ينتظر “محمد.ع” يعمل أخصائيًا لأمراض القلب، بفارغ الصبر استئناف حركة الطيران -التي توقفت 3 أشهر- حتى يتمكن من العودة إلى مشفاه حيث يمارس مهام عمله في المملكة العربية السعودية. هو كغيره من أطباء آخرين قرروا الهرب بمهنتهم إلى الخارج، مع تزايد الأخطار التي يواجهها الكادر الطبي في مصر. خاصة في ظل جائحة كورونا والشكاوى المستمرة من ضعف إجراءات مكافحة العدوى. فضلاً عن تدني الأجور والمعاشات.
قبل أيام قليلة، أصدر المركز المصري للدراسات الاقتصادية دراسة صادمة حول وضع القطاع الطبي في مصر ضمن تحليل لآثار كورونا على الاقتصاد المصري. إذ كشفت عن نقص حاد في مقدمي الخدمات الصحية نتيجة هجرة الأطباء. وقد قدرتهم الدراسة بنحو 7 آلاف طبيب غادروا البلاد. فضلاً عن وفاة نحو 276 طبيبًا آخرين جراء الإصابة بالفيروس خلال الموجة الأولى. وهو ما ارتفع إلى 286، في أحدث إحصائية لنقابة الأطباء المصرية.
واقعيا، لا توجد وسيلة محددة لمعرفة عدد من غادر من الأطباء سواء بشكل مؤقت للعمل في دول الخليج وأفريقيا أو للعمل بشكل دائم في دول العالم الأول، هذا ما تعتقده الطبيبة منى مينا، العضو السابق بمجلس نقابة الأطباء، لكنها أكدت في المقابل على أن اتجاه الأطباء للسفر خارج مصر تزايد في اخر 5 سنوات، ويتزايد بشكل لافت سنة بعد سنة.
دراسة حكومية حول أعداد المهاجرين
وفقًا لدراسة أعدها المجلس الأعلى للجامعات والمكتب الفني لوزارة الصحة تحت عنوان: “احتياجات سوق العمل من المهن الطبية خلال الـ5 سنوات القادمة بدءًا من 2020″، فإن عدد الأطباء البشريين المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة، باستثناء أصحاب المعاش، يبلغ 212 ألف و835 طبيبًا.
يعمل من بين هؤلاء 82 ألف طبيب فقط. وذلك بنسبة 38% من عدد الأطباء المسجلين. وهم إما يعملون في المستشفيات التابعة لوزارة الصحة أو المستشفيات الجامعية الحكومية أو القطاع الخاص.
وبالمقارنة بين عدد الأطباء العاملين حاليًا في قطاعات الصحة وعدد المسجلين أو الحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة من نقابة الأطباء. فإن 62% منهم يعملون خارج مصر وهم إما استقالوا من العمل الحكومي أو حصلوا على إجازات بدون راتب قبل سفرهم، بحسب الدراسة.
الأطباء وهروب ينتظر السماح بالسفر
“بالصدفة سافرت إلى السعودية وأنتظر العودة بفارغ الصبر.. فالمرتب في مصر لا يكفي من هو مثلي ولا يعين في إعالة أسرة”، يبرر الطبيب “محمد. ع” سعيه إلى الهجرة. وهو أمر نجح في تحقيقه يوليو الماضي. بعد أن أرسل سيرته الذاتية والشهادات الخاصة به إلى بريد إلكتروني مرفق بإعلان طلب أطباء للعمل في السعودية.
في البداية، رفضت أسرة محمد الفكرة واعتبروا سفره “انتحارًا” خارج الوطن. “لكنهم كانوا أكثر الناس دراية بما أتعرض له من مشاكل وظروف معيشة صعبة هنا”؛ يقول “محمد” الذي نجح في إقناع أسرته بضرورة هذه الرحلة.
يصف الطبيب الوضع في مصر قبل سفره فيقول: “المستشفى اللي كنت شغال فيها كانت بتوفر لنا مستلزمات يوم ويومين مفيش وكنا بنشتري الماسكات والجوانتيهات على حسابنا ده إذا لقيناهم”. وهو وضع وجد عكسه تمامًا في الخارج في ظل وسائل وقاية كافية تُمنح للعاملين بالقطاع الطبي، على حد قوله.
