في حادثة جرت إبان الاكتشافات الجغرافية الحديثة للأمريكتين، وتروى على سبيل التندر، طلب من أحد قادة السفن الحربية أن يقدم تقريرًا حول أداب، عادات، وتقاليد، سكان إحدى جزر المحيط الأطلنطي، وعندما عاد قدم تقريره. وكان على النحو التالي: إن سكان هذه الجزيرة ليس لهم أداب، أما عن عاداتهم وتقاليدهم فشنيعة ومتوحشة.
لا يصعب على المرء أن يكتشف أن قائد السفينة عندما قدم تقريره هذا إنما كان يتحدث عن أداب وعادات أهل الجزيرة مقارنة بما يراه (صائبا)، أو (ما ينبغي أن يكون) من وجهة نظره (الخاصة). ووفقًا لعاداته وأدابه التي أدخلها في مقارنة مع عادات وتقاليد وأداب سكان تلك الجزيرة، وربما لو كان على ظهر تلك السفينة عالم أنثربولوجي لرصد عاداتهم وتقاليهم في إطار المنظومة القيمية والثقافية الداخلية للمجتمع، دون أن يضعها موضع التساؤل حول ما يرضيه وما لا يرضيه، أو ما يعجبه وما لا يعجبه من عادات وتقاليد أهل هذه الجزيرة.
فـعاداتنا وتقاليدنا تنشأ في إطار منظومة اجتماعية/اقتصادية، تتشكل وتتأصل في زمان يعبر عن لحظة تاريخية ما في صيرورة تاريخ المجتمع، ومكان له سماته البيئية والجغرافية والأركيولوجية، وكلاهما يضفي على المجتمع من خصائصه وسماته، فالجدل الذي يحدث بين الإنسان وعناصر الطبيعة المحيطة به والتي تؤثر في وتتأثر بالتفاعلات الإنسانية، تشكل عادات وتقاليد وأداب المجتمع، في إطار رؤية الإنسان وعلاقته مع العالم ومع الإله.
وفي حقيقة الأمر أنني أوردت هذه الرواية لمناقشة (قائد السفينة) وليس لمناقشة موضوع تقريره المنحاز، إذ تعبر سلوكيات (قائد السفينة) ومواقفه، ومنطق تفكيره عن كثير من أفراد مجتمعنا، فنحن مع الوقت نكتسب عادات تفكير تتكون ضمن عاداتنا اليومية المألوفة، فحياتنا اليومية توجهها إلى حد كبير أنماط سلوكية تأصلت داخلنا على مر الأيام والسنين بوصفها عاداتنا الأصيلة، فعلى سبيل المثال نستيقظ من النوم ونقوم كل صباح بفعل ما اعتدنا على فعله، ثم نذهب إلى العمل بنفس الطريقة المعتادة يوميًا.. إلخ.
إن هذه العادات اليومية تجعلنا نقتصد فيما نبذله من الجهد المطلوب لإنجاز واجباتنا اليومية، ومن ثم لا نقوم باكتشاف طرق جديدة للذهاب إلى العمل، أو فعل ما يتوجب علينا فعله يوميا، وهذا ما ينطبق على طرق تفكيرنا، وتكوين آرائنا، فعندما نستمع إلى الأخبار أو نقرأها في جريدة ما، نكون في أغلب الأحيان منحازون لموقف مسبق من هذه القضية أو تلك، حازمين لاختياراتنا، محددين لمواقفنا، ومن ثم لا نجهد أنفسنا في تكوين آراء جديدة، فعادات التفكير تجنبنا ضرورة اتخاذ قرارات جديدة في موضوعات تبدو بالنسبة لنا موضوعات قديمة، وفائدتنا الوحيدة من وراء هذا هو الاقتصاد في الجهد الفكري المبذول.
ربما يبدو هذا مألوفا واعتياديا ومفيدا في اللحظة الأولى، وقد يوافق عليه البعض بوصفه أمرا مفروغا منه، بل ويستحسن ما قام به (قائد السفينة) حيث ربط ما هو معلوم لديه بما هو مجهول ليصل لحكم ما، (وهذا حقه ووجهة نظره)، حيث نقوم جميعا بفعل هذا بشكل يومي، إذ نحكم مطمئنين على الآخرين، ونضعهم في قوالب وأنماط، نتخذ منها موقفا، ومن ثم نغلق القضية ونحن فرحين واثقين، ولا نرضى لأحد أن يشكك في مواقفنا واختياراتنا، وعندما نستمع إليه نستحضر أنماطنا و(عادات تفكيرنا) وبالتالي مواقفنا قبل أن ينتهي من حديثه، وإذا اضطررنا للاستماع نشغل بالنا بأشياء أخرى أونشرد بعيدا بأفكارنا، فنحن نعرف ما قال وما سيقول، وموقفنا محدد سلفا، ومبادئنا لا تتغير.
هنا تأتي اللحظة الفارقة عندما أكون أنا هذا الشخص، ومن ثم سيتم معاملتي تلقائيا بالمثل، فإذا كان لدي عادات تفكير راسخة، فالآخر يمتلك عادات التفكير خاصته، وربما تكون أكثر رسوخا، ويقع مثلي في أخطاء تبدو لي طبيعية، فلديه أحكامه المسبقة، ويمتلك قوالب يضعني في أحدها بالفعل، ويقع في نفس فخ نفاذ الصبر عندما أتحدث، فلا يعيرني انتباها، ولا ينصت لما أقول، ويمتلك أيضا مبررات تبدو قوية بالنسبة له تجاه أفكاري وآرائي، ومن ثم فموقفه محدد سلفا ولا يمكن له أن يغير مبادئه.
