كان في يديّ هذا المجلد الكبير الذي وثق به الناقد والمؤرخ السينمائي المصري المعروف أشرف غريب، حياة صاحبة “صوت مصر”. ذلك تحت عنوان “شادية تتحدث عن نفسها.. سيرة أقوى من الزمان”.

المجلد الذي صدر حديثًا عن دار الهلال ومركز الهلال للتراث الصحفي، يحكي قصة حياة شادية “دلوعة الشاشة العربية”. بينما اعتمد مؤلفه في التوثيق على جامع كتابات دونتها الفنانة الراحلة بنفسها. كنت أحمل المجلد في يديّ وأجلس في عربة تحملني لطريق سفري. نظر شاب يجلس إلى جانبي للصورة التي تتصدر غلاف المجلد. ثم سألني: “هل كل هذا الكتاب عن شادية فقط؟”. دون أن أنطق هززت رأسي مجيبًا على سؤاله الاستنكاري. أعفاني من ثقل الإجابة صراحةً أشخاص ثلاثة، لاحظوا كما فعلت استنكار الشاب. ورد أحدهم بأنه ربما هذا المجلد على ضخامته لا يكفي جزء صغير من حق فنانة مثل شادية. هكذا جذبنا هذا الشاب إلى حديث طويل استمر طوال رحلتنا عن بعض من قصص الفنانة القديرة.

شادية.. عرض حصري لحياة رائعة

يقول الكاتب الصحفى أشرف غريب -صاحب المجلد ومدير مركز الهلال للتراث- إن المجلد يكشف عن صور الأفلام الأولى في حياة شادية. وهي أعمال فُقدت أشرطتها. بينما يضم أيضًا كتيبات دعائية لمجموعة أخرى من الأفلام. إلى جانب عدد من الدراسات التي تستعرض مسيرة النجمة الراحلة؛ ممثلةً ومطربةً. وأيضًا الأعمال الفنية المجهولة في مشوارها الذي امتد لما يقرب من أربعين عامًا.

على مدار مسيرتها الفنية، راجت الكثير من الشائعات عن حياتها، خاصة عندما قررت الاعتزال. بينما يعد مجلد “شادية تتحدث عن نفسها” الوحيد الذي يوثق لهذه المسيرة “مستبعدًا أي معلومات لا تستند إلى مصدر أو دليل موثوق به”، كما يقول صاحبه.

"صور

تقول شادية في مذكراتها: “لقد قلبت صفحات الماضي لأقدم لك ذكرياتي. لأنها طريفة ومثيرة ومليئة بالحياة”. هي حياة فيها درس عن الصبر “فاقرأها ومنها تستفيد”، كما تقول صاحبة المسيرة الكبيرة.

ربما تكمن قوة المجلد في استناده جيدًا على الأرشفة بشكل مذهل. فقد جمع أغلب ما كتبته شادية في حياتها عن استثناءات حياتها. تحكي أنها في فيلم “ليلة من عمري” قضى فريق العمل فترة التصوير كلها في مزارع “جاناكليس”. “كانت أوقاتًا جميلة، وكان هناك مشهد عليّ أن أقفز في الترعة، وكنت أرى أنها غير نظيفة، فكنت مترددة”؛ تقول شادية. وتصف كيف كانت كلما جاء الوقت الذي يجب عليها فيه القفز في الترعة تتراجع حتى آثار ذلك ضيق المخرج عاطف سالم. تعامل الطيب مع هذا القلق لدى شادية بأن أشار لأحد معاونيه في إحدى المرات بأن يدفعها إلى الماء. ولم تسجل الكاميرا ذلك ولم تكن شادية تمثل هنا؛ فقد سقطت بالفعل.

شادية.. مشروع توثيق مسيرة “صوت مصر