أوضاع قاسية
تقول الطبيبة منى مينا إن ظروف ممارسة الطب في مصر صعبة وقاسية جدًا على شباب الأطباء. سواء من حيث تدني الأجور أو التعرض للاعتداء أو التعرض للعدوى أو التعسف الاداري. بينما تفتح دول العالم ذراعيها لأي طبيب، حسب تعبيرها.
ولا ترى مينا أن هؤلاء الأطباء الذين يسعون إلى العمل بالخارج لا يهربون في حقيقة الأمر من مواجهة كورونا. إذ إنهم يواجهونها بالفعل في الدول التي يسافرون للعمل بها. لكنهم هناك يواجهون الأمر مع توافر في مستلزمات حمايتهم وتوفير إمكانيات لعلاج المرضى. وأيضًا توفير الرعاية الصحية اللازمة في حال تعرض أي طبيب للإصابة.
وتضيف مينا، في تصريحاتها لـ”مصر 360″: “في مصر التعامل مع الأطقم الطبية وسلامتهم يأتي دائمًا في مرتبة متأخرة للغاية. حتى مع اجتياح كورونا بلادنا. ومثال على ذلك قرار وزارة الصحة إرسال الأطباء للإشراف على مرضى العزل المنزلي. هذا قرار خاطئ جدًا ولا يتفق مع معايير مكافحة العدوى”.
تجديد إجازة
لن يتردد “أ. م” طبيب النساء والتوليد، الذي قضى 13 سنة في إحدى دول الخليج، قبل تجديد إجازته أثناء تواجده في مصر قبل أيام، في تقديم استقالته للحيلولة دون أي رفض من مديرية الصحة التابع لها، قد يعطل إجراءات عودته إلى الخارج. هو الآن يتقاضى راتبًا مجزيًا وينعم بدرجة أمان مهنى معقولة ربما لم يحظ بها خلال فترة عمله بإحدى مستشقيات الأقصر، حتى قبل الجائحة.
طبيب النساء والتوليد -الذي فضل عدم ذكر اسمه- اعتبر السفر الخيار الأنسب. خصوصًا في ظل تسارع وتيرة الإصابات بالفيروس، وغياب الإجراءات التي تحمي الفريق الطبي. موضحًا أنه يتابع باستمرار الأرقام الصادرة عن نقابة الأطباء عن أعداد ضحايا الفيروس من أبناء مهنته. ويعلق عليها: “لا يوجد في الخارج هذا الكم من المخاطر التي يتعرض لها الأطباء داخل مصر”.
المنع لمواجهة النقص
فى أكتوبر 2018، قبل جائحة كورونا، صرح رئيس الوزراء مصطفى مدبولى، بأن مشكلة نقص الأطباء بمستشفيات الدولة لا يحلها إلا وقف تجديد الإجازات للأطباء العاملين بالخارج. وتبع ذلك أن تقدم عدد من أعضاء مجلس النواب بمقترحات لقانون ينص على حظر الأطباء من السفر إلى الخارج إلا بعد قضاء 10 سنوات في المستشفيات الحكومية.
التصريحات الحكومية والبرلمانية أثارت اعتراضات كبيرة فى الأوساط الطبية. إذ يؤكد عدد من الأطباء العاملين بالخارج أنهم لن يتركوا عقود عمل برواتب جيدة ويعودوا للعمل براتب هزيل في مستشفيات تنقصها أبسط الإمكانات، وإن اضطرهم الأمر إلى الاستقالة والبقاء بالخارج. ليصدر بعد ذلك قرار بالسماح بالتجديد، ويغلق الجدل بهذا الشأن مؤقتًا. إلا أنه ومع الموجة الأولى لفيروس خرجت نفس التصريحات من جهات حكومية مختلفة.
الإجازة الحائرة بين القرارات
في 21 ديسمبر الماضي، وبالتزامن مع الموجة الثانية لفيروس كورونا، خرج منشور من وزارة الصحة حمل إشارة “هام للغاية”، موجه لنواب ومستشاري ومساعدي ومعاوني الوزيرة، ورؤساء الهيئات والمؤسسات، ووكلاء الوزارة بجميع المحافظات، يؤكد على عدم الموافقة على منح أي إجازات للأطقم الطبية، وذلك في ضوء المتابعة المستمرة للموقف الوبائي للفيروس.