نستطيع أن نتوصل إلى مجموعة من النتائج عندما نمتلك ما نظن أنه (الحقيقة)، فإذا كنت تظن أن الحقيقة في عالم آخر غير عالمنا، يمكنك أن تنظٌــم علاقات بينية بين العالمين، وترى في كلا منهما منظومة الحقيقة، وإذا كنت تتصور أنك تمتلك بعضا/جزءا من الحقيقة ستتمكن أيضا من تقديم مفهوما متكاملا للعالم، مثلما يمكنك فعل هذا إذا تركت التصورات العقلية جانبا، وذهبت نحو النتائج العملية المباشرة، وفي كل الأحوال يسعى الإنسان إلى الإجابة عن مجموعة من التساؤلات التي من شأنها أن تمنحه تصورا/تفسيرا متكاملا للعالم، ويقوم العقل الإنساني باستكمال هذه المنظومة ذاتيا وفق ما يمكن أن يدركه بوصفه مجموعة التصورات المبدئية حول (الله ـــــ العالم ــــ الإنسان) ومن ثم يبني الإنسان منظومته الخاصة. فلا أحد ينكر أن هناك أفكار مجردة ينبغي أن نعي بها عندما نتوسل طريقا إلى المعرفة، وهذه الأفكار لا يمكننا أن نرى لها تمثلات عينية، أو تعبيرات مادية في الواقع، مثلا عندما نتحدث عن (الحق ـــــ الخير ــــــ الجمال ـــــ الحب ـــــ الحرية …ألخ) فنحن لا نستطيع أن نضع، أو نتخيل هذه الأفكار في جسد مادي ما، مثلما نستطيع أن نفعل هذا، عندما نتحدث عن شيء مثل (الحصان ـــــ الماء ــــ كوكب الأرض ـــــــ النار ــــ الذرة … ألخ )، فبينما ندرك الأولى عن طريق (العقل) ندرك الثانية عن طريق (الحواس)، وربما عن طريق امتداداتها مثل الميكروسكوب أو التليسكوب أو غيرها من الأدوات المعينة للحواس، ونستطيع أن نصدق، أو نكذب الشخص عندما يتحدث عن الثانية، بينما لا يمكننا أن نتهم أحدهم بالكذب، أو ننعت أحدهم بالصادق، عندما يدلي بدلوه في الأولى.
نستطيع أن نكتشف أن لكل منا تفسيراته الخاصة، والتي يمكننا أن نطلق عليها (الحقيقة)، غير عابئين بتصورات الآخرين حول المفهوم ذاته، وعادة ما نكون مستندين في حكمنا هذا إلى مجموعة من العناصر المعرفية المنهجية، والمقدمات والمصادرات المعرفية، التي تجعلنا نزهو بقدراتنا على اكتشاف واستنباط (الحقيقة)، وكلنا ثقة في ما توصلنا إليه، ويقوم كل منا بفعل مماثل أو مشابه، يجعل التساؤل حول أي من هذه التصورات/التفسيرات يمثل مفهوم (الحقيقة) مصدرا للإزعاج بالنسبة للبعض منا، وخاصة هؤلاء الذين يظنون أن (هناك) تقبع (الحقيقة)، وأنهم بمساعدة بعض النصوص التي يرونها (مقدسة)، أو قطعية، أو عابرة للزمان والمكان، قد تمكنوا من الوصول إليها، ومن ثم تصبح (الفرق الأخرى) -التي تظن بنفس الثقة أنها تمتلك الحقيقة- (مخطئة)، وينبغي على الفئة التي تمتلك (الحقيقة) إما هدايتها للطريق الحق، أو مقاتلتها حتى تعود إلى صوابها.
في واقع الأمر أن الاختلافات المنهجية والمعرفية في رؤية العالم، والتي أنتجها الإنسان على مر عصوره لم تنته، بل تتواجد جنبا إلى جنب في كل المجتمعات الإنسانية، وأحيانا ما تتصارع، حيث تمثل هذه الرؤى القاعدة المعرفية/المنطقية، التي تتيح لثقافة ما أن تقنع مؤيديها بجدوى استمرارها، ولا تكمن المشكلة في وجود تصورات متباينة للعالم أيا كانت هذه التصورات، بقدر ما تكمن في أساليبنا في التعامل معها، ففي الوقت الذي تتطور العلوم الطبيعية والإنسانية، وتزداد قدرة الفرد على التعامل مع الطبيعة، لا تقدم هذه العلوم الإجابات النهائية عن بعض الأسئلة التي طرحها الإنسان منذ وجوده وحتى هذه الحظة الراهنة، وإن كان يراها البعض أسئلة لا يمكن الإجابة عليها، يقدم البعض (إجابات)، ومن ثم فالانتصار لإجابة ما لا يمثل جوهر المشكلة المجتمعية، بينما تكمن المشكلة في رغبة البعض في تسييد (رؤية) ما بوصفها تمثل (الحقيقة).