عندما نسمع كلامًا -أي كلام- عن ما يسمى بـ”نظرية المؤامرة“، فلدينا الحق كله في أن نتساءل ابتداء هل هي نظرية مثل سائر النظريات العلمية أم محض مجاز أدبي لا يخلو من السخرية؟ ذلك أن شروط بناء النظرية غير متوفرة في مثل هذا المقام.

نظرية المؤامرة.. كيف ذلك؟

يتطلب بناء نظرية علمية الانطلاق من معطيات قابلة للملاحظة، وطرح أسئلة قابلة للتبرير، قبل القيام بصياغة فرضيات قابلة للاختبار، وهي المرحلة الأكثر أهمية.

غير أن القابلية للاختبار تعني ضمن ما تعنيه الاستعداد المسبق لتكذيب الفرضيات. فعلى محك التكذيب يتم اختبار كل فرضية على حدة، وصولًا إلى الاستنتاج الذي هو بمثابة إعادة صياغة نهائية للفرضية التي صمدت أمام الاختبار. علاوة على ذلك كله يجب أن يساعدنا الاستنتاج في توسيع مجال الفهم، بحيث يصبح بمقدورنا أن نفهم بنحو أكبر وبشكل أفضل.

غير أن تلك الشروط لا تتوفر في ما يسمى بنظرية المؤامرة، والتي غالبًا ما تنطلق من معطيات غامضة قبل القفز مباشرة إلى انتقاء فرضية وحيدة تكون بمثابة الاستنتاج النهائي.

ملاحظة أخرى، تمثل الفرضيات نوعًا من التوقعات، غير أن إحدى معضلات التوقعات أنها قد تُوجه نتائج البحث ضمن نوازع النفس التي قد لا يتحرر منها حتى العلماء أنفسهم. لأجل ذلك يُشترط تحديد أكبر عدد ممكن من الفرضيات دون استبعاد أي فرضية من الفرضيات الممكنة قبل إنهاء الاختبارات بكل مراحلها، كما يجب أن يتوفر نوع من “سوء النية” المسبقة في تكذيب كل فرضية على حدة بنوع من القسوة وبدون أدنى تعاطف. لكن الذي يحدث ضمن ما يسمى بنظرية المؤامرة هو أن الفرضية المنتقاة تأخذ مكان الاستنتاج منذ الوهلة الأولى، طالما أنها الفرضية الوحيدة.

اختلالات منطقية

ليس هذا كل ما في الأمر، بل تقوم “نظرية المؤامرة” على اختلالات منطقية وخدائع نفسية نستعرضها على النحو التالي:

أولًا: عادة ما يتم اللجوء إلى تقديم غياب الدليل باعتباره دليلًا على صحة الفرضية. فأنت لا تستطيع أن تسأل عن الأدلة على وجود المؤامرة طالما من قواعد المؤامرة أن تكون الأدلة محجوبة. بهذا النحو ينقلب الاستدلال لكي يصبح انعدام الدليل دليلًا إضافيًا على صحة الفرضية!

ثانيًا: عادة ما يتم اللجوء إلى طرح السؤال “لماذا في هذا الوقت بالذات؟”، وهو سؤال مضلل طالما يوحي بأن التوقيت غير بريء. غير أن السؤال “لماذا في هذا الوقت بالضبط؟” يظل سؤالًا بلا معنى طالما أنه قد يطرح في كل الأوقات بلا استثناء، وبصرف النظر عن الوقائع والسياق.

ثالثًا: عادة ما يتم اللجوء إلى إنكار عامل الصدفة بلا مبرر يُذكر. لا شك أن عقل الإنسان ميال بطبعه إلى التشكيك في الصدف، ميال إلى طرح أسئلة على منوال أيعقل أن يكون هذا صدفة؟! هذا الميل تستثمره نظرية المؤامرة، بحيث يكفي أن يقال “لا يمكن أن يحدث هذا الأمر صدفة” حتى ينبعث الشعور بوجود أياد خفية! غير أن الصدفة -لكي لا ننس- موجودة في كل الأحوال في الطبيعة والحياة، بل ليست الحياة سوى مصادفات في آخر التحليل.