كما قررت الوزارة أيضًا إيقاف الإجازات غير الوجوبية، التى تشمل السفر للخارج. أو تحسين الدخل أو مرافقة الزوج. وبالفعل رفض موظفي عدد من المديريات التجديد وأبلغوا أطباء راغبين بالسفر بأنّ الإجازات ممنوعة.
وبعد تدخل نقابة الأطباء لدى وزارة الصحة للسماح لهؤلاء الأطباء بتجديد إجازاتهم، صدر في 2 يناير الجاري، منشور آخر “هام وعاجل” من محمد عبدالوهاب، رئيس قطاع شؤون مكتب الوزيرة، موجه لنفس الجهات السابق ذكرها، يتضمن الموافقة على تجديد الإجازات للعمل بالخارج، والمقدمة من أعضاء المهن الطبية والعاملين بالقطاع الصحي.
60 ألف طبيب في الخليج
وفق الدكتور أسامة عبد الحي، أمين عام نقابة الأطباء، فإن مصر لديها قرابة ٦٠ ألف طبيب يعملون بالخليج. وهم يشكلون نسبة أكثر من70% من الأطباء هناك.
هنا، يؤكد عبد الحي أن حل مشكلة هجرة الأطباء يكمن فى دراسة أسبابها ومحاولة تحسين جميع ملفاتها. لا زيادة عدد الخريجين من الأطباء. ويضيف أنه بعد البحث عن أسباب زيادة هجرة الأطباء، تبين أن ضعف الأجور أهم الأسباب. إلى جانب صعوبة الحصول على فرص التسجيل للدراسات العليا، والتي لا تستوعب جميع الدفعات. لافتًا إلى أن 5000 طبيب يستطيعون التسجيل سنويًا. بينما مثلهم لم يستطع رغم أنه أمر ضرورى لمهنة الطب.
ويشير أمين نقابة الأطباء إلى تفهم النقابة موقف وزارة الصحة بتوفير الإمكانات البشرية لمواجهة وباء كورونا وسد العجز في أي مكان. لكنه يؤكد في الوقت نفسه أنه لا يوجد ثمة تأثير على أداء المنظومة الصحية حتى الآن من هجرة الأطباء. ويضيف أن الاطباء المهاجرين هم القوة الناعمة لمصر.
معاش الشهيد
“نواجه حالة صم الأذان”؛ تقول الطبيبة منى مينا واصفة الاستجابة الحكومية لمطالب نقابة الأطباء بتوفير معاش شهيد لأسر الزملاء الشهداء من الأطقم الطبية.
وتوضح مينا أن “هذه المطالبات بدأت من شهر مارس ومازلنا مضطرين لتقديم حجج وأسانيد والكثير من الكلام لنيل حق بسيط وواضح لتكريم ودعم الأسر التي قدمت أغلى ما عندها.. ما زلنا نحدث أنفسنا دون أي رد”. وتضيف: “وضعنا لا يقارن بالسعودية التي تمنح نصف مليون ريال لأي طبيب أو عامل في القطاع الصحي يتوفى بسبب الإصابة بكورونا سواء كان سعوديًا أو وافدًا، بالإضافة إلى تعويض إصابة العمل”.
وتشير إلى أن عدد الوفيات بين الأطباء نتيجة الإصابة بفيروس كورونا المستجد “كوڤيد19” في مصر يتخطى الـ300 حالة. إذا أخذنا في الاعتبار الأطباء الذين أصيبوا واستشهدوا قبل إجراء الفحوص المؤكدة لإصاباتهم.وذلك بمعدل يصل إلى نحو 3%. بينما تنخفض هذه النسبة في إنجلترا مثلاً إلى 0.5% وفيات بالفرق الطبية (يمثل الأطباء ربع الطاقم الطبي والباقي من العمال والفنيين والتمريض).
