حملت زيارة الوفد السوداني للقاهرة عدة رسائل هامة علي المستويين: الداخلي السوداني، والإقليمي، وذلك في توقيت حرج من تصاعد التوتر بين السودان وإثيوبيا، حيث برزت التهديدات الإثيوبية للسودان، والتأكيد السوداني عن عدم التخلي عن التراب الوطني السوداني في هذه المنطقة، حسب الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي السوداني.

وللمرة الأولي بعد شهور من المواجهات المحدودة أصبح شبح الحرب بين السودان وإثيوبيا يلوح في الأفق، وذلك بعد اختراق إِثيوبي عسكري للأجواء السودانية، وإعادة الحشد العسكري من الطرفين في مناطق القضارف الحدودية، ثم مقتل عدد من النساء المدنيين في منطقة قريشة السودانية، وذلك تتويجا لعشرات من الشهداء العسكريين السودانيين الذين سقطوا اعتبارا من أول مواجهات عسكرية موسعة بين الطرفين في مارس من العام الماضي.

تحت مظلة هذه الأجواء المشحونة، شهدت القاهرة وجود وفد سوداني رفيع المستوي مكون الفريق أول شمس الدين الكباشي نائب رئيس المجلس الانتقالي وفيصل محمد صالح وزير الثقافة والإعلام، والفريق جمال عبد المجيد رئيس جهاز المخابرات السوداتية، ولعل تكوين هذا الوفد في حد ذاته هو تعبير عن التقاء المكونيين المدني والعسكري في المعادلة السياسية السودانية عند تقدير موقف واحد بشأن خطورة الموقف وطبيعة التهديد الإثيوبي علي الواقع السوداني في هذه المرحلة.

أما على المستوي الإقليمي فإن هذه الزيارة في حد ذاتها هي تطور مهم، وربما كيفي في سياق التفاعلات الراهنة، ومايترتب عليها في ملف أزمة سد النهضة، خصوصا مع المحتوي الذي تضمنه البيان الختامي للزيارة من دعم مصري للسودان، وأيضا زيارة وفد من الخارجية الإمارتية إلى السودان دون طلب سوداني للإطلاع على آخر مستجدات الموقف السوداني في ملفي أزمة الحدود وسد النهضة، وذلك في أعقاب وساطة من جانب دولة الإمارات بين السودان وإثيوبيا لتهدئة مستوى التوترات.

ومن شأن هذه البيئة المحيطة بالأوضاع بين السودان وإثيوبيا أن تطرح الأسئلة بشأن حدود الدعم المصري للسودان وطبيعة الحسابات المصرية في هذه المرحلة إزاء السودان.

وكذلك مدى التنسيق أو التضاغط بين مصر ودولة الإمارات في هذا الملف خصوصا مع ماتم ملاحظته من جانبنا من تناول منخفض من جانب الميديا الإماراتية لأجواء زيارة الوفد السوداني للقاهرة.

الحسابات المصرية

في ما يتعلق بالحسابات المصرية الاستراتيجية إزاء السودان، وبغض النظر عن التهديد الإِثيوبي، فإن سلامة مؤسسة الدولة السودانية، وقدرتها عن الدفاع عن ترابها الوطني، وقيامها بوظائفها الإجمالية  المنوطة بها طبقا لتعريفات آدبيات العلوم السياسية يعد جميعة مصلحة مصرية بإمتياز، ذلك أن خلخة الدولة السودانية أو إضعافها تري القاهرة أنه يهددها بشكل مباشر وذلك على ثلاث أصعدة.

الأول هو الصعيد الأمني، وما يترتب عليه من تهديد الحدود المصرية المشتركة مع السودان، وكذلك أمن البحر الأحمر من الجارة المباشرة وتأثير ذلك المباشر على أمن قناة السويس أحد أهم مصادر لموازنة العامة المصرية.

وعلى صعيد أمني أيضا، فإن أي إضعاف لمؤسسة الدولة في السودان يؤثر سلبيا علي دول وسط وغرب إفريقيا أي محيط دول الساحل، وهو المحيط المؤثر على أمن الدولتين المصرية والسودانية، وذلك بطبيعة التهديدات الإرهابية المترتبة على السيولة الليبية، والتنظيمات المتطرفة في باقي دول الساحل والتي تتوجها بوكو حرام المهددة لكل من تشاد والنيجر والكاميرون فضلا عن بلدها الأم نيجيريا.

ولعل ذلك هو مايفسر لنا التفاهمات العسكرية الممتدة بين القوات المسلحة في كلا البلدين، وانفصالها عن حدث الثورة السودانية بمعني أنها قد تم بلورتها على أصعدة متعددة قبل وبعد سقوط نظام عمر البشير، وذلك في إطار الأمن الإقليمي المرتبط بمنطقة الساحل الأفريقي.

