بدأت مصر في إجراءات جديدة في التعامل مع ملف حقوق الإنسان، وسبل الخروج من مأزق الاتهامات المتلاحقة التي تستدف النظام في الخارج.
كانت أبرز هذه الإجراءات العمل على إعداد استرايجية وطنية لحقوق الإنسان، كان قد أعلن عنها وزير الخارجية في ديمسبر الماضي، والتي سيكون المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان المصريين جزء أصيل من الحوارات المجتمعية التي سعقدها القائمون على إعداد هذه الاستراتيجية.
ومن المتوقع أن تشمل الاستراتيجية خطط لمؤسسات الدولة للتعاطي مع كافة بنود حقوق الإنسان الخاصة بالحرية والأمان الشخصي وحرية التعبير والحقوق الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الحقوق التي تتعرض مصر لانتقادات مستمرة بشأنها في الخارج والداخل.
في اجتماع تشاوري أقامته الأمانة الفنية العليا الدائمة لحقوق الإنسان، شارك عدد من رموز المجتمع المدني والنشطاء الحقوقيين، واتفق المشاركون على العمل على أربعة محاور جاءت مقسمة بين الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إلى جانب التطرق لتمكين الفئات الأولى بالرعاية.
وقد حضر هذا الاجتماع، الذي أقامته الأمانة الفنية للجنة المصرية العليا الدائمة لـحقوق الإنسان، المحامي الحقوقي نجاد البرعي. وأيضًا السفيرة ليلى بهاء الدين مدير مؤسسة “كيميت بطرس غالي”. إلى جانب عبد المولي إسماعيل، وحازم منير، وعصام شيحه، ونبيل أبادير، وإقبال السمالوطي، ورئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، علاء شلبي
والاجتماع هو جزء من سلسلة اجتماعات تعدها اللجنة مع المنظمات المدنية للحوار حول الاستراتيجية الجديدة. ذلك إلى جانب اجتماعات أخرى تُعقد مع شخصيات مدنية للحوار حول هذا الملف. وقد اجتمع المشاركون فيه على أن “النصوص تختلف عن التطبيق”. فضلاً عن اتفاقهم على ضرورة فتح المجال أمام الحريات، ووسائل الإعلام.
الحبس الاحتياطي وتجميد الحسابات.. ضرورات استراتيجية حقوق الإنسان
تحدث المحامي الحقوقي نجاد البرعي -خلال اللقاء الذي جرى عبر تطبيق “زووم”- عن نظام العدالة، فأكد على ضرورة التفرقة بين استقلال القضاء والاستقلالية بالقضاء.
كما أشار إلى ضرورة تقليص مدة الحبس الاحتياطي التي تصل لعامين، مطالبًا بأن يحال المتهمون للمحاكمة بدلاً من البقاء فترات طويلة في حبس مؤقت. وهو أمر غير منطقي، على حد قوله، ويعتبر إما تقصيرًا في إجراء التحقيقات، أو نوع من عقاب هؤلاء المتهمين دون أحكام.
وفي إطار الحوار حول إصلاح التشريعات الحاكمة في مصر، أشار البرعي إلى رفض الدولة تعيين القاضيات، رغم عدم وجود نصوص دستورية تتيح الأمر. واصفًا الأمر بالمخالفة الدستورية الصريحة، التي يجب التصدي لها لإصلاح النظام القضائي. وذلك إما من خلال إرسال تشريعات جديدة للبرلمان، أو مناقشة الأمر في المجلس الأعلى للهيئات القضائية.
الملاحقة القضائية وقرارات حظر السفر
بدوره، أكد رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، علاء شلبي، على ضرورة إنهاء ملف الملاحقة القضائية لبعض الناشطين الحقوقيين. إلى جانب العدول فورًا عن قرارات حظر السفر وتجميد الحسابات المصرفية. بهدف كتابة صفحة جديدة في العلاقة بين الدولة وكل أطراف الحركة الحقوقية الوطنية والدولية.
وذكّر شلبي بأن هذه الملاحقة المفتوحة منذ ربيع 2016 لم تشكل فقط ضررًا لصورة الدولة المصرية محليًا ودوليًا. لكنها شملت قيودًا عديدة أثرت على نحو ٢٠٠ منظمة حقوقية أخرى. رغم انخراطها في العمل وفق قانون الجمعيات.