رابعًا: عادة ما يتم اللجوء إلى تصنيف كل نقد موجه إلى نظرية المؤامرة باعتباره جزء من المؤامرة نفسها. ومرة أخرى ينقلب الاستدلال لكي يصبح التشكيك في فرضية المؤامرة بمثابة معطى إضافي من معطيات المؤامرة، وهو ما يضعنا في حلقة مفرغة.

ثم ماذا؟

فضلًا عن الاختلالات المنطقية والخدائع الوجدانية بوسعنا أن نعتبر نظرية المؤامرة امتدادًا للرؤية السحرية للعالم، التي تعود إلى الأزمنة التي كانت فيها العشائر البدائية تتصور وجود أرواح شريرة تحبك المؤامرات في الخفاء، وتتحكم في الظواهر والأحداث، والمصائر والمآلات، سواء في الطبيعة أم داخل المجتمعات.

لذلك، تظل جذور نظرية المؤامرة كامنة في اللاوعي الجمعي للمجتمعات كافة، تظهر حينًا بمقدار، وتختفي أحيانًا بمقدار، تبعًا لطبيعة البيئات الثقافية السائدة، ولأمزجة الشعوب في كثير من الأحيان.

لكن، إن كان هوس المؤامرة يعرف رواجًا لدى الشعوب كافة في مشارق الأرض ومغاربها -وطبعًا بنسب متفاوتة- فلا شك أن المجتمعات المتأخرة تمثل السوق الأكثر رواجًا واستهلاكًا لبضاعة “نظرية المؤامرة”، طالما يتناسب الأمر مع خصائص التفكير السحري.

لذلك نفهم على سبيل الاستشهاد قصة الصحفي الفرنسي ثييري ميسان، الذي يعد أحد أبرز مروجي “نظرية المؤامرة” بخصوص الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، والذي وجد ضالته في الشرق الأوسط حيث حصد بادئ الأمر عديدًا من الجوائز من بعض المؤسسات الخليجية، قبل أن ينقلب في الأخير إلى متعاون إعلامي مع إيران وحزب الله. والحديث عن تجربة الرجل قد يطول.

“نظرية المؤامرة”

ثم أن “نظرية المؤامرة” تمثل أداة فعالة لإحكام السيطرة على الناس عبر إثارة انفعالاتهم السلبية، من قبيل الخوف، والتوجس، والكراهية، والحقد، والانتقام. وعلى سبيل المثال، لا يخفى كيف استثمر هتلر نظرية المؤامرة بادعاء وجود مخططات سرية يحبكها اليهود ضد ألمانيا، وكانت غايته في تلك الدعاية الخطرة أن يحكم قبضته على رقاب الألمان، فكان له ما شاء.

كما يروج لـ”نظرية المؤامرة” اليوم أردوغان لغاية إحكام سيطرته على الشعب التركي، وربما على أجزاء واسعة من الشرق الأوسط وفق أضغاث أحلامه.

ثم أن اليمين المتطرف في أوروبا وكذلك اليسار المتطرف كليهما يروج لـ”نظرية المؤامرة”؛ الأول بخلفية معادية للسامية وللمهاجرين، والثاني بخلفية معادية للرأسمالية والرأسماليين.

كما لا ننس كيف برع دعاة الإسلام السياسي عندنا في تسويق فكرة وجود مخطط سري للغاية! أو سري جدًا! تنسجه أياد صهيونية ماسونية صليبية في الخفاء لغاية القضاء على الإسلام وعلى المسلمين، ومن خلال ترويجه لهذه الدعاية الخطرة استطاع الإسلام السياسي أن يحكم سيطرته على وجدان الكثيرين لمدة عقود طويلة، عبر إثارة كل الهواجس الوسواسية الممكنة في النفوس، وبلغ الوسواس درجة صار فيها الكثيرون يصدق عليهم قول الذكر الحكيم: “يحسبون كل صيحة عليهم” المنافقون 4.