تصاعدت وتيرة الاحتجاجات الشعبية في عدد من مدن وشوارع تونس، خلال الأيام القليلة الماضية، بالتزامن مع الذكرى العاشرة لثورة الياسمين وسقوط نظام الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، وقع على إثرها العديد من أعمال العنف واعتقلت الشرطة ما يقرب من 1000 تونسي خلال 4 أيام فقط.
تعبئة متواصلة وغضب متراكم في تونس
وبينما تبدو حالة الانفلات القصوى التي يقع تحت وطأتها المجتمع التونسي، لا تتصل بفكرة إحياء ذكرى ثورة “الياسمين”، عام 2011، فإن ثمة طبقة سميكة، على ما يبدو، تختفي أسفلها عوامل احتقان عديدة، مجتمعية وسياسية، بينما يظهر على سطحها، فقط، هذه الحشود والكتل الشعبية التي تظاهرت في عدة مناطق رئيسية.
وشهد شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية تجمعات ضخمة أمام الهيئات الحكومية كما اصطدم المحتجون بقوات الأمن، وقد اعتقل نحو 600 شخص، خلال الأيام الأربعة الماضية.
وقال الناطق الرسمي بلسان وزارة الداخلية، إن “المعتقلين (وعددهم 632) الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و20 و25 عاماً، قاموا بحرق العجلات المطاطية والحاويات لعرقلة قوات الأمن”. كما أفادت وزارة الدفاع بأن الجيش التونسي انتشر في عدة مدن ومناطق من البلاد.
وحسبما تشير البيانات الرسمية، شهدت أحياء شعبية في العاصمة تونس، وبنزرت، ومنزل بورقيبة، وسوسة، ونابل، وسليانة، مواجهات وأعمال عنف بين الشباب والشرطة، وكذا أعمال نهب طاولت عدداً من المتاجر.
الغنوشي وسعيد.. أكثر من مجرد تناحر سياسي
الاستقطاب الحاد الذي تعانيه تونس، يمثل أحد أبرز الأزمات التي فاقمت الأوضاع، وتسببت في الانسداد السياسي القائم، وفي ظل المسافات البينية التي تباعد بين الرئيس قيس سعيد، من ناحية، ورئيس البرلمان، راشد الغنوشي، من ناحية أخرى، تقع مؤسسات الدولة، التشريعية والتنفيذية، في متوالية إخفاق وفشل متكررين، تشل فعاليتها.
تزامنت المظاهرات في تونس مع تغييرات وزارية، أعلن عنها رئيس الحكومة، هشام المشيشي، السبت الماضي، وقد عين 12 وزيراً جديداً، شملت وزيري العدل والداخلية والذي لم يمض على تعيينه سوى أربعة أشهر، تبرز جانباً من الصراع بين مؤسستي الرئاسة (قيس سعيد) والبرلمان (راشد الغنوشي).
اقرأ أيضًا: “ارحلوا عنا”.. “الدستوري الحر” يواصل معركته ضد “اتحاد القرضاوي” في تونس
وبعد إعفاء رئيس الحكومة وزير الداخلية، المحسوب على دائرة الرئيس التونسي، من مهامه، دعا قيادي في حزب قلب تونس إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. كما أن وزير الداخلية المقال يقف على النقيض من توجهات حركة النهضة (فرع الإخوان في تونس)، ويرفض إدارتها السياسية.
وزير الداخلية الذي أعلن عن تفكيك 33 خلية إرهابية، خلال النصف الثاني من العام الماضي، ألمح في تصريحاته الأخيرة عن محاولات اختراق المؤسسة الأمنية، وقال: “سأعمل على تحييد وزارة الداخلية عن كل الاختراقات”، الأمر الذي فسره مراقبون بأنه يقصد حركة النهضة، والتي ضغطت لنبذه وعزله من منصبه، في المقابل.
المظاهرات لم تكن مباغتة!
وبينما قام الرئيس التونسي بزيارة ميدانية للمناطق التي تجري فيها الاحتجاجات، خرجت قيادات حركة النهضة لمهاجمة المتظاهرين.
وقال الرئيس التونسي: “أدعو كل الشباب التونسي إلى ألا يتعرضوا لأي كان، لا في ذاته، ولا في عرضه، ولا في ممتلكاته. وفي الوقت ذاته، أكد على دعمه “الشعب التونسي في الشغل والحرية وفي الكرامة الوطنية”.
ومن جانبه، أدان رئيس مجلس شورى حركة النهضة، عبد الكريم الهاروني، الاحتجاجات، وقال: “الذين يستعملون قصراً لمعاقبة الشعب التونسي، ومهاجمة المؤسسات لا يقلون خطورة عن الإرهابيين. وعلى القضاء الكشف عن هؤلاء”.
الاحتجاجات في الواقع كانت متوقعة، بحسب الصحفي التونسي، صغير حيدري، والذي يرى أن “هناك حالة من الانهيار الاقتصادي تعرفها تونس، إثر سياسات تم الاعتماد عليها، طيلة عشر سنوات. أثبت تلك السياات الآن فشلها. ولو أنني أشكك أصلاً في وجود سياسات لدى من حكموا تونس بعد 2011.
