قبل 67 عامًا وقف الرئيس جمال عبدالناصر متحدثًا إلى الشعب، مباهيًا العالم بشركة الحديد والصلب التي افتتحت في العام 1954 في حلوان، وبدأت مصر معها الانتقال من كونها زراعية إلى دولة صناعية “تمتلك قاعدة من الصلب وأخرى من الفولاذ”.
لم تفارق كلمات عبدالناصر العمال الذين حضروا الافتتاح ورفعه الستار عن لافتة مصنعهم بالتبين، وتأكيداته على أن امتلاك صناعة الصلب يومًا مفصليًا في التاريخ باعتباره ينسف ما ردده الاستعمار بأن مصر لا تصلح إلا الزراعة ولن تكون أبدًا صناعية”.
لا يقل يوم 11 يناير 2021 في تاريخيته أيضًا ولن يفارق أذهان 7500 عامل بعدما قررت الجمعية العمومية غير العادية للشركة التي تتضمن بنك مصر والشركة القابضة وكلاهما مؤسستين حكوميتين تصفيتها لتتخلص من أعباء خسائرها المالية، غير مستجيبة للعمال الذين رفضوا وصرخوا وأكدوا أنها قابلة للإصلاح شرط توافر النية المخلصة.
اتخذت الجمعية غير العادية للشركة، برئاسة المهندس محمد السعداوي رئيس الشركة القابضة للصناعات المعدنية، قرارًا غير متوقع بتقسيمها إلى شركتين أولهما الحديد والصلب التي تم تصفيتها، والثانية باسم شركة المناجم والمحاجر.
دوامة الخسائر
تثير رحلة “الحديد والصلب المصرية” التساؤلات كيف يمكن لأكبر شركات إنتاج الحديد والصلب في مصر التي يبلغ حجم استثماراتها 650.7 مليون جنيه، بمعدل إنتاج يصل إلى 1.2 مليون طن مترى، أن تسقط في دوامة الخسائر رغم وجود نحو 30 مصنعًا تحقق أرباحا قياسية وجعل أحدها رغم حداثة عمره في السوق مليونيرًا يبدل في زيجاته من الفنانات مثلما يبدل ملابسه.
وتنتظر الشركة حاليًا دخول القطاع الخاص شريكًا في شركة المناجم والمحاجر التي انقسمت عنها لتشغيلها خلال المرحلة المقبلة أسوة بما حدث في بعض الشركات الأسرة،التي تم إدخال القطاع الخاص شريكا بها واستطاعت أن تعوض خسائرها.
صحيح أن الشركة المصرية ارتفع إجمالي خسائر ها لمتراكمة التي نحو 9 مليارات جنيه، لكنها استطاعت تقليص الخسائر رغم كورونا خلال الفترة من يوليو 2019 حتى 30 يونيو لعام 2020، لتسجل خسائر بلغت 982.8 مليون جنيه مقابل خسارة قدرها 1.5 مليار جنيه عن الفترة المقابلة من العام السابق، وينتظرها مستقبل فما يتعلق بصناعة الأكسجين بعدما احتلت المرتبة الخامسة في مصر في الإنتاج.
“قرار تصفية الحديد والصلب كان معلوما”
قبل أسابيع تلقى عمال وموظفو الشركة تحذيرا من من تداول أي معلومات أو أخبار أو بيانات تخص الشركة، أو الشركة القابضة للصناعات المعدنية، أو وزارة قطاع الأعمال العام، علي الصفحات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعى، ما مهد الطريق لإعلان قرار التصفية، حسبما يقول جمال.ع” أحد عمال الشركة.
يوضح العامل أن الشركة تعرضت لتخريب متعمد من جهات حكومية أخرى رغم أن الدولة شريك فيها، فالقابضة للصناعات المعدنية لديها 82.4% من أسهم الحديد والصلب بعد بيعها 73.3 مليون سهم في يناير 2019 “تمثل 7.51%” لبنك مصر في إطار صفقة مبادلة ديون.
طوال الخمس سنوات التي تلت ثورة يناير عانت الشركة من البلطجية الذين قطعوا خط السكة الحديد الخاص بتوصيل خام الحديد وفحم الكوك إلى مصانعها بمنطقة التبين، بعدما سرقوا “البلنجات” التى تربط القضبان مع بعضهالمسافة 5 كيلو مترات.
استمرت اعتداءت البلطجية لمدة ٣ سنوات كاملة، تجرأوا فيها باستمرار حتى وصل الأمر إلى اقتحام عنابر الخردة وتحميلها باللوادر على سيارات نقل تحت قوة السلا، ما دفع العمال لتنظيم وقفة احتجاجية أمام البوابة الخلفية لمجلس الوزراء فى ٢٠١٤ يطالبون فيها فقط بحقهم في العمل في أمان دون أي مطالب فئوية أو مالية.