ولعل عنصر أمن البحر الأحمر في الأمن المصري يكون وازنا أكثر على صعيد الاستقواء الإقليمي الذي تمارسه إثيوبيا إزاء السودان، ذلك أن الحفاظ على التوازن الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي يبدو مرتبطا ليس فقط بالأمن المصري ولكن أيضا بالأمنيين الإقليمي والدولي باعتبار البحر الأحمر منطقة مصالح استراتيجية لدول الخليج، وأيضا للمصالح الدولية التي تعتمد علي هذا الممر في التجارة العالمية.

ويمكن القول إن الدعم المصري للسودان قد تبلور بشكل أكثر وضوحا مع أمرين الأول الفشل المصري في احتواء الموقف الإثيوبي ومحاولة دفعه نحو صيغ تعاونية في ملف سد النهضة، منذ التوقيع علي إعلان المبادئ الشهير بين أطراف السد في عام ٢٠١٥، وكذلك قيام إثيوبيا بربط ملف الحدود السودانية بملف سد النهضة، وذلك بحسبان أن دولة السودان في هذه المرحلة هي في أضعف حالاتها، وأن مكونها العسكري مضغوط من الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والمكون المدني خصوصا في عناصره الشبابية في لجان المقاومة من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي تصورت معه أديس أبابا أنها تستطيع تقنين أوضاعها للأبد في مناطق القفشة.

وقد وضح ذلك منذ مارس الماضي حينما بدأت أديس أبابا في الضغط على الخرطوم بعدما ظهر التحول في تقديرات الموقف السوداني بشأن سد النهضة، وتداعياته على المصالح السودانية، خصوصا بعد المليء الإثيوبي الأول لبحيرة سدالنهضة، والذي تسبب في انكشاف سوداني استراتيجي في مسألة أمنه المائي، وقد تم بلورة الموقف الإثيوبي في هذه المسألة على أنه اقتراب سوداني من القاهرة أكثر منه إدراك سوداني لطبيعة التهديدات التي يتسبب فيها استكمال بناء سد النهضة على النحو الذي تخطط له إثيوبيا تحت مظلة صراعية وليس تعاونية.

وقد ساهم في بلورة الموقف المصري الداعم للسودان أيضا أن خبرة الإهمال النسبي للمصالح الإرتيرية، تحسبا لقلق إثيوبي، لم تسفر عن النتائج المطلوبة، حيث يبدو أن هذا التحسب المصري لم يتم وزنه إثيوبيا على النحو الصحيح في ضوء حسابات إقليمية إثيوبية تتصور فيها أن الدعم الخليجي لها بلا سقف، وأنه يمكن أن يكون علي حساب جملة المصالح العربية.

الموقف الإماراتي

من هذه الزاوية يمكن أن نلحظ نوع من التضاغط بين رؤية دولة الإمارات والرؤية المصرية في سياق معطيات الاستقرار الإقليمي في السودان خصوصا، ومنطقة القرن الإفريقي عموما والقائمة أساسا على مصالح الاستثمارات الاقتصادية للموانئ على البحر الأحمر  كمعطي وازن لدى الإمارات، وذلك مع إهمال نسبي لكافة المعطيات الأخرى.

هذا التقدير من جانب دولة الإمارات تستند عليه إثيوبيا في صياغة معادلة استقواءها الإقليمي على السودان وتهديدها له خصوصا مع إهمال أبوظبي لمسألة التعنت الإثيوبي في ملف سد النهضة، وتجاهل أن الدعم المصري للسودان حاضر في المعادلة الإقليمية، حيث تتوج حسابات القاهرة هذه العلاقات التاريخية بين السودان ومصر بمكوناتها الوجدانية والشعبية، والتي تتمتع بحوامل اجتماعية راسخة وهي رغم كل حساسيتها التي نعرف تنتصر دائما في لحظات الأزمات والمحكات المفصلية لجملة مصالح دولتي وادي النيل مصر والسودان.

وقد تتجاهل الحسابات الإِثيوبية أيضا التحولات الغربية ضد موقف رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والتي برزت في تجميد مساعدات من جانب الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي، وكذلك بروز اتجاهات في الكونجرس ضد الأداء الإثيوبي في ملف الحريات العامة والانتهاكات الإنسانية في التيجراي. وذلك فضلا عن تحركات الجالية الإثيوبية الضخمة والموجودة في الولايات المتحدة ضد الإدارة الإثيوبية الراهنة وذلك في ضوء إهمالها للتفاهمات السياسية التي جرت مع أقطاب هذه الجالية في ٢٠١٦ بشأن الانتقال الإثيوبي وشروط نجاحه، وأيضا قيام هذه الإدارة بالحرب على قومية التيجراي المؤثرة على مجمل معادلات الاستقرار في إثوبيا.

أخيرا ما من شك لدينا أن جملة هذه التحولات سوف تكون مؤثرة علي صياغات دولة الإمارات لسياستها في السودان والقرن الأفريقي في المرحلة القادمة، خصوصا مع الإدراك المصري على المستويات الرسمية وغير الرسمية بخطورة هذه السياسيات علي المصالح المصرية خاصة، والعربية عامة في مرحلة لا تحتاج فيها المنطقة إلى مزيد من التوترات والانقسامات.