أيضًا جدد رئيس المنظمة العربية مطالب مراجعة وتحديث التشريعات العقابية. خاصة قانون العقوبات الصادر في العام 1937 الذي لا يواكب تطورات الفلسفة العقابية المعاصرة. فضلاً عن كثافة المواد التي تفضي للحكم بعقوبة الاعدام.
وهي تلقي -وفق رأيه- بالأعباء على كاهل القضاء بداية، ثم على كاهل رئيس الجمهورية الذي يضطر للتصديق على تنفيذ بعض الأحكام للحيلولة دون الثأر في المجتمعات الريفية واستهداف الردع في بعض أنماط الجرائم مثل الاغتصاب والسطو المسلح والإرهاب. بينما يتحمل قطاع السجون أعباءً لا حصر لها إزاء المئات من المحكوم عليهم نهائيًا بالإعدام. مثل غالبية المدانين المعاقبين بالإعدام في أصناف الجرائم السابق الإشارة إليها. وكافة المدانين في جرائم المخدرات.
تحقيق العدالة يخفف الأعباء الاقتصادية
أيضًا، أكد شلبي تقدير المنظمة لجهود المساءلة والمحاسبة غير المسبوقة في جرائم التعذيب وسوء المعاملة خلال السنوات الخمس الأخيرة. أكد أن هذه الجهود لا يمكن ضمان استدامتها بمعزل عن تعديل المواد في قانون العقوبات. بما يضمن سد الفجوات.
كذلك أشار لأهمية تبني المطالب بإدراج مشروع قانون العقوبات البديلة في الجرائم البسيطة المنتهي منذ عام ونصف. بما يعزز تحقيق العدالة ويخفف الأعباء الاقتصادية عن كاهل الدولة. مشيرًا إلى معاناة الإنفاق الهائل لسجن المدانين، وفك كرب الغارمين.
وأعرب شلبي عن خيبة أمل المنظمة إزاء فشل السلطتين التنفيذية والتشريعية في التوافق على تعديلات قانون الإجراءات الجنائية المقدمة منذ مايو 2017. ما أدى لاستفحال كوارث من قبيل التوسع في الحبس الاحتياطي الذي بات عقوبة غير قضائية.
تقييد المجال العام والهابطون إلى قاع الفقر
كما أكد شلبي أن المنظمة تنظر بقلق بالغ إلى تقييد المجال العام، وأهمية التحرك فورًا لإصلاح المنظومة الإعلامية على قاعدة الحريات وتعزيز المشاركة. فضلاً عن ضرورة التزام المحافظين بتحديد الساحات المقرر فيها ممارسة الاجتماع السلمي بالإخطار وفق القانون.
وفيما يتعلق بالتقدم الاقتصادي والاجتماعي، أعرب شلبي عن تقدم إيجابي للغاية لاحظته المنظمة العربية في أداء الدولة في هذا الجانب. لكنه أشار إلى أهمية دراسة آثار الإصلاح الاقتصادي على الطبقة الوسطى التي سقط منها نحو خمسة ملايين إلى قاع الفقر. وطالب بضرورة تيسير الإجراءات والتدابير الإدارية وتخطي البيروقراطية السلبية في الاستجابة لبعض طلبات التمتع بمظلة برامج الحماية الاجتماعية للطبقات الأفقر. وذلك لتحقيق هدف “ألا نترك أحدًا خلفنا”.
وختم بأن المنظمة تؤكد على أهمية إجراء انتخابات المجالس المحلية في أقرب وقت. خاصة إزاء اقتراب المهلة الدستورية للتحول إلى اللامركزية. ذلك لضخ الدماء الجديدة في الحياة السياسية عبر حصة ٢٥ % للمرأة و٢٥% للشباب.
وأكد أن تفاعل المنظمة مع القيادة السياسية في القضايا العامة والشكاوى يؤكد توافر الإرادة السياسية الإيجابية. لكنه يؤشر أيضًا إلى الحاجة لإصلاح الخلل في آلية اتخاذ القرار لمعالجة إشكاليات حقوق الإنسان ذات الطابع التفصيلي.