يقول العامل، الذي يمني نفسه بالتعين في شركة المحاجر الجديدة براتب أعلى، إن القرار كان معروفا للجميع وكان منشورا في مقال بجريدة الأهرام قبل 6 أيام من قرار الجمعية العمومية، وقال فيه نصا بأن الوزارة لن تسمح باستمرار نزيف المال العام وأن الشركة باتت عبئا لا يمكن تحمله,.
يضيف أن منتجات الشركة تتضمن قائمة طويلة من المنتجات التي يحتاجها السوق ما يجعله مستغربا من الخسائر، وتابع: “ننتج كل شئ. زوايا متساوية مدرفلة على الساخن، وكمر مجرى مدرفلة على الساخن، قضبان مستديرة مدرفلة على الساخن – حديد تسليح أملس – حديد تسليح مشرشر – مربعات مدرفلة على الساخن – خوص وشرائح مدرفلة على الساخن – قضبان – فلنكات – كمر – شرائط ولفائف مدرفلة على البارد – ألواح بقلاوه مدرفلة على الساخن – بلاطات – مربعات – خام الحديد وخام الباريت – جلخ الأفران العالية – قوالب زهر للمسابك – خام الحجر الجيرى – أكسجين – ارجون – نيتروجين – تصنيع قطع الغيار – تصنيع الهياكل المعدنية”.
مشكلات قديمة
لا تخفي مشكلات الشركة علي أحد، فالجهاز المركزى للمحاسبات كشف عنها أكثر منها وأرسلها تباعًا في بيانات للبورصة المصرية (باعتبار أن الشركة مقيدة بسوق المال، ومن توقف خطوط الإنتاج نتيجة تقادم الآلات والمعدات، حتى أن وقت العمل انخفض الي ٨٪ فقط، بجانب تقادم الأفران وانخفاض المخزون الاستراتيجى من خام فحم الكوك.
لكن الشركة لديها أصول كانت قادرة على وضعها على قائمة النجاح، بنحو 790 فدانًا بمنطقة التبين، و654 فدانًا بالواحات البحرية، و54 فدانًا مشتراة من الشركة القومية للأسمنت وقطعة أرض بمساحة 45 ألف متر مربع بأسوان، وكميات خردة تقدر بحوالي ١.٣ مليون طن ، وقطعة واحدة منها تم تقديرها بنحو 1.2مليار جنيه.
وينص القانون على أن الشركة إذا تخطت خسائرها نصف رأس المال فيجب التصفية، و”الحديد والصلب” تخطت خسائرها كامل رأس المال 5 أو 6 مرات، لكن ما يثير الاستغراب كمية المشروعات الحكومية التي تم الإعلان عنها لتطويرها، ومن بينها خطة للدكتور مدحت نافع رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية السابق، لبناء وحدة نصف صناعية بتكلفة نحو 675 ألف دولار، وبعدها إقامة مصنع لتركيز الخام بالواحات بتكلفة تقارب 35 مليون دولار بطاقة إنتاجية 1.3 مليون طن سنويا من الخام مرتفع التركيز نسبيا، ثم مصنع لمكورات الحديد بالشراكة مع القطاع الخاص، بتكلفة نحو 65 مليون دولار، وبإنتاجية تصل إلى مليون طن مكورات سنويا.
وقبلها وضعت الشركة دراسة لأعمال تركيز وتنقية خام حديد مناجم الواحات البحرية لرفع جودته وفصل الشوائب، وترشيد استهلاك الطاقة من فحم الكوك والغاز والكهرباء، وإعادة هيكلة العمالة واستغلال الأصول غير المستغلة مثل الأراضي، وتأهيل الورش لتقديم العديد من الخدمات المختلفة للكثير من الشركات.
كما وقعت عقدًا شراكة مع شركة “فاش ماش” الأوكرانية، وذلك لرفع تركيز خام الحديد بالواحات البحرية، باستخدام تكنولوجيا الفصل المغناطيسى الجاف الموفر للمياه، وتم الاتفاق على إنشاء وحدة نصف صناعية وفى حالة نجاح التجارب سيتم عمل مصنع لتركيز الخام، وكذلك مصنع للمكورات.
وتمتلك الحديد والصلب المصرية كميات ضخمة من الخردة تصل إلى 600 ألف طن كمخزون لديها في المخازن، بجانب ما يسمى بـ” جبل التراب” الذى يحتوي على خردة تقدر بـ700 ألف طن، قدرتها وزارة قطاع الأعمال العام بسعر يناهز 5 مليارات جنيه كفيلة وحدهل لحل مشكلات الشركة.
