعتبارها الشواغل السودانية فيما يتعلق بأمان السد وتبادل البيانات وغيرها من الأمور الفنية. وأن إثيوبيا أخذت المبادرة لإنشاء آلية فعالة لتبادل البيانات.

موقف الاتحاد الأفريقي

جاءت رعاية الاتحاد الأفريقي للمفاوضات حول سد النهضة بعد تصعيد مصري للخلاف على المستوى الدولي وانعقاد جلسة مجلس الأمن الدولي التي طالب فيها ممثل جنوب أفريقيا ومندوبها لدى الأمم المتحدة بابقاء الخلافات بين مصر وإثيوبيا والسودان داخل البيت الأفريقي. على أساس شعار : “حلول أفريقية للمشاكل الأفريقية”. وهو ما تم التوافق عليه في مشاورات أعقبت الجلسة العلنية لمجلس الأمن التي عقدت في يونيو من العام الماضي.

خلال رعاية الاتحاد الأفريقي للمفاوضات، كان هناك العديد من الخلافات التي أظهرت تعنتًا إثيوبيًا ورغبة في إفشال أي محاولات للتوقيع على اتفاق شامل وملزم يتعلق بملء وتشغيل سد النهضة. فيما تم رفض كافة المفترحات والحلول التي قدمتها مصر والسودان. وهو ما كان سببًا في توقف المباحثات لأكثر من مرة، ليتدخل الرؤساء، ويتم التوافق على مواصلة الحوار.

رغم ذلك، فإنه مع تعثر كل جولة للمفاوضات لم يعلن الاتحاد الأفريقي موقفًا واضحًا تجاه أي من الأطراف الثلاثة. بينما كانت هناك مواقف ضمنية تشجع الاتجاه الإثيوبي.

جانب من اجتماع ترامب بوزراء الخارجية والموارد المائية لمصر والسودان وإثيوبيا في واشنطن في يناير 2020 (حساب المتحدث باسم الخارجية المصرية)
جانب من اجتماع ترامب بوزراء الخارجية والموارد المائية لمصر والسودان وإثيوبيا في واشنطن في يناير 2020 (حساب المتحدث باسم الخارجية المصرية)

الخبراء ليست لديهم الخبرة

على عكس ما بنيت عليه رعاية الاتحاد الأفريقي كوسيط لتسهيل الحوار بين الدول الثلاثة بتوفير خبراء مختصين لبحث الأمور العالقة، فإن هذه الجولة أظهرت عدم أهلية هؤلاء الخبراء لحسم أي من الخلافات الفنية أو القانونية. وهو ما كان سببًا في اعتراض مصر وإثيوبيا على طرح السودان بشأن هؤلاء الخبراء. ورفض أي دور أكبر لهم في طرح حلول توافقية للقضايا المختلف عليها بين أطراف الأزمة. إذ كشفت وزارة الخارجية المصرية أن هؤلاء الخبراء ليس لديهم خبرة في مجال هندسة السدود.

ويقع على عاتق الاتحاد الأفريقي الإعلان بشفافية عن الأسباب الحقيقية وراء تعثر المفاوضات. فرغم صدور عدة بيانات من الدول الثلاثة لتوضيح مواقفها عقب كل جلسة، لم يصدر عن الاتحاد الأفريقي نفسه -بوصفه راع للمفاوضات- أي بيانات تشرح ما تم في جلسات الحوار أو أسباب التعثر المستمر. وذلك على عكس موقف وزارة الخزانة الأمريكية التي رعت المفاوضات لمدة أربعة أشهر، أصدرت خلالها عدة بيانات عن طبيعة الجلسات حتى صياغة وثيقة واشنطن في فبراير 2020.

من المنتظر الآن أن يجري رئيس جنوب أفريقيا اتصالات برؤساء الدول الثلاثة قبيل انعقاد القمة الأفريقية مطلع فبراير المقبل. ذلك للترتيب لقمة مصغرة أو إرجاء الأمر إلى قمة الاتحاد الأفريقي. ومن ثم النظر في إمكانية استكمال الحوار على أسس وقواعد جديدة أو عدمه. حيث يتحمل الاتحاد الأفريقي حاليًا مسؤولية الإعلان بشفافية، وتوضيح المواقف للمجتمع الأفريقي والدولي.

في الأخير، يبقى رد الفعل المصري هادئًا لكنه لا يشير أيضًا إلى أي إجراءات مستقبلية. إذ جاءت معظم البيانات الواردة عن وزارة الخارجية منذ بداية هذه الجولة من المفاوضات لا تعبر عن مواقف واضحة بعد فشل المفاوضات. مع ضعف التوقعات بإمكانية أن تحسم العودة لمجلس الأمن الدولي الخلاف. أو أن تمارس مؤسسات دولية ضعوط على إثيوبيا لإجبارها على التوقيع على اتفاق شامل وملزم يرعى ويحمي المصالح المصرية والسودانية في مياه النيل الأزرق جراء عمليتي ملء وتشغيل سد النهضة.