لما كان من المقدر على المشرع الجنائي أن ينتهج الأطر الدستورية والوسائل القانونية السليمة سواء في جوانبها الموضوعية أو الإجرائية لضمان ألا تكون العقوبة أداة عصف بالحرية، ولتكون العقوبة التي يفرضها الشارع في شأن الجريمة والعقاب تبلور مفهومًا للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التي يستهدفها التشريع، لاتصال هذه القوانين المباشر بالحرية الشخصية التي أعلى الدستور قدرها وأحاطها بنسق دستورية تعلي من شأنها، وتعل من العدوان عليها جريمة لا تسقط بالتقادم.

فالجزاء الجنائي لا يكون مُبَرّرًا إلا إذا كان واجبًا لمواجهة ضرورة اجتماعية تكافئه جسامة وخطرًا، بتناسبه مع الفعل المؤثم فإن جاوز ذلك كان مفرطًا في القسوة مجافيًا للعدالة، ومنفصلًا عن أهدافه المشروعة، أي الدستورية، ومن ثم يجب أن لا تكون العقوبة تعبيرًا عن إشباع غريزة الثأر والانتقام، بالبطش بالمتهم باعتباره عضوًا فاسدًا أو متعديًا على حقوق الجماعة، فالجزاء الجنائي لا يكون مُبَرّرًا إلا إذا كان واجبًا لمواجهة ضرورة اجتماعية تكافئه جسامة وخطرًا، بتناسبه مع الفعل المؤثم فان جاوز ذلك كان مفرطًا في القسوة مجافيًا للعدالة، ومنفصلًا عن أهدافه المشروعة، أي الدستورية.

كما أنه من ناحية الصياغة الواجبة للتشريعات العقابية يجب أن تصاغ تلك النصوص في حدود ضيقة وبأنه لا يجوز أن يكون أمر التجريم فرضيًا وهو ما يتحقق في كل حال يكون النص العقابي محملًا بأكثر من معني أو مرهقًا بأغلال تعدد تأويلاته أو مرنًا متراميًا بحسب الصيغة التي أفرع إليها.

المحكمة الدستورية

ولأن التشريعات العقابية وتطوراتها هي في حقيقتها تشكل تاريخًا لتطور ضمير الجماعة، ومقياسًا لمستوى التحضر، بحسب كونه يعالج مقتضيات سلوك الأفراد كمفرد من مفردات الجماعة، وكلما تلاحق التشريع المجرم المعاقب وتعدد كان ذلك مؤشرًا لملاحقة الأفراد في سلوكياتهم من ناحية، ومؤشرًا للعلاقة بين الحكام والمحكومين من ناحية أخرى، وكذلك دالًا على الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للجماعة، ومن ثم يلزم عند كل تطوير تشريعي مراجعة التطور التاريخي لمشروع النص المستحدث بحسب وروده بالمشروع الجديد، مقارنة بالنصوص القرينة به بالتشريعات الأقدم، توفيًا لمصائر التشريعات الأقدم من حيث إعادة التعديل أو الإلغاء، أو الصدام الاجتماعي لدى التطبيق.

كما أنه من الأجدر النظر للتشريعات المماثلة في البلدان المختلفة، وما توصلت إليه هذه البلدان، بعضها، أو كلها، من حيث التطور والرقي في صناعة التشريعات، وقد أوجزت المحكمة الدستورية العليا في عصرها الذهبي وقت رئاسة المرحوم الدكتور عوض المر، ما يجب أن تكون عليه التشريعات العقابية بقولها: “إن إدانة المتهم بجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديدًا لحقه في الحياة، وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى”.

ولما كانت العقوبة تمثل الأثر المترتب على مخالفة القاعدة القانونية، لكن العقوبات في ظل الاتجاهات الحديثة أصبحت تحقق أهدافًا اجتماعية وأخلاقية، تهدف بشكل أساسي إلى إعادة تأهيل الجاني وإصلاحه اجتماعيًا، وأن العقوبة باتت هي وسيلة المجتمع في مواجهة الجريمة، وأن تحديد وظيفتها له أهمية كبيرة في السياسات الجنائية العقابية، وذلك أن وضع العقوبات الملائمة للجرائم من قبل المشرع لن يأتي جامعًا مانعًا دون معرفة الهدف من وراء العقاب.