تساؤلات مشروعة عن تغيير مجالس الإدارات
ما يثير التساؤلات التي لم تجب عنها وزارة قطاع الأعمال العام هو أسباب التغيير المستمر لمجالس إدارة الشركة، رغم نجاح بعضهم في حل قدر من مشكلات الشركة مثل المهندس سامي عبدالرحمن الذي نجح خلال شهور قليلة في تقليص الخسائر من 750 مليونًا إلى 450 مليونًا مع خطة أخرى لتقليلها إلى ربع مليون جنيه فقط، ودفع مليار جنيه لشركة النصر للكوك وهو مبلغ قياسي.
استطاع عبدالرحمن في ولايته تسديد ديون الجهات الحكومية مثل الكهرباء والغاز توفير مبالغ تكفي لاستيراد متطلبات الإنتاج خاصة الكوك بنحو 4 آلاف طن شهريًا، عبر الاهتمام بملف بيع الخردة والاهتمام بصناعة الأكسجين التي أتت ثمارها في الفترة الأخيرة خلال جائحة كورونا.
مصير العمال
كثير ما تم تصدير عدد عمال الشركة البالغين نحو 7500 عامل بأنهم سر المشكلة، باعتبارهم تقاضون أجورًا تتخطى حاجز الـ50 مليون جنيه شهريًا، ونحو 56 مليون جنيه منحة سنوية، لكن المهندس خالد الفقي، رئيس النقابة العامة للصناعات الهندسية والمعدنية والكهربائية. يقول إنهم كانوا العنصر الأهم فيها لكن المشكلة لم تكن فيهم.
لكن تعداد العمالة يتراجع سنويًا نتيجة وقف التعيينات الجديدة بالشركة منذ عام 2014 حيث بلغ عدد العمال في عام 2013 نحو 10 آلاف عامل.
وهنا يؤكد عدد من عمال الحديد والصلب على أن الشركة لجأت في بعض الأحيان، إلى تطبيق برنامج المعاش المبكر، وهذا ما يفسر تقلص عدد العمال إلى نحو 2500 عامل في أقل من 5 سنوات.
وبحسب رواية العمال، اتبعت الشركة منذ سنوات مبدأ جديدًا يتعلق بأن من يخرج عن المعاش المبكر لا يأتي بديلا عنه، لتقليص حجم الأجور المُنفقة شهريًا على العمالة، ومن ثم التمهيد إلى قرار تصفية الشركة.
“الشركة مصدر رزق لنحو 8 آلاف أسرة وتتضمن عمالة ماهرة، وضمت قديمًا 23 ألف عامل كانوا كلمة السر في في تشغيل 32 مصنعا في الحديد والصلب بمصر خلال السعبنيات والثمانينيات” يعود الفقي للحديث، مؤكدا أن قرار التصفية كان خاطئا، محملاً المسؤلية لمجلس إدارة الشركة الحالي، باعتبار أنها تملك أصولا تزيد على 10 مليارات جنيه وكل ما تحتاجه لتكوير الآلات والمعدات، ما يعني أن أصول الشركة كانت قادرة على تغطية المديونيات والخسائر والتطوير أيضًا.
ويواجه العاملون بالشركة حاليا مستقبلاً عامضًا حيث اكتفى مجلس الإدارة بالتأكيد أنه سيتم التناقش معهم خلال الفترة المقبلة بشأن صرف التعويضات اللازمة لهم وإتمام إجراءات التصفية، وكثير منهم يمنون أنفسهم بالعمل في الشركة الجديدة لكن الأمر يبدو غامضا في ظل الاستعانة بالقطاع الخاص في التشغيل.
يقول “ر. على”، الذي يعمل بالشركة منذ 25 عامًا، إن شركته عبارة عن منجم ذهب فلديها تل كامل من الخردة يكفي تشغيلها لسنوات في ظل صراخ القطاع الخاص من ارتفاع أسعاره ورفع أسعارها في السوق باستمرار، لكن وزارة قطاع الأعمال العام ليست متحمسة لفكرة التطوير وتختلت الشركة.
يضيف العامل أن التصفية جاءت في وقت غريب في ظل فيروس كورونا ومعاناة الجميع من تداعياته ودون دراسة ملف العمال الذي تم إرجائه لمرحلة تالية، رغم وجود مئات العمال في الأربعينيات في سن لا يستيطعون فيه بدء العمل بمجال جديد والمعاش الذي سيحصلون عليه لن يكفي التزاماتهم.