بين عشرات المقالات والصور والتحقيقات التى نشرت بالصحافة وعبر وسائل التواصل مؤخرًا تنعى السيناريست الشهير وحيد حامد وتشيد بأعماله أو حتى تعيد الهجوم عليه وعلى أفلامه، لفت الأنظار تعليق طويل على “فيسبوك”، كتبه وكيل جهاز أمن الدولة عهد مبارك اللواء عبد الحميد خيرت عن علاقة جهاز أمن الدولة بالسينما في فترات دقيقة كانت مشحونة بحوادث التطرف الديني والإرهاب والنشاط الإخواني في مصر.

وبعيدًا عن تفاصيل التعاون أو الصراع بين الجهات الأمنية وصناع الأعمال الدرامية في فترة بعينها، تأخذنا أفلام السينما المصرية، لرؤية أوسع على مدى 70 عام تقريبًا، تغيرت فيها صورة رجال الشرطة صعودًا وهبوطًا مع تغير الأنظمة وتعاقب الأحداث السياسية وتيارات الفكر السائدة في المجتمع حينها.

1954

إلى أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس.. لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه.. الدواء فيه سم قاتل!

بهذه الجملة التى يحفظها معظمنا، اشتهر فيلم (حياة أو موت) للمخرج كمال الشيخ، وهو من أفلام الأبيض والأسود، التي أظهرت رجل الشرطة متمتعًا بأقصى درجات الالتزام والهيبة وأناقة المظهر والأسلوب.

الفيلم بطولة عماد حمدي ومديحة يسرى، الذين قاما بدور الزوج والزوجة، الذين يحدث بينهما خلاف فتترك الزوجة بيتها، وتذهب لبيت والدها، ويعانى الزوج عماد حمدى المرض الشديد ويرسل ابنته في شراء دواء تركيب وصفه له الطبيب.

تتصاعد أحداث الفيلم كلها في مشوار الطفلة إلى الصيدلية ثم أخذها دواء بطريق الخطأ فيه مادة سامة. ويكتشف الصيدلى خطأه بعد أن ترحل الطفلة لبيتها ومعه زجاجة الدواء، فيتوجه الصيدلي إلى قسم الشرطة مباشرة للإبلاغ، معتمدًا على الشرطة وواثقًا أن البوليس سيستطيع إنقاذ أي روح بريئة، لأن مهمته الأساسية، حماية أرواح الناس.

يظهر من خلال الفيلم أن عدد السكان في مصر وقتها (2 مليون ونص) كما ورد نصًا في الحوار، والمثير أن احداث الدراما تتصاعد حتى يصل الخبر إلى وزير الداخلية، الذي يقوم بدوره في الفيلم يوسف وهبي شخصيًا.

ورغم أن جمل حواره في الفيلم قصيرة ومقتضبة، حيث تعمد المخرج التركيز على لغة الكاميرا والحركة والحبكة الدرامية وتلاحق الصدف والمشاهد،يقدم فيلم حياة أو موت صورة ممتازة ومثالية لرجال الشرطة في مصر، من ضابط القسم إلى وزير الداخلية، وينتهى الفيلم بأن إخلاصهم لدورهم في حماية الناس، وحسهم الإنسانى المصحوب بالذكاء واتساع الحيلة، هو الذى جعلهم في النهاية ينجحون في تنبيه البطل القاطن بدير النحاس، عبر راديو الإذاعة، وبالتالى إنقاذه وحماية اسرته..

فأي دور أنبل أو أفضل من ذلك؟

1956

فيلم (إسماعيل ياسين في البوليس) قدم نفس الرسالة الإيجابية عن البوليس في مصر، بشكل كوميدي إنساني عاطفي، كان أكثر تأثيرًا في النفس والذاكرة، وهو أيضًا من أفلام الأبيض والأسود الشهيرة الممتعة يحكى قصة الشاويش زكي (إسماعيل يس) الذى تحبه البطلة (زهرة العلا) بينما هو يحب جمالات، ابنة صاحبة البيت الذى يسكنه في الحي الفقير، وجمالات يعجبها أكثر شاب رياضي مفتول العضلات ووسيم ويسكن نفس البيت يقوم بدوره رشدى أباظة، ومع هذه المنافسة غير المتكافئة ما بين إسماعيل ياسين ورشدى أباظة، تحدث سرقة لمحل الجواهرجي المعروف في نفس الشارع، وتسمح الأحداث للشاويش زكي ان يلصق التهمة بغريمه ويتخلص منه، خاصةً أنه كان متهما والشكوك تحوم حوله، والأدلة بالصدفة تجمعت ضده حتى تم القبض عليه قبل زفافه بساعات على جمالات، لكن الشاويش زكي وهو في قسم البوليس أثناء التحقيق مع منافسه اللدود، يرى على جدران القسم أكثر من برواز يحمل عبارات وإشعارات وأقوال مأثورة تدعو للصدق وتحث على التمسك بالفضيلة وتحذر من الظلم، فيستيقظ ضميره، ويشهد بحقائق يعرفها وتثبت براءة المتهم الذي كان على وشك دخول السجن، وكأنه اختار ان يضحى بحبه وزواجه من جمالات التى كان يهيم بها، مقابل، أن يرضى ضميره ولا يظلم بريئًا، ويحتفظ بشرفه وشرف المهنة.