ويضيف حيدري لـ”مصر 360″: “أعتقد أن هناك طبقة سياسية فشلت لأنها لم تتفهم الشارع التونسي. وعلاوة على ذلك، فإن تحركات حركة النهضة على مستوى السلطة التنفيذية، لم تسمح بإرساء استقرار سياسي. ومن ثم، جعلت جلّ رؤساء الحكومات يخضعون للابتزاز والمناورات التي تمارسها النهضة، وقد كان آخرهم رئيس الحكومة، إلياس الفخفاخ. لذا، فإن الفخفاخ قرر الاستقالة قبل أن تطيح به النهضة وحلفاؤها”.
“واجهت الاحتجاجات حملة تشويه عنيفة. لكن مهما يكن فإن عدد الشبان الذين تم اعتقالهم، والذين تقول السلطات إنهم “قصر” لا يمكن مواجهتهم بالسجن ولا بالردع. هؤلاء شباب نتاج لمنظومة فاشلة لم تقم بتوفير الحاضنة والبيئة الصحية اللازمة لهم. ومن ثم، فطبيعي أن تواجه الدولة اليوم صغاراً وشباناً وشعباً، لا تعرفه ولا يعرفها. إذ إن هناك انصراف للصراعات السياسية، وعدم التفات إلى مشاكل البلد المتفاقمة”. يقول حيدري.
كما أن هناك اعتراف في الواقع بين بعض الأوساط السياسية، وحتى رئيس الحكومة بخطورة الموقف الراهن، ومشروعية المطالب التي رفعت في شارع الحبيب بورقيبة، بحسب المصدر ذاته.
وكان من الهتافات: “الشعب يريد إسقاط النظام” و”ارحل يا مشيشي”، وغيرها من الشعارات المناوئة للحزب الذي يقود الحزام البرلماني للمشيشي، والمتمثل في حركة النهضة، وزعيمها راشد الغنوشي.
اقرأ أيضًا: “الغنوشي”.. نزع ورقة التوت عن رجل النهضة القوي في تونس
الأرقام تكشف حقائق أخرى
هناك محاولة محمومة لـ”شيطنة أي تحرك، خاصة من الأحزاب الداعمة للمشيشي. فالشارع غاضب على المجموعات السياسية والحزبية، ولا يمكن تهدئته، بحلول مؤقتة وعاجلة. لذلك لا يمكن إلا اللجوء للحل الأمني لوأد أي حراك”. بحسب الصحفي التونسي.
وإلى ذلك، تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أنه كان من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد التونسي بمعدل يقدر بنحو 7% في عام 2020، كأحد أعلى معدلات الانكماش المتوقعة على المستوى الدولي في العام الذي شهد ذروة الجائحة. ورغم أنه من المتوقع أن يعود الاقتصاد إلى النمو الإيجابي بمعدل 4% في عام 2021، لكن انكماشه، العام الماضي، بذلك المعدل المرتفع ينطوي على دلائل سلبية كثيرة ترتبط بهشاشة الوضع الكلي به.
وفي ظل هذه الظروف غير المواتية، تتوقع الحكومة تسجيل عجز في موازنتها بنسبة 14% للعام المالي 2020، مقارنة بعجز يبلغ نحو 3% كان متوقعاً للموازنة ذاتها قبل اندلاع أزمة “كورونا” في بداية العام. وبينما تسعى إلى تخفيض عجز الموازنة إلى نحو 7.3% في العام المالي المقبل (2021)، حسب تقديرات مشروع الموازنة العامة الجديدة، الذي أحالته إلى البرلمان للمناقشة والمصادقة عليه مؤخراً، يظل إدراك هذا الهدف مرهوناً بانتهاء أزمة “كورونا”.
ويقدر حجم الموازنة التونسية للعام المالي الجديد (2021) بنحو 52.6 مليار دينار، وبما يناهز نحو 19 مليار دولار، بزيادة تبلغ نحو 11.3% عن موازنة العام المالي 2020، التي بلغت قيمتها 47.23 مليار دينار، أو ما يناهز نحو 17 مليار دولار. وبحسب مركز دراسات المستقبل، فإن “الزيادة المستهدفة في الموازنة تعتمد على قدرة الاقتصاد على تأمين المزيد من مصادر الدخل، وهو أمر بعيد المنال، في ظل تجدد الانتشار الواسع لفيروس “كورونا” حول العالم، ما يدفع باستمرار انخفاض الإيرادات العامة لجميع الدول، ولاسيما التي تعتمد على القطاعات المُدِرَّة للإيرادات من الخارج، كتونس التي تعتمد على قطاع السياحة، الذي يعد القطاع الأهم بالنسبة لاقتصادها، إذ أنه يسهم بنسبة تبلغ نحو 14.6% من ناتجها المحلي الإجمالي، وبنسبة تزيد عن 50% من إيراداتها من النقد الأجنبي سنوياً”.
وإلى ذلك، كشف المعهد الوطني للإحصاء، في تونس، أن “عدد العاطلين عن العمل بلغ 746.4 ألف عاطل، في العام 2020، وذلك بارتفاع 19.63 بالمائة عن عددهم في نهاية العام الماضي، وكان عددهم 623.9 ألف عاطل”.
وقال المعهد إن الناتج المحلي الإجمالي، تراجع خلال الربع الثاني من عام 2020، بنسبة غير مسبوقة، بلغت 21.6%، مقارنة بالربع الثاني من عام 2019.