وعن قرار وزيرة الصحة اعتبار كورونا إصابة عمل، بما يتفق مع قانون إصابة العمل بالأمراض المعدية، تعلق منى مينا: “معاش الطبيب الشاب في حالة وفاته لا يتجاوز الـ4000 جنيه”. متساءلة: “هل المبلغ ده هيعوض أسرهم أو هيكفوا مصاريف أطفالهم في المدارس؟!”.
الدعم المطلوب
في مايو الماضي، وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال افتتاحه أحد المشروعات التنموية بمحافظة الإسكندرية، بإطلاق أسماء الأطباء الذين ضحوا بحياتهم في مواجهة انتشار فيروس كورونا. ذلك إلى جانب أسماء القضاة وضباط الشرطة والجيش من الشهداء على شوارع المدن الجديدة في مصر.
وفي يونيو، أشاد الرئيس خلال افتتاح عدد من المشروعات القومية، بالتضحيات التي قدمتها الأطقم الطبية تزامنًا مع أزمة انتشار فيروس كورونا.
وفي نوفمبر، أعرب خلال كلمة مسجلة داخل مجلس الوزراء عن تقديره الكبير والاحترام للأطقم الطبية التي تقوم بدور عظيم جدًا. وأكد أن الأطباء يقومون بمجهود عظيم جدًا منذ نهاية العام الماضي، ومستمر من بذل جهد وضغط كبير جدًا.
مع بداية الموجة الأولى من جائحة كورونا، عادت مطالب الأطباء بزيادة بدل العدوى. على اعتبار أنهم الفئة الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس. خاصة أن قيمة بدل العدوى لا تتجاوز 19 جنيهًا. كما طالبوا بضرورة توفير المستلزمات الطبية اللازمة لمكافحة العدوى. وأيضًا اتخاذ الإجراءات الاحترازية لمنع زيادة انتشار الفيروس.
زيادة البدل والمكافآت الاستثنائية
نقابة الأطباء قدمت اقتراحًا للحكومة ومجلس النواب بزيادة البدل ليتراوح بين 1000 إلى 3000 جنيه شهريًا. وذلك طبقًا لنسب التعرض للعدوى العالمية.
وفي مارس من العام الماضي، استجابت الدولة لمطالبهم، ووجه الرئيس بزيادة بدل المهن الطبية بنسبة 75 % عن قيمته. بما يشمل الأطباء العاملين بالمستشفيات الجامعية. وذلك بتكلفة إجمالية قدرها نحو 2,25 مليار جنيه.
كما وجه بصرف مكافآت استثنائية لكافة العاملين حاليًا بمستشفيات العزل والحميات والصدر والمعامل المركزية على مستوى الجمهورية. على أن تصرف تلك المكافآت الاستثنائية من صندوق تحيا مصر.
طبُقت الزيادة في يوليو الماضي. وبحسب تصريحات مسؤولي الصحة، فإنه تم رفع بدل المهن الطبية وتعديل مسماه لبدل مخاطر العدوى. كما تم تعديل قيمته من 19 جنيهًا للأطباء إلى 1225 للأطباء البشريين. و825 لأطباء الأسنان والصيادلة والبيطريين. و790 جنيهًا لأخصائي التمريض والكيمائيين. وأخيرًا 700 جنيه للحاصلين على الدبلومات الفنية وفنية تمريض والفنيين الصحيين.
وفي سبتمبر الماضي، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي القانون رقم 184 لسنة 2020 بتعديل بعض أحكام قانون تنظيم شؤون أعضاء المهن الطبية العاملين بالجهات التابعة لوزارة الصحة والسكان من غير المخاطبين بقوانين أو لوائح خاصة. ومد الخدمة لأعضاء المهن الطبية، وإنشاء صندوق التعويض عن مخاطر المهن الطبية، والذى بمقتضاه سيتم زيادة بدل مخاطر المهن الطبية، بنسبة 75 % تنفيذًا لتوجيهات القيادة السياسية. وصرف تعويضات مخاطر المهن الطبية بأثر رجعى للمصابين أو المتوفين جراء جائحة فيروس كورونا من أعضاء المهن الطبية.
نص القانون على إنشاء صندوق التعويض عن مخاطر المهن الطبية. وأيضًا صرف تعويضات مخاطر المهن الطبية اعتبارًا من يوم 13 فبراير 2020، منذ بداية أزمة جائحة فيروس كورونا.