فشل برامج التدريب على حقوق الإنسان
ناقش المجتمعون أيضًا فشل كافة برامج تدريب الموظفين المنوط بهم إنفاذ القانون على العمل وفق حقوق الإنسان. هنا يوضح البرعي أن تلك البرامج التي شارك في تصميمها وتنفيذها لم تكن لها جدوى حقيقية. ويرجع هذا الإخفاق إلى قصور المتابعة الواجبة للمتدربين بعد انتهاء تدريبهم. وأيضا غياب تقييم أثر التدريب عليهم.
اقرأ أيضًا: استراتيجية جديدة لحقوق الإنسان في مصر.. كل ما نعرفه عن صياغتها وأهدافها
انتهاكات أماكن الاحتجاز والإشراف على السجون
شدد نجاد البرعي -في حديثه بالمحور الثالث من الاجتماع- على ضرورة وجود تشريعات تمنع الانتهاكات في أماكن الاحتجاز. على أن تحمل هذه التشريعات مدير مركز الاحتجاز مسؤولية أي انتهاكات تحدث في دائرة المكان. وتكون هذه المسؤولية فعلية وليست افتراضية.
ويؤكد البرعي أيضًا على ضرورة توحيد سلطة الإشراف على السجون وأماكن الاحتجاز. لتكون مصلحة السجون المسؤولة عن إدارة أماكن الاحتجاز والأقسام، التي أصبح يحتجز بها المتهمون لمدد طويلة.
بداية مبشرة والتطبيق على أرض الواقع هو الفيصل
يرى البرعي أن الاجتماع “بداية مبشرة للتشاور، والفهم المتبادل بين جميع أطراف القوى المدنية”. وأن أهميته تكمن في أنه دار حول إزالة أسباب الخلاف، ليعمل الجميع تحت مظلة واحدة لحماية كرامة الإنسان والسعى للحصول على حقوقه.
وفيما يؤكد السفير أحمد إيهاب، مساعد وزير الخارجية لحقوق الإنسان والأمين العام للجنة الدائمة العليا لحقوق الإنسان بوزارة الخارجية، على أن مصطلح حقوق الإنسان لا يجب استخدامه كذريعه للتوظيف السياسي. يتفق مع حقيقة أن التطبيق على أرض الواقع هو الفيصل في مسألة حقوق الإنسان.
خلال الاجتماع، أكد السفير أحمد إيهاب على ضرورة الاستفادة من إسهامات المجلس القومي لحقوق الإنسان. ذلك بالإضافة إلى الاستعانة الدائمة بالمجتمع المدني والمتخصصين والأكاديميين. مشيرًا إلى تقييم الموقف بصفة دورية.
ما هي الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان؟
الهيئة الاستشارية التي ساهمت في إعداد مسودة الاستراتيجية الجديدة، مكونة من من 25 عضوًا. وهم من الشخصيات العامة، والخبراء المنتقين في جميع التخصصات المختلفة، يساهمون بالرأي في إعداد المسودة النهائية. وذلك وفقًا للتكليفات الواردة في قرار رئيس مجلس الوزراء بشأن إنشاء اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان.
وتهتم مسودة الاستراتيجة الجديدة بحقوق الإنسان في كافة المجالات؛ الاقتصادية والاجتماعية وأيضًا السياسية. أيضًا تؤكد على أن الاهتمام بحقوق الإنسان ينعكس على الدولة المدنية الحديثة، وبدوره على التنمية الشاملة للدولة.
في تصريحات سابقة، أوضح وزير الخارجية سامح شكري أن مسودة هذه الاستراتيجية الجديدة، والتي تعمل على إعدادها الهيئة الاستشارية باللجنة العليا لحقوق الإنسان، إلى جانب عدد من الأسماء الوطنية، ستُعد وفقًا لجلسات تشاور يتفق الجميع خلالها على الشكل النهائي للمسودة. ذلك بعد إبداء الملاحظات، وبالاعتماد على المنهج التشاوري والتشاركي عند الإعداد، وإشراك المجتمع المدني في الأمر.
