تتعدد الوسائل التي يستخدمها القادة والسياسيون لتحسين صورتهم أمام الرأي العام، أو إيصال رسائل لها معانِ مختلفة، وتعددت تلك الوسائل على مر التاريخ من الأدوات التقليدية، إلى اللقاءات التلفزيونية وغسل الدماغ حتى وسائل التواصل الاجتماعي.

في ظاهرة تعد الأولى من نوعها، اقتحم أنصار الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، الكونجرس الأمريكي ما أدى لاشتباكات دامية بينهم من جهة وعناصر الشرطة من ناحية أخرى، لتتوقف جلسة التصديق على فوز الرئيس الديمقراطي جو بايدن.

اقرأ أيضًا.. الانتخابات الأمريكية: اتهامات متبادلة بين ترامب وبايدن في أول مناظرة انتخابية

فضيحة الكونجرس

مراقبون دوليون والصحافة الأمريكية وصفوا الأمر بـ”الفضيحة” التي ستبقى عالقة في الأذهان لسنوات قادمة. إذ مثل ترامب حجر الأساس بتحريضه عبر مواقع التواصل الاجتماعي لأنصاره وتلويحه المستمر بتزوير الانتخابات.

ترامب سعى إلى إحداث بلبلة وفوضى من أجل تحقيق مكاسب ذاتية، إذ دعا سابقًا مؤيديه لتنظيم تظاهرة، لمواجهة محاولات طمس الحقائق وتزوير الانتخابات بحسب ما قال.

واستجابة لمطالبة ترامب اقتحم الكونجرس، حينها كتب ترامب لآنصاره قائلًا: “لقد سرقت منا الانتخابات، عودوا إلى منازلكم، نحن نحبكم. أنتم مميزون للغاية وأنا أعرف ما تشعرون به. لكن اذهبوا بسلام إلى بيوتكم”.

خلال أزمة اقتحام الكونجرس، ظهر ترامب في مقطع فيديو يدعو أنصاره إلى الانسحاب. وأكد أنه مازال واثقًا في أن الانتخابات الرئاسية التي فاز بها بايدن تم التلاعب بها.

“تويتر” فرض قيودًا على مقطع الفيديو فضلًا عن حذف التغريدات الثلاث المحرضة على العنف، معلنًا تعليق حساب ترامب لـ12 ساعة على الأقل.

“تويتر” يتدخل.. وترامب يصعد تهديده

في أعقاب الأحداث المتسارعة، عاد تويتر وأعلن وقف حساب ترامب نهائيًا بسبب استغلال الأخير للمنصة للتحريض على المزيد من العنف.

وقال تويتر: “بعد المراجعة الدقيقة للتغريدات الحديثة الصادرة عن حساب الرئيس دونالد ترامب والسياق المحيط بها، وتحديدًا كيفية تلقيها وتفسيرها على الموقع وخارجه. قررنا تعليق الحساب نهائيًا بسبب خطر حدوث مزيد من التحريض على العنف”.

على الفور، تلقى ترامب قرارات مواقع التواصل الاجتماعي بمزيد من العدوانية. إذ شن هجومًا على “تويتر” متهمه بالتآمر لإسكاته، وتضامنه مع الديمقراطيين واليسار الراديكالي.

فقد ترامب نحو 70% من قوته التي كان يستمدها من وسائل التواصل وتغريداته. إذ بدا عاجزًا عن التواصل مع مؤيديه من الحزب الجمهوري وفقد أحد أهم أسلحته في الحرب التي يشنها على الديمقراطيين والانتخابات.

حساب ترامب على تويتر

كيف استغل الرؤساء الإعلام لتطويع الجماهير؟

يروي الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت إيزنهاور، في مذكراته التي نشرها بعد انتهاء ولايته، أنه عندما حصل على موافقة الحزب الجمهوري للترشح في انتخابات الرئاسة فوجئ بجيش من الفنيين يلتفون حوله. وعلى مدار ساعتين تواجد خلالهما داخل إحدى الغرف قبل الظهور الإعلامي الأول له، هناك من قام بتخطيط جديد للرموش والحواجب وفتحة العينين، فضلًا عن آخرين وضعوا المساحيق على وجهه، بينما اهتم اثنان بتصفيف الشعر القليل فى رأسه.