فهدف العقوبة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأثار السلبية التي أحدثتها الجريمة في المجتمع والمتمثلة في الاضطراب الاجتماعي، ومن شأن العقوبة إزالة الضرر الذي تحقق عنها، ومنع تكرار ارتكابها مستقبلًا من الجاني نفسه أو من غيره، وهو ما يؤدي إلى وقاية المجتمع من الجريمة.

وأهم ما يجب أن نلفت الانتباه إليه هو المغالاة في العقاب، أو كما يُقال القسوة في العقوبة، وهي تلك التي تبعد عن الأهداف المقررة للعقوبة، وأخصها ما يتعلق بتحقيق الردع للجاني، وأيضًا إرساء أسس العدالة في المجتمع، وهو ما يُعني أن تهدف إلى التأثير في السلوك داخل المجتمع حتى يتلاءم مع الأوامر والنواهي الاجتماعية التي تنطوي عليها قواعد التجريم، والعقوبة في حالتها الساكنة في النص تهدف إلى التأثير في سلوك جميع الأفراد المخاطبين بأحكام القانون، عن طريق التهديد بما تنطوي عليه من جسامة معينة، وهو ما يسمى بالردع العام.

لكن الوضع الحقيقي أو الواقعي في التشريعات الجنائية المصرية، يؤكد المغالاة في العقاب، بما يحمل معنى القسوة أو الشدة في تطبيق العقوبة، والبعد عن أي معايير إصلاحية تنادي بها المدارس الاجتماعية الحديثة في تطبيق السياسات الجنائية، والتي تنادي يتطبيق المعايير الإصلاحية لإعادة دمج المتهم كعنصر في الجماعة، وعلى سبيل التمثيل من المدونة التشريعية المصرية، نجد أن المشرع الجنائي المصري قد توسع في النص على عقوبة الإعدام، فعلى الرغم من كونها العقوبة الأخطر، والتي يستحيل تصويبها في حالة الخطأ في التطبيق، فقد قارب عدد الجرائم التي تُعاقب بالإعدام على 200 جريمة في التشريع الجنائي المصري، سواء كانت تلك العقوبة في الجرائم السياسية أو الجرائم الجنائية العادية.

ويصدق كذلك بخصوص العقوبات السالبة للحرية، والتي تجد توسعًا غير مبررًا لدى المشرع الجنائي المصري، وهو ما يستتبع توسع من حيث التطبيق القضائي، ذلك على الرغم من تطور السياسات الجنائية والعقابية، والتي قد أخذت في تطورها إلى التراجع عن فكرة العقوبات السالبة للحرية، وقد جاء المؤتمر الدولي لعلم الإجرام سنة 1950 الذي درس مشكلة العقوبة السالبة الحرية وضرورة البحث عن عقوبات بديلة عنها، وأعاد هذا المؤتمر تقييم أهداف النظام العقابي، ونبه إلى أن السياسات الجنائية والعقابية القائمة وقتئذ لا تنبعث من نظرة إنسانية مجردة، بل تبني على التوازن المطلوب بين الحقوق والحريات والذي تحكمه الضرورة والتناسب.

وواقع الأمر فإن الضرورة التي تدعو إلى فرض عقوبة سالبة للحرية تفرض بناء على 4 متطلبات هي حماية المجتمع، ومعاقبة الجاني، وإصلاح المحكوم عليه، وإعداده للاندماج داخل المجتمع، وكلها أمور ترتبط بالتوازن بين الحقوق والحريات التي يحميها القانون.

وبالتالي يجب على المشرع الجنائي المصري السعي نحو تطوير النصوص العقابية، والبعد عن المغالاة في العقاب، لكونه لا يمثل الأسلوب الأفضل في التعامل مع ظاهرة الجريمة، وأصبحت التدابير الاجتماعية محل اهتمام من المجتمعات المختلفة في تشريعاتها الجنائية، بحسبها حتى الآن من أفضل السبل للتعامل مع ظاهرة الجريمة والمجرم.