اقرأ أيضًا: “حقوق الإنسان في مصر”.. قراءة في توصيات الاستعراض الأخير
وقد أشار السفير أحمد إيهاب جمال الدين، الأمين العام للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان ومساعد وزير الخارجية لحقوق الإنسان، إلى 10 خطوات لإعداد الاستراتيجية الجديدة، تشمل:
- مخاطبة الوزارات والجهات المعنية، لموافتها بخططها وبرامجها المستقبلية ذات الصلة بملف حقوق الإنسان، خلال الخمس سنوات المقبلة.
- حصر حقوق الإنسان بكافة المجالات في وثيقة رؤية مصر 2030.
- حصر احتياجات الدولة للارتقاء بمجال حقوق الإنسان في مصر.
- الإطلاع على التجارب الدولية المشابهة، والاستفادة منها للوصول لأفضل نتائج.
- دراسة خطط العمل والاستراتيجيات الوطنية التي اعتمدت بالفعل وجاءت ذات صلة بموضوعات حقوق الإنسان. ذلك لتحقيق التكامل بينها وبين الاستراتيجية الوطنية الجديدة لحقوق الإنسان.
- دراسة التوصيات الصادرة لمصر الدولية والإقليمية في مجال حقوق الإنسان. وأيضًا دراسة توصيات المجلس القومي لحقوق الإنسان، للاستفادة منها.
- بحث ودراسة كيفية تنفيذ مصر للالتزامات الدستورية والدولية في مجال حقوق الإنسان.
- الوصول لتعديلات تشريعية تعزز اتساق الإطار التشريعي مع الدستور والالتزامات الدولية لمصر في مجال حقوق الإنسان.
- تشكيل هيئة استشارية لإعداد الاستراتيجية الجديدة لحقوق الإنسان. على أن تضم تلك الهيئة 25 من الخبراء المنتقين من المتخصصين في كافة المجالات. وعرض مسودة الاستراتيجية عليهم والاستماع إلى ملاحظاتهم عليها.
- عقد جلسات استماع مع ممثلي المجتمع المدني لتلقي مقترحاتهم حول الاستراتيجية الجديدة. لتضم تلك الجلسات ممثلين من البرلمان والأحزاب السياسية. وأيضًا الجمعيات الأهلية، وممثلين عن المجلس القومي لحقوق الإنسان.
أهداف الاستراتيجية الجديدة
تهدف الاستراتيجية الجديدة، وفقًا لحديث مساعد وزير الخارجية لحقوق الإنسان، لإحداث نقلة نوعية في مجال حقوق الإنسان. وكذلك تفعيل قاعدة العمل المتوازي مع كافة المجالات، وربطها بمجال حقوق الإنسان.
إعلاء حقوق الإنسان والاهتمام بها أمر لا يراه جمال الدين جديدًا بمصر. إذ أن مصر تدعم المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، وأيضًا تعزيز حقوق الإنسان بمفهومها الشامل. ذلك ضمن إطار تخطيط استراتيجى يعبر عن إرادة وطنية جادة، والتزام صادق بتعهدات مصر الدولية، ورؤية مستقبلية شاملة.
ووفق جمال الدين، فإنه رغم ما فرضته جائحة كورونا من قيود على دول العالم، استطاعت مصر حماية حقوق الإنسان في ظل هذه الأوضاع الاستثنائية. ما يؤكد -على حد قوله- أن مصر ستنجح في إعداد استراتيجية جديدة لمزيد من التقدم في هذا المجال.
الاستراتيجية الجديدة لا تغفل ملف الحريات الدينية، ومناقشة دور الوزارات المختصة والمؤسسات الدينية. وأيضًا المبادرات والأنشطة التي تبرز قيم التسامح والحوار، والتصدي للأفكار المتطرفة.
أيضًا، تتطرق إلى ترميم الآثار الدينية والاهتمام بها. على اعتبار أن مصر بدأت بالفعل في تنفيذ خطة ترميم بعض الآثار المصرية، ومن بينها معابد يهودية في محافظتي القاهرة والإسكندرية، وأيضًا أعمال ترميم وتجديد المواقع الدينية الأثرية الواقعة على مسار رحلة العائلة المقدسة في مصر.