يتحرى النظام الإيراني مؤخرًا -عبر عدة قرارات تبدو تصعيدية تتصل بالاتفاق النووي- خلق هامش مناورة مع الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن. وهو يستعين في ذلك بورقة الضغط على دول الترويكا (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا). الأمر الذي يجرى تحت وطأة ضغوطات أو بالأحرى سياقات متفاوتة، محلية وإقليمية. ومن بينها اغتيال العالم النووي، محسن فخري زاده، في طهران.

انتهاكات الاتفاق النووي.. الخلفيات والسياق

النظام الإيراني الذي ينبذ بأقصى ما يمكن التيار الإصلاحي ويعمد إلى تنحيته عن إدارة المشهد السياسي، يرغب في مواصلة خروقاته لبنود الاتفاق النووي. ذلك بدعوى عدم التزام الولايات المتحدة. على خلفية “الانسحاب الأحادي” الذي قام به دونالد ترامب في العام 2015. ومن ثم فرض عقوبات اقتصادية على النظام في طهران، شملت القطاعين المالي والنفطي.

من التصعيد الذي يمارسه النظام الإيراني، إعلان الناطق باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، بهروز كمالوندي، بشأن رفع التخصيب. إذ قال إن بلاده يمكنها بسهولة رفع تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 90%. وهي النسبة التي تجعل طهران بمقدورها إنتاج أسلحة نووية.

أثناء مراسم أربعين العالم النووي الإيراني الذي تعرض للاغتيال، قال كمالوندي إن “التشريع الأخير الذي أقره البرلمان الإيراني، الشهر الماضي، يجيز لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، أن تقدم على تخصيب اليورانيوم بنسبة تفوق الـ20%”. واشترط لرفع التخصيب الحاجة في بعض المجالات.

قنبلة تهدد مصير الاتفاق النووي

بالتزامن مع الكشف عن رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20% في منشأة فوردو، أكد كمالوندي على أن طهران “قادرة على تخصيب اليورانيوم بنسب تتراوح بين 40 إلى 60%، إذا لزم الأمر”. ذلك وفق قرار البرلمان الإيراني الأخير باتخاذ خطوات جديدة تهدف إلى إلغاء العقوبات الأميركية.

بعد قرار النظام الإيراني استئناف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، بالمخالفة لبنود الاتفاق النووي (الذي حدد نسبة لا تتجاوز 3.67%)، عاودت طهران تهديداتها بطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ذلك في حال لم يجر رفع الحظر عنها في النصف الثاني من الشهر المقبل (فبراير)، بحسب ما أعلنه البرلمان الإيراني.

وبينما عمد البرلمان الإيراني إلى تمرير قانون يستهدف منع تفتيش أعضاء الوكالة الدولية للمواقع والمحطات النووية في طهران، الذي يقوده المتشددون والجناح الراديكالي في النظام القريب من المرشد علي خامنئي، فإن الرئيس الإيراني حسن روحاني أعلن رفضه القانون الذي من شأنه أن يعلق عمليات التفتيش الدولية. ووصفه بأنه “ضار بالجهود الدبلوماسية”.

بيد أن عضو الهيئة الرئاسية للبرلمان الإيراني، أحمد أميرابادي فراهاني، رد: “سيطرد مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية من طهران بحلول الشهر المقبل”. ذلك ما لم يتم رفع إجراءات الحظر الأميركي الظالم ضد الشعب الإيراني، على حد قوله.

وأوضح في تصريحاته أن “المفتشين سيطردون بالتأكيد”. ذلك ما لم يتم إزالة الحظر، خصوصًا عن القطاعات المالية والمصرفية والنفطية. كما أضاف أن الجمهورية الإسلامية ستوقف بالتأكيد التنفيذ الطوعي للبروتوكول الإضافي. حيث إن الحكومة ملزمة بتنفيذ قانون مجلس الشورى الإسلامي الذي ينص على هذا. أيضًا لفت إلى أن “الهدف الرئيس من وراء المفاوضات النووية كان رفع إجراءات الحظر، وهو ما لم يتم تحققه بالفعل”.

الخلاف الداخلي الإيراني.. تطويق فرص روحاني

هذا الخلاف في الداخل الإيراني ليس الأول بين تيار الإصلاحيين الممثل في الرئيس روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، والتيار المتشدد من الحرس الثوري أو المرشد الأعلى، كما يرى الباحث المصري، الدكتور هاني سليمان. غير أن حالة التوتر تعكس نوع من خيبة الأمل الكبيرة بالنسبة لروحاني. فقد تحمل الرجل العقوبات الاقتصادية الطاحنة، وضغوط كبيرة أخرى حتى الوصول إلى تلك المرحلة (مرحلة قدوم بايدن)، الذي يعول عليه روحاني لإنقاذ الاتفاق النووي. وهو الإنجاز الأكبر في مسيرة روحاني الرئاسية.