إيزنهاور قال: “في تلك الأثناء كان هناك مخرج يتلو عليا تفاصيل دوري ويبلغني ببعض التعليمات حول كيفية الابتسام ومتى أرفع حاجبي ومتى أقطب جبيني، وفي أي وقت يمكن أن أحرك يدي اليمنى أو اليسرى وكيف تكون الحركة”.

تبدو تلك الفقرة القصيرة في مذكرات إيزنهاور، دستور خاص بصناعة الرئيس أو الصورة الذهنية للرئيس لدى الجمهور. التاريخ مليئ بمثل تلك العناصر الرئيسية التي اعتمدها الحكام من أجل رسم صورة بعينها والتلاعب بعقول الجماهير العريضة.

ومثل الإعلام حجر الأساس في رسم الصورة الذهنية للقادة والزعماء. إذ كانت وسيلة أساسية لبث الخوف والرعب في قلوب الأعداء والأحباء.

من الميكروفون إلى تويتر.. سيرة التلاعب بالعقول

من الممكن أن تكتب مجلدات حول كيفية استغلال السياسيين لوسائل الإعلام والتواصل في سبيل بسط سيطرتهم على عقول الجماهير.

ويزخر التاريخ البشري بالعديد من الأمثلة التي نجحت في غسل أدمغة الشعوب من أجل تحقيق أهداف خاصة أو توجيههم نحو سياسة محددة.

جوبلز: أكذب حتى يصدقك الناس

كان جوزيف جوبلز وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر وأحد أبرز أفراد الحكومة. كما يقال إنه كان اليد اليمنى لـ”هتلر” والصديق الوفي. إذ عمد خلال توليه الحقيبة الوزارية للحكم النازي بين 1933 و1945، على استخدام الإعلام لتطويع للجماهير ليس في الداخل فقط بل في العالم أجمع.

جوبلز استخدم كافة الأدوات المتاحة آنذاك، للوصول إلى أكبر قدر ممكن من الجماهير، فطوع الصحف والإذاعات والأفلام للترويج لعبادة الفرد (القائد) وسمو الجنس الآري وللعداء للسامية ولحتمية إبادة اليهود.

استطاع جوبلز بفضل دهائه واستخدام وسائل الإعلام المختلفة غسل عقول الملايين وبث الرعب في نفوس أعداء هتلر وألمانيا النازية. كما ملء العالم بأكاذيب ودعاية مزيفة بأن “هتلر” ومن خلفه ألمانيا لا يستطيع أحد مجابهتهم.

على قدر ما كانت وسائل الإعلام بسيطة، إلا أن جوبلز تمكن من أن يمسك بأدوات اللعبة كاملة. كما نجح في إدارة ملف الدعاية السياسية وكبح جماح أي أفكار قد تعطل ألمانيا النازية.

السادات وخلق كاريزما الفلاح

في مصر وعندما تولى الرئيس الراحل أنور السادات الحكم في أعقاب الزعيم “جمال عبدالناصر” صاحب الكاريزما المهيبة التي زرعت الخوف في قلب الأعداء والحب في قلب أنصاره، كان لزامًا عليه أن يخلق مساحة جديدة تضفي عليه صفة رب الأسرة.

آنذاك كان التلفزيون بدأ يتواجد في معظم البيوت المصرية، وكان الإعلام لا يعتمد فقط على الميكروفون والإذاعات من أجل توصيل رسائل القادة والحكام إلى الشعوب. وكان يستوجب على السادات أن يخلق لنفسه صورة يتقبلها المصريون، وليس هناك صورة أفضل من الفلاح الذي يعرف أوجاع الفقراء ويدرك ما يمرون به بعيدًا عن العاصمة.