رغم أنه بالأساس فيلم كوميدي وكالعادة ينتهي بسعادة الحب وزواج الأبطال، لا ينسى السيناريست السيد بدير ولا المخرج فطين عبد الوهاب، أن يصنعا في الفيلم رسائل ضمنية رغم بساطتها الشديدة، كانت تؤكد للبوليس رمزية الشرف والسيطرة على الجريمة والعدل والشفافية حتى مع أبناء الجهاز الشرطي نفسه.

لكن شيئًا ما حدث وغير رأي السينما المصرية في رجال البوليس ما بعد الخمسينات.

  • في العام 1971 تخرجت اول دفعة من معهد امناء الشرطة رسميا ، وفي العام 1972 عرض فيلم سعاد حسنى خللى بالك من زوزو ، واشتهرت اغنية ياواد يا تقيل ومقطع (ما تقولش آمين شرطة اسم الله.. ولا دبلوماسي)!

وقتها احتفت السينما بأمناء الشرطة ، ومظهرهم الوجيه ، لكن المخرج يوسف شاهين و مساعده المخرج خالد يوسف قلبًا الصورة رأسًا على عقب في الفيلم الشهير ( هى فوضى ؟) انتاج 2007 ، ومثل مصر في مهرجان فينسيا 2008، وقد سبق ثورة 25 يناير 2011، وقال النقاد إنه بشر بها، عن طريق تقديم شخصية آمين الشرطة حاتم.

(بطل الفيلم خالد صالح) الذى قدم صورة أمين الشرطة المرتشى الذي يفرض على كل من يحيط به (فردة) أو دفع مبالغ مالية بالابتزاز و الإجبار كبلطجية الحوارى والأحياء القديمة في روايات نجيب محفوظ، دلالة على منتهى الظلم والجبروت والسيطرة ، وظهر من أحداث الفيلم أن آمين الشرطة هو أول من يخترق القانون ويستخدم العنف، ويهدد بالقوة والنفوذ ضد المستضعفين، حتى يشرع في خطف واغتصاب البطلة (منة شلبي) الأمر الذي فسره النقاد بأنه رمزية لانتهاك مصر بالكامل، وثورة الناس ضد حاتم آمين الشرطة واندفاعهم حتى اقتحموا قسم الشرطة الذي يأويه، هو إشارة وتحذير من ثورة وغضب الناس، الذي ترجم فيما بعد في 25 يناير!!

  • على الجانب الآخر من الصورة فيلم مثل ( الشيطانة التي أحبتني) بطولة محمد صبحي ولبلبة وعائشة الكيلاني، عرض بطريقة غاية الكوميديا والوضوح لأول مرة كيف أن الشرطة تفكر بطريقة تقليدية قديمة وخططها معتادة ومحفوظة، لدرجة جعلت العصابة تخترق بيت ظابط الشرطة نفسه وتسرقه بحرفية وذكاء دون استخدام أي عنف أو تكلفة حتى سلاحه الميري جردته منه بسلاسة مطلقة. وظهر في نفس الفيلم كيف أن العصابة والمجرمين يتبعون أساليب علمية متطورة في التخطيط والتفكير وتنفيذ عمليات السطو و السرقة، لدرجة تصاعدت فيها الكوميديا حتى تم فصل الضابط (صبحي) من الداخلية وانضم لأفراد العصابة وتمرن على أساليبهم الحديثة، حتى نال شهادتهم العليا وطلق زوجته (عائشة الكيلاني) وتزوج ابنة زعيم العصابة (لبلبة)!

ورغم مبالغات الخيال الكوميدي، لكنها كانت إشارات مبكرة من أصحاب الفن السابع لجمود الفكر الشرطي وعدم تطوره وتفوق الفكر الإجرامي عليه.

  • مع هذه الأفلام الهامة في تاريخ السينما المصرية، أفلام عادية أو حتى ذات مستوى سنيمائي متدن، مثل (خالتى فرنسا) 2004، الذى استعرض حياة العشوائيات من جانب كوميدي، وقدم صورة لضابط الشرطة النفعي الانتهازي، العاجز عن أداء عمله إلا من خلال تجنيد مخبريين بالابتزاز والإجبار.