يؤكد سليمان -في تصريحاته لـ”مصر 360″- أن خطوات البرلمان والتيار المتشدد في طهران، تعمد إلى تطويق فرص روحاني السياسية. ذلك لسحب البساط من تحت أقدامه، في ظل وجود ثأر قديم لرئيس البرلمان محمد باقر قالبيقاف مع روحاني. إذ ترشح الأول ضد الأخير في الانتخابات الرئاسية.

ما بعد ترامب.. تمهيد العودة للاتفاق النووي

يقول الباحث المصري، الدكتور هاني سليمان، إن النظام الإيراني يمهد إلى مرحلة ما بعد ترامب. ويضيف أن طهران تتحضر من أجل إعداد وسائل ضغط على واشنطن ودول الترويكا، المنخرطة في الاتفاق النووي. وذلك بهدف رفع العقوبات التي أقرتها إدارة دونالد ترامب، وفاقمت من الأوضاع الداخلية بإيران. هذا كله تحت وطأة الأزمة المحتدمة بين واشنطن وطهران على خلفية فشل الاتفاق النووي.

في نوفمبر الماضي، أعلن المدير العام للوكالة الدولية، رافاييل غروسي، أن “الوكالة لم تتبلغ من إيران وقفًا لعمليات التفتيش”. الأمر الذي طالب به المحافظون المتشددون في طهران بعد اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة.

وتابع: “نتفهم الحزن، ولكن في الوقت نفسه من الواضح أن أحدًا لن يربح من تقليص العمل الذي نقوم به معًا أو الحد منه أو وقفه.. ومن جهتنا، نواصل عملنا، ونأمل بأن يكون الأمر على هذا النحو من جانبهم، وكما قلت، لم أتلق أي إشارة إلى أن الأمر سيكون مختلفًا”.

التخصيب ورقة ضغط لرفع العقوبات

عليه، فإن طهران لم تعدم حيلة لخرق بنود الاتفاق النووي، بعد دخول العقوبات الاقتصادية الأمريكية حيز التنفيذ. الأمر الذي استدعى -من جانبها- التأكيد على عدم الالتزام “القانوني” في المقابل. ومن ثم، نقلت أول سلسلة لأجهزة الطرد المركزي المتطورة في نوفمبر الماضي، من محطة فوق الأرض بموقعها الرئيسي لتخصيب اليورانيوم، إلى أخرى في باطن الأرض بمجمع فوردو النووي جنوبي طهران. بالإضافة إلى تجاوز الحد الأقصى المسموح به من تخزين اليورانيوم المخصب وفقًا للاتفاق، الذي يحدد كمية 300 كجم بنسبة 3.67%.

قال المتحدث الرسمي باسم الحكومة الإيرانية، علي ربيعي، إن بلاده استأنفت تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% في المنشأة النووية في مجمع فوردو للتخصيب تحت الأرض. وبحسب بيان رسمي صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن “إيران بدأت الإثنين ضخ اليورانيوم-235 المخصب بالفعل حتى 4.1%”. وذلك في ست مجموعات من أجهزة الطرد المركزي في محطة فوردو لتخصيب اليورانيوم. بغية رفع مستوى التخصيب إلى 20%.

من جانبه، أوضح الناطق الرسمي بلسان مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، أن أوروبا ترى في رفع نسبة تخصيب اليورانيوم الأخير “خرقًا صريحًا” للاتفاق النووي. وأردف: “إذا تم تطبيق ما أعلنوه، فسيكون ذلك انتهاكًا واضحًا لالتزامات الاتفاق النووي، كما ستكون له عواقب وخيمة على عدم انتشار الأسلحة النووية”.

احتمالية انهيار الاتفاق النووي

بحسب بنود الاتفاق النووي، تلتزم إيران بتخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي العاملة التي تستخدمها في تخصيب اليورانيوم إلى نحو 5060. بينما يفترض أن يستمر ذلك حتى العام 2026. بعدما كان لديها ما يقارب 20 ألف جهاز طرد مركزي في يوليو العام 2015.

أيضًا يلتزم النظام الإيراني -حسب بنود الاتفاق- بضبط وتعديل مفاعل أراك للمياه الثقيلة. وذلك تحت إشراف الجهات الأممية، حتى لا يكون بمقدورها إنتاج البلوتونيوم للاستخدامات العسكرية في هذه المنشأة. وقد جرى تكليف الوكالة الدولية بمراقبة كل المحطات النووية الإيرانية بانتظام.

إذن فاحتمال انهيار الاتفاق النووي وارد، كما أوضح مساعد وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي -في تصريحات سابقة. كما أن طهران مستعدة للتعايش دون الاتفاق.

عراقجي يدافع عن استئناف بلاده التخصيب بنسبة 20٪، فيقول إنه قانوني بموجب معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية ومعاهدة الضمانات. وكذلك بموجب الاتفاق النووي. ويضيف أن التخصيب بنسبة 20٪ لا يعني موت الاتفاق النووي. ومن ثم فلن نقبل باتفاق نووي جديد، ولن تقبل بأي تفاوض جديد أو شروط أمريكية مسبقة حول الاتفاق الحالي، على حد قول الوزير الإيراني.