اعتمد السادات في حواراته الإعلامية على الظهور ببساطة مثلت مفاجأة للجميع. إذ سجل أحد هذه الحوارات في قريته بالمنوفية، بجلبابه الأبيض الشهير، في إشارة إلى رب العائلة والحاكم البسيط الذي جاء من بين الفقراء.

السادات

ترامب وبزوغ فجر المنصات الإلكترونية

كان بزوغ نجم رجل الأعمال دونالد ترامب، صاخبًا ومفاجئًا للجميع. إذ بدا الرجل أنه بعيدًا عن الكياسة السياسية المطلوبة، فهو شخصية فظة وهجومية، ولا يعرف عن السياسة الدولية سوى القليل.

صاحب ظهور ترامب هجمة صحفية وتلفزيونية كبيرة، أشارت إلى ما يمثله الرجل من انحدار لدور أمريكا على كافة المستويات. ومثلما كان ظهوره مفاجئًا كان نجاحه في الانتخابات الرئاسية مفاجأة أكثر فجاجة.

لم يخف ترامب سخطه وكراهيته لوسائل الإعلام، ومنذ اليوم الأول أشهر أسلحته في وجه الجميع وفضل الاحتماء في مواقع التواصل على الوسائل التقليدية.

في أبريل 2017، قال ترامب لصحيفة فايننشال تايمز: “بدون تويتر ما كنت لأصبح رئيسًا لأمريكا”.

منح تويتر لـ”ترامب” المساحة اللازمة للعبث بعقول متابعيه وإرسال رسائل لا تتحملها وسائل الإعلام. فكان تويتر ومنصات التواصل الاجتماعي ملاذًا له في صياغة حقبة جديدة ورسم صورة له لدى الرأي العام.

يقول ترامب عن أسباب لجوؤه إلى “تويتر”: “لو كانت الصحافة تمنحني تغطية دقيقة وشريفة، لامتلكتُ سببًا أضعف بكثير لكي أغرّد. للأسف”.

وسائل تقليدية وأخرى حديثة لمواكبة التطور

من جهته، يقول الدكتور ياسر عبدالعزيز الخبير الإعلامي، إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت آليات للتواصل الحكومي بشكل رسمي. إذ أصبحت أكثر من 90% من الحكام والقيادات يعملون من خلالها. وبالتالي أصبحت سبيلًا لكافة الحكومات والرؤساء لإعلان خطواتهم واستمالة جماهيرهم.

عبدالعزيز أشار في تصريح لـ”مصر 360″، إلى أنه لا يجوز معاملة القادة الشرعيين كمستخدمين عاديين لأنهم يمتلكون حق استخدام العنف المشروع كأداة ضمن أدواتهم الرئاسية. إذ يجوز إعلان الحرب أو الضربات العسكرية في سبيل الحفاظ على أمن واستقرار بلادهم.

أما عن تغير معاملة تويتر مع ترامب، يقول عبدالعزيز: “إنه على الرغم من معارضته لسياسة ترامب إلا أن تويتر وفيسبوك أثبتا أنهما قابلان للخضوع للضغوط ويكيلان بمكاييل متعددة. إذ أنهم مجرد وسيلة ولا يجب أن يتدخلا بالانحياز لطرف على حساب الآخر”.

ويرى الخبير أن تغير وسائل التواصل مع الجماهير من جانب القادة والرؤساء بداية من لجوء جوبلز إلى الميكروفون مرورًا بالسادات وتلاعبه بالصورة لاستمالة المصريين وصولًا إلى ترامب يعتبر تطورًا طبيعيًا يتماشى مع ظروف العصر.

في الوقت ذاته، أكد عبدالعزيز أن الحديث عن تطور عملية التواصل بين القادة والشعوب أمر طبيعي. إذ باتت الوسائط التقليدية (الصحف والإذاعات والتلفزيون) باهتة لا تقدم ما تستطيع منصات التواصل الاجتماعي تقديمه.

وبالرغم من الهجمة التي وجهت إلى “تويتر” و”فيسبوك” إلا أن ما تخسره لا يصب في صالح المنصات التقليدية التي تتحول خسائرها إلى مكاسب للمنصات الاجتماعية.