“أنتجنا في يوم التصفية 15 صبة حديد، والصبة الواحدة تزن 80 طنًا” يقولها طارق إبراهيم، 53 عامًا، الذي يعمل بالأمن الصناعي في شركة الحديد والصلب المصرية، بحزن شديد، أثنا وقوفه على بعد أمتار قليلة من أحد أبواب المصنع بمنطقة التبين.

لم يكن الإثنين 11 يناير الجاري يومًا عاديًا في حياة عمال شركة الحديد والصلب في حلوان. لأنه حمل مفارقتين على طرفي نقيض. ففي هذا اليوم الأعلى في الإنتاج منذ شهور، صدر أيضًا قرار بالتصفية أنهى هذا المجتمع العمالي الذي استمر 67 عامًا. بعد اجتماع الجمعية العمومية غير العادية، وجنوحها إلى التصفية حلاً للخسائر المتتالية خلال العقد السابق.

الحديد والصلب.. الإنتاج رد على تصريح “فرن العيش”

“الحديد نفسه أبدى اعتراضه على إنهاء عمر الشركة التي وصفها الوزير بـفرن العيش“. في إشارة إلى الإنتاج المتزايد في هذا اليوم، يضيف طارق إبراهيم.

قرار تصفية الشركة التي عاش فيها أكثر من نصف عمره أحدث ألمًا في نفس “طارق”. لا سيما أنه وغيره من العمال ليسوا مسؤولين عن الخسارة التي انتهت بقرار التصفية. وهو القرار الذي حمّله للإدارات المتعاقبة منذ 2011 وحتى الآن. “كانت تجعلنا نعمل بأقل طاقة لسد الاحتياجات وبعض الالتزامات. كنا بناخد 10% من فحم الكوك عشان نشغل الأفران 3 أيام في الأسبوع فقط”.

حصل طارق إبراهيم على شهادة “التلمذة الصناعية” في العام 1984 بعد أن أمضى ثلاث سنوات في مدرسة التدريب التابعة للشركة. ثم وقّع على إقرار بالعمل في الشركة. على أن يدفع 2000 جنيه إذا رفض العمل.

تأسست شركة الحديد والصلب في 1954 لتكون مجمعًا متكاملاً لإنتاج خامات الحديد. وقد انطلق الإنتاج الفعلي عام 1958، بتكنولوجيا ألمانية تعود إلى بدايات القرن العشرين، ثم تطورت في الستينيات والسبعينيات بتكنولوجيا روسية تعود إلى حقبة الخمسينيات.

هنا، الحزن يظهر جليًا على أوجه عمال الشركة الذين يسكنون في التبين. وهي المدينة التي بُنيت لسكن عمال قلعة الصناعة المصرية، بعيدًا عن زحام القاهرة الكبرى.

تضم شركة “الحديد والصلب” -وهي تتبع الشركة القابضة للصناعات المعدنية التابعة لوزارة قطاع الأعمال العام- نحو 7 آلاف عامل. كما أنها منذ التأسيس ساعدت في دعم الصناعة المصرية وبناء المدن العمرانية ومد الجسور وصناعة مواتير السد العالي وصناعات أخرى.

بداية النهاية لمنطقة التبين

عقب ثورة يوليو 1952 بدأت الدولة تفكر في إقامة مراكز صناعية كبرى، لعلّ فكر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان في توزيع المصانع بعيدًا عن التجمعات السكنية في القاهرة الكبرى، وبناء تجمعات سكنية بديلة حول المصانع، توفر بيئة متكاملة لهذه المجتمعات العمالية الجديدة، التي تمثل عصب الصناعة التي تحلم بها مصر.

يرصد المفكر العمراني أبو زيد راجح، في المجلد الثاني من “العمران المصري”، أن هذه السياسة كانت إدراكًا لحل المشكلة السكانية، موضحًا: “من ناحية فإن ارتباط الإسكان بالإنتاج الصناعي ارتباطًا عضويًا يجعله جزءًا من الدورة الاقتصادية وليس خدمة منفصلة عنها”. كما أن تلك المدن كالتبين كانت تعبيرًا عن المجتمعات العمرانية المتكاملة التي يتوفر فيها كل عناصر الحياة الاجتماعية الصحيحة لشاغليها.

أقيمت المدينة السكنية لموظفي وعمال مصنع الحديد والصلب بالتبين في حلوان على مساحة قدرها 61 فدنًا. صُممت المساكن على طراز روسي، إذ تكونت التجمعات الصغيرة من مجموعة عَمَائر كل مجموعة يختلف عدد طوابقها ومساحتها، كما تختلف نتيجة تطور الحالة الاجتماعية للعامل، فالأعزب كان يحصل على شقة غرفة وصالة، وإذا تزوج يحصل على شقة غرفتين وصالة، وحينما ينجب ينتقل إلى شقة أكبر.

في النهاية وبعد قرار التصفية، فإن مجتمع التبين الذي يحتضن شركة الحديد والصلب ويطلق عليها العمال “الكيان”، سيشهد تغيرات تنهي هذا المجتمع العمالي المترابط، ما سينتج عنه هجرات من التبين إلى مدن وقرى أخرى والعكس بحثًا عن العمل المفقود. ما سينتج عنه تغيير ديموغرافي لمدينة صممّت لتصبح مجتمعًا عمرانيًا.

“كنا بنلين الحديد والصلب خدمة لمشروعات البلد”

يرفض محمد عبدالله (38 عامًا)، فني تشغيل أوناش، تصديق حقيقة قرار تصفية شركته التي كانت تؤدي مهمة استراتيجية كبرى وتدعم صناعات عدة في الدولة. “كيف بهذه السهولة يتخذ قرار التصفية لشركة بتشغل شركات ومصانع تانية.. احنا اللي كنا بنلين الحديد ونطوعه خدمة لمشروعات مصر”.

يرى عبدالله أن أزمة الشركة الكبرى بدأت مع قرار تحرير سعر صرف العملة الأجنبية في نوفمبر 2016، وما نتج عن ذلك من ارتفاع أسعار الخدمات ومواد الطاقة. إذ حينها بدأت الخسائر تطفو إلى السطح الذي شهد إهمالات متعددة من المسؤولين الذين فشلوا في وضع خطط تطويرية تناسب أهمية هذا الصرح الكبير.

أكثر ما يشغل بال محمد عبدالله حاليًا محاولة الإجابة عن أسئلة مثل: ماذا سيفعل هو وعائلته بعد قرار التصفية؟ هل سيتمكن من إيجاد عمل بديل وهو يقترب من الأربعين عامًا؟ هل قرار التطوير صعب إلى هذه الدرجة لتخشاه الإدارات؟ وما ذنب العمال وعائلاتهم المتضررين من هذا القرار؟ ولماذا يتحملون أخطاء غيرهم؟ وهو لا يرى مبررًا لتصفية كان يمكن تجاوزها. “الشركة مطلعة في الأسبوع اللي فات بس خردة حديد زهر بـ 54 مليون جنيه، وده سعر تراب، دا إحنا لو خدت الخردة بعتها ممكن تغطي خسائر كتير، لكن الدولة عايزة تريح دماغها من القطاع العام”.

في بيانها أمس، ذكرت وزارة قطاع الأعمال إن قرار تصفية شركة الحديد والصلب جاء إثر “فشل محاولات كثيرة لوقف نزيف الخسائر التي بلغ مجموعها في 30 يونيو الماضي حوالي 8.5 مليار جنيه (540 مليون دولار تقريبًا)”، بينما بلغت مديونيات الشركة مبلغًا مماثلاً. وقال البيان إن الأولوية الأولى حاليًا هي الحفاظ على حقوق ومكتسبات العاملين. وإن الحالة الفنية المتدنية للمعدات أدت إلى انخفاض كميات الإنتاج في السنوات الأخيرة وارتفاع تكلفة الإنتاج بالمقارنة بسعر البيع. كما أكد البيان أن التعثر المالي للشركة بلغ مداه في عدم قدرتها على سداد مرتبات العاملين مؤخرًا، نظرًا للعجز الشديد في السيولة النقدية.

عامل أمام فرن صهر خام الحديد (أرشيفية)
عامل أمام فرن صهر خام الحديد (أرشيفية)

“الخسائر متعمدة ومهد لها أصحاب المصالح”

يقول العامل طارق إبراهيم إن خسائر الشركة خلال الفترة الماضية “كانت متعمدة”، وأن هذا الأمر تم التمهيد له منذ سنوات على يد أشخاص وصفهم بـ”أصحاب المصالح”.

يوضح “طارق” فيقول: “التشغيل بيتأخر بسبب تأخر الفحم، وهو ما تنتج عنه الخسائر. فضلاً عن البيع بسعر أقل من التكلفة الحقيقية للطن 15 ألفًا.. احنا بنطلعه بـ 8 آلاف لأننا بنطلع المنتج تحت مسمى (نصف منتج)، وهو ما تنتج عنه أيضًا خسائر كبيرة”.

عقب ثورة 25 يناير، كان طارق إبراهيم شاهدًا على لقاء وفد روسي جاء للتعاون مع الشركة لتطوير المعدات. “حينها استغرب الوفد من وجود آلات روسية قديمة ومتهالكة ما تزال تعمل”، على حد قوله.

أمس، قال وزير قطاع الأعمال هشام توفيق، في حديث لإحدى القنوات الفضائية، إن الشركة تواجه خسائر مستمرة منذ عام 1998. وإن هذه الخسائر زادت في 2009، وفى عام 2014، تقرر الاستعانة بخبير، وصل إلى تخيلات محددة للتطوير، وتم عمل كراسة شروط في 2016، وتم الطرح في عام 2017، وفي العام التالي، صرح الوزير السابق خالد بدوي، بأن هناك ضرر بالغ، فتمت دراسة الضرر، وانتهى الأمر إلى عدم القدرة على الدراسة، وتم الاقتراح بأن تعمل الأفران لمدة 3 شهور متتالية للدراسة، ووفرنا فحم الكوك، ومع هذا لم تستطع الشركة أن تستمر أكثر من 12 يومًا فقط، على حد قول الوزير هشام توفيق.

في بيان توضيحي اليوم الأحد، أشار مجلس الوزراء إلى أن الشركة حققت خلال الفترة من عام 1997 / 1998 حتى الفترة 2002 / 2003 أرباحًا هامشية. لكنها في الحقيقة لا تعبر عن الواقع، حيث كانت الشركة تقوم باستخدام الفروق الدائنة نتيجة لإعادة تقييم الأصول (الأراضى) بلغت 4092 مليون جم. وذلك لتحقيق أرباح. وهو ما كان مثار اعتراض من الجهاز المركزي للمحاسبات. أما الأرباح التي حققتها الشركة خلال الفترة من 2006/2005 حتى عام 2010/2009 فقد تأثرت بإيرادات عرضية غير متعلقة بالنشاط مثل إيرادات سنوات سابقة ومخصصات انتفى الغرض منها. وفي حال استبعاد هذه الإيرادات تتحول هذه الأرباح إلى خسائر. وقد تعدت الخسائر في العامين التاليين 2018/ 2019 و 2019/ 2020 حاجز الـ1500 مليون و1000 مليون جم على التوالي.

بيان توضيحي حول أعمال الشركة (مجلس الوزراء)
بيان توضيحي حول أعمال الشركة (مجلس الوزراء)

“هنعمل ايه في محطة إنتاج الأكسجين؟!”

كان لوقع قرار التصفية أثر الصاعقة على طارق أحمد (37 عامًا)، عامل بالمصنع. خاصة وأنه أحد أبناء العاملين في الشركة مثله مثل كثيرين، قضى ووالده عمرهما بها.

يقول “طارق” -بنبرة حزينة- إن الشركة ما تزال تعمل حتى تلك اللحظة، والغريب في الأمر بالنسبة له مصير محطة إنتاج “الأكسجين” الذي يعد عنصرًا استراتيجيًا في كل مستشفى ومركز طبي منذ أزمة فيروس كورونا. “لدينا محطة أكسجين بنيت منذ 2010 بالتعاون مع الشركة القابضة المعدنية، الغريب أنها تنتج حتى اليوم”.

في ديسمبر 2020، أعلنت وزيرة الصحة الدكتورة هالة زايد، عن تعاون مع عدد من مصانع الحديد والصلب، بهدف دعم احتياجات المستشفيات من الأكسجين الطبي بشكل دوري. ذلك بالإضافة إلى الاتفاق على توفير خزانات الأكسجين.

يضيف “طارق”: “الشركة فيها 14 قطاعًا من أفران التلبيد والدلفرة على البارد وعلى الساخن”. ويتساءل: “كل ده هيقفل ازاي؟ الدولة حاليًا لا تدعمنا ولا يتم توفير الخامات.. بنشتغل 3 أيام وبنقف، والفترة اللي بنقف وبنشتغل فيها بينتج عنها تهالك الآلات لأن الفرن بيكون سخن ويبرد ثم تعاد الكرة مرة أخرى. في نفس الوقت، احنا بنقعد 3 أيام لتخزين فحم الكوك عشان نشغل الفرن، والفرن أما بيفضل شغال على طول بيدينا عُمر أطول لكن أما بيبرد ويشتغل يسرع عملية التهالك”.

وزير قطاع الأعمال هشام توفيق منحاز إلى مصنع الدلتا للصلب، بحسب “طارق” الذي يضيف: “المصنع اللي الوزير فرحان بيه وبيشجع المستثمرين ليه سعة الفرن هناك فيه 20 طنًا، أنا عندي المحول القديم المتهالك اللي مش عاجبه يعمل 80 طنًا، أنا لو عندي فحم هعمل شغل مضاعف، دا احنا في الشهر دلوقتي بننتج 120 صبة، وده شغل كنا ننتجه في يوم خلال قِبل 2011، الإدارات تطلب نعمل شغل على قد احتياجاتنا الأساسية فقط، وأبيع ومطالبيش بأي حاجة زيادة في التطوير”.

فرن لإنتاج الحديد والصلب (أرشيفية)
فرن لإنتاج الحديد والصلب (أرشيفية)

ما بعد عمر عبد الهادي

في أكتوبر 2011، اجتمعت الجمعية العمومية غير العادية، وتقدم الدكتور عمر عبد الهادي رئيس مجلس إدارة الشركة باستقالته. بينما قررت الشركة تعيين المهندس محمد سعد نجيدة يوسف رئيس قطاعات الورش الإنتاجية والصيانة بالشركة عضو منتدب لشركة الحديد والصلب المصرية، وتكليفه بالقيام بأعمال رئيس مجلس الإدارة. إلا أن العمال كانوا يرون أن في تعيينه شبهة، خاصة أن عبدالهادي أعلن أنه لم يرشح نجيدة.

من جهة أخرى، يقول مصدر داخل الشركة إن السيد عبد العزيز نجيدة، عضو حزب الحرية والعدالة المنحل ورئيس لجنة الصناعة ببرلمان “الإخوان” عام 2013، كان سببًا في تعيين محمد سعد نجيدة رئيسًا للشركة. وهو ما تبعه خسائر وإهمال حتى يوليو 2017.

يضيف المصدر -الذي فضل عدم ذكر اسمه: “بعد تعيين نجيدة كنا نايمين مبنشتغلش، لأن محولات تحويل الحديد الزهر إلى صلب كانت بها أعطال وتحتاج إلى صيانة، ما كان يرفضه نجيدة، وكنا نقول: احنا عايزين نشتغل. ويرد: أنت زعلان ليه، هو أنت خسيت حاجة، وجبتك بتاخدها في معادها وراتبك كمان”.

لعلّ أبرز رؤساء الشركة الذين يمدحهم العمال، كان سامي عبدالرحمن الذي تولى رئاسة الشركة منذ نوفمبر 2017 وحتى يوليو 2018، لأنه أمر بإصلاح أحد المحولات، وتعاقد على شحنة فحم كوك من الصين، وكان السبب الرئيس لاستمرارهم في العمل.

يقول “طارق”: “احنا كلنا ولدنا في التبين، كل أبائنا ربونا من خير الشركة، حتى خرجوا مهندسين ودكاترة وعمال محترفين. ما يحدث هو تدمير مجتمع متكامل، أنا بقالي 15 سنة في الشركة، ليه يعني ترميني في الشارع بعد المدة دي، أنا عايز أكمل حياتي وأخذ معاش محترم، أنا عملت أيه أنا شغال عندكم ليا إنتاج أطلعه اللي يتعاقب المسؤول عن التطوير”.

الحديد والصلب: نصف إنتاج

تعمل شركة الحديد والصلب على إنتاج حديد غير مكتمل يطلق عليه “نصف إنتاج”، يحتاج لمعالجة بمصنع آخر لإتمام صناعته وإضافة قيمة عليه، بحسب العامل طارق إبراهيم، الذي يضيف: “كانوا عايزين يعلوا الفاتورة وبالفعل علوا الفاتورة، دلوقتي بيتقال خسرانة 8 مليار، هو مين اللي خسرها 8 مليار؟ أنا العامل؟”.

يتذكر “طارق” ما عانوه من خلال عملهم بالشركة من افتقار لمعايير الآمان والسلامة، فيقول: “أنا شفت منظر أحدث داخلي أزمة نفسية حتى الآن. أحد العمال كان مسؤولاً عن نقل البوتقة التي تحتوي على حديد منصهر من مكان لآخر، وبسبب عطل فني لم يستطع إغلاق البوتقة في مكانها المخصص، كذلك لا يمكن تركها لأنها ستنفجر في الوحدة، حينها فكر العامل في الهروب بالبوتقة بعيدًا لكنها سقطت أثناء هروبه وأذيب نحو 5 عمال في الحديد”.