“الرزق شحيح”، نطقها سعيد سيد، مبررًا أسباب تكرار أزمة دخول الصيادين للمياة الإقليمية لبلاد أخرى، ثم أكمل حديثه “قائلاً:”عندي بنتين على وشك جواز، وبنتين تانيين في مراحل التعليم المختلفة”، وكتير من الصيادين بيعانوا”.

في الصبح يجهز سعيد، زورقة الصغير متسلحًا بدعوات بناته الأربع، يبحث عن الرزق في المياه القليل من الأسماك تكفي لتغطية احتياجات الأسرة، لكن الحياة ليست وردية.

يفكر سيد دائمًا في تغيرات خيرات البحر وأسباب بخله المفاجئ فبعدما كان يلقي طرحه بلا حساب، بات يعطي بالقطارة بما لا يمكنه من تجهيز بناته.

حال الصياد العجوز يمثل عشرات الصيادين في كفر الشيخ الذين تضيق بهم السبل، وتدهورت أوضاعهم بسبب تناقص كميات الأسماك بالمياه الإقليمية بمصر، وهروبها لأعماق كبيرة لا يستطيع الصيادون الوصول إليها بمعداتهم التقليدية.

مراكب النجاة vs  الرزق شحيح

“الرزق شحيح”.. تتواتر تلك الرسالة على لسان جميع الصيادين بلا استثناء حين تسألهم عن أسباب اقتحامهم الحدود البحرية للدول المجاورة رغم مخاطر القرصنة والاختطاف على سواحل الصومال أو التعرض لنيران القوات البحرية للدول التي تشهد مشكلات أمنية كدولة ليبيا واليمن.

تحتجز السلطات التونسية حاليًا ٦١ صيادًا مصرياً من منطقة برج مغيزل بمطوبس بمحافظة كفر الشيخ، داخل ميناء صفاقس منذ ٢١ يومًا، بعدما مارسوا الصيد غير المشروع، بالمنطقة الاقتصادية التونسية.

لن تكون حادثة اجتياز الصيادين الحدود الأخيرة، فالسعي للرزق وشح الأسماك في المياه الإقليمية المصرية سيدفعهم لمطاردة الرزق بصرف النظر عن الحدود الجغرافية، وعدم الالتفات لمطالبة وزارة الهجرة المستمرة لهم بالتوقف الفوري عن الاقتراب والدخول في أي مياه اقتصادية تخص الدول الأخرى،.

تأتي الحادثة بعد أقل من أسبوع على إفراج السلطات الليبية عن 7 صيادين من أبناء مركز البرلس تم احتجازهم  في أحد السجون بمدينة بنغازي لمدة ٤٥ يوًما، لاتهامهم بالصيد في منطقة محظورة في المياه الدولية الليبية.

ودشنت الحكومة مؤخرًا مبادرة أخيرة بعنوان “مراكب النجاة” للتوعية من مخاطر الهجرة غير الشرعية والصيد في مياه الدول المجاورة، لكن الصيادين يقولون إن ما بالأمر حيلة، فالالتزام يعني الموت جوعًا بالنسبة لهم.

خطر المياه الدولية وهروب الأسماك للمياه العميقة

محمد شرابي، نقيب الصيادين بمركز البرلس في كفر الشيخ، إن أبناء مهنته يعانون الأمرين في ظل ارتفاع أعباء الوقود وأدوات الصيد، مع قلة العائد من الشواطئ المصرية، فلا يجدون أمامهم فرصة سوي الهروب لأماكن الصيد المجاورة.

يضيف شرابي، لـ”مصر 360″، أن المراكب المصرية لا تستطيع الصيد في المياه الدولية التي تحتاج لسفن قوية وتجهيزات مختلفة تتعامل مع المياه العميقة، والتي أصبحت حالًيا مجالاً لنشاط السفن الأوروبية ومنها التركية التي تصيد بها.

اقرأ أيضًا: الشباك خالية.. سد النهضة يُهدد معيشة الصيادين

يحدد القانون الدولي المياه الإقليمية بمسافة 12‏ ميلاً تفرض الدولة سيادتها عليها مثلها مثل الحدود البرية، ولا يستطيع أحد دخولها إلا بتصريح، أما أعالي البحار، فهي المنطقة التجارية أو الاقتصادية التي يمكن أن تدخل فيها  سفن الصيد دون التعدي على سيادة أية دولة.

يشكو الصيادون منذ سنوات من هروب الأسماك للشواطئ المصرية بسبب التلوث في ظل وجود مصانع مصرية تلقى بمخلفاتها مباشرة لمياه البحر، مما أدى لاختفاء أنواع من الأسماك، وأباطرة صيد الذريعة الذين يقتاتون على إعادة بيعها للمزارع السمكية وتزايدت معدلات صيدهم الجائر في العامين الماضيين.

12 نوعًا من الأسماك النيلية معرضة للاندثار

ووفًقا لدراسة لمعهد التخطيط القومي، الذراع البحثية لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، فإن ١٢ نوعًا من الأسماك النيلية الدارجة بمصر معرضة للاندثار بفعل نقص المياه وزيادة مستوى الملوحة في النيل، التي تتراوح حاليًا بين ٢٠٠ جزء في المليون في أسوان، و٥٠٠ جزء في القاهرة والدلتا.

يقوم المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد بإجراء مسح لشواطئ البحرين المتوسط والأحمر لرسم خريطة للمصايد السمكية لاستكشاف مناطق صيد جديدة على أعماق مختلفة، وتقدير المخزون السمكي الحالي، ورفع إمكانيات الصيد المتاحة لزيادة عرض الأسماك في الأسواق، لكن دراساته تظل حبيسة الإدراج ولا يعلن عنها.

لا تستطيع غالبية مراكب الصيد المصرية التقليدية الصيد أعمق من عشرة أمتار مع رحيل الأسماك لأعماق أكبر بسبب التلوث، باتت مراكبهم تعود خاوية الوفاض، ولا يملكون القدرة المالية على شراء مراكب جديدة، فكل جهدهم هو قوت يومهم.

كما يعاني صيادو الجرف الذين يصطادون قرب الشواطئ وبعد ارتفاع نسبة التلوث اختفت الأسماك ومعها مصدر رزقها، وتكرر الحال مع صيادي النيل الذي اختفت ٣٣ نوعا من أسماكه وتناقصت أعداد ٣٠ نوعا أخرى، بسبب التلوث.

اقرأ أيضًا: فيضان النيل بمصر.. ارتفاع المياه يهدد محافظات الدلتا

تكشف مبادرة تبنتها المؤسسات الخيرية بصعيد مصر حال الصيد النيلي، فغالبية العاملين بالمهنة وأسرهم يعيشون في منازل خشبية غير مسقفة، ومراكبهم تآكلت بسبب العجز عن إصلاحها، أو استبدالها مع ضيق حال اليد.

يقول شرابي إن الصيادين المصريين يعانون منذ سنوات طويلة دون أن يصل صوتهم للمسئولين فأعباء الحياة تتزايد عليهم دون تلقى أي دعم من الدولة، رغم أنهم ثروة اقتصادية مهدرة نجحت دول مجاورة في توظيفهَم وتحولت إلى مصدرة للأسماك بعدما كانت مستوردة.

تركز وزارة الزراعة، جهودها حاليا على المزارع السمكية أكثر من الاهتمام بصيد البحار، وتحتل المركز الأول إفريقيا في الاستزراع السمكي، والثالث عالميا في إنتاج البلطي، بإجمالي إنتاج حوالي مليوني طن.

صيادي مصر.. ثروة قومية

أطلقت الحكومة أخيرًا مبادرة “صيادي مصر” لكل جهات الدولة لرعاية الصيادين باعتبارهم من أكثر الفئات احتياجًا وضمتهم إلي العمالة غير المنتظمة، التي لها طبيعة خاصة وليست لها استمرارية في العمل.

يلتقط أطراف الحديث محمد شلبي، صياد السمك الأربعيني، الذي يقول إن السمك أصبح مهنة دونية خطيرة في بلد لديها بحرين ويشقها نهر بوسطها، ما دفع الكثير من رفقاء عمره إلى الهجرة بحثا عن الرزق في أوروبا وبعضهَم يعمل حاليا على مراكب كبيرة.

يعمل قطاع كبير من الصيادين المصريين حاليًا في دول الخليج في ظروف غير آدمية، وألقت السلطات السعودية في ديسمبر الماضي القبض على 3 من أبناء مركز البرلس، أثناء تواجدهم على الحدود السعودية – اليمنية، بسبب هروبهم من الكفيل الذي رفض مطالبهم بالحصول على إجازة لزيارة أسرهم.

وتبلغ مساحة المصايد السمكية الطبيعية بمصر ما يزيد عن 11 مليون فدان، لكنها الإنتاج السمكي منها متدنيا حال مقارنته  بإجمالي مساحتها، وبدول أخرى أعلى منها في الإنتاج السمكي، مثل المغرب .

ووفقا لهيئة الثروة السمكية، وصل إنتاجية مصر من الأسماك حاليا لمليون و920 ألف طن منها %80 من الاستزراع السمكي، %20 من المصايد الطبيعية بزيادة 100 ألف طن مقارنة بالعام الماضي، الذي بلغ مليونا و850 ألف طن.

ويقول شلبي إن بعض المسئولين يعتقدون أن الصياد يذهب للبحر فيعود بمركب ملئ بخيرات الله، لكنه في النهاية مواطن لديه أبناء يريد تعليمهم وكسوتهم، وبنات يسعى إلى تجهيزهم للزواج.

ويقول مصدر بالثروة السمكية إن الدولة تسعى لمساعدة الصيادين عبر مشروعات المزارع السمكية كمزرعة غليون في كفر الشيخ التي تعتبر الأكبر في الشرق الأوسط مزرعة ستحقق تراجعا فى نسب البطالة من خلال توفير 5 آلاف فرصة عمل مباشرة، و10 آلاف فرصة عمل غير مباشرة.

أكد أن المزرعة ستضع حدًا لمشكلات الصيد الجائر وتحارب صيد الذريعة ببحيرة البرلس، ما يؤدي لتنمية الثروة السمكية عن طريق إقامة معمل لإنتاج الذريعة بنحو 20 مليون طن من الأسماك البحرية وملياري وحدة جمبري.

لكن صيادي كفر الشيخ يؤكدون أن المشروع يعيد إحياء الاستزراع السمكي في المحافظة، لكن فرص العمل به غير قاصرة على الصيادين أو أهالي كفر الشيخ ويضم الكثيرين من خارج المحافظة، بما لا منحهم ميزة نسبية.

تلخص الرسالة التي أرسلها صياد مصري تم القبض عليه بالسعودية الواقع الصعب لحال الصيادين المصريين، بعدما طالبها بالعناية بوالديه وأبنائه وعدم انتظاره لأنه لا يعرف مصيره، وهي رسالة أصبحت دائمة التكرار لمن يعمل بمهنة تواجه خطر القراصنة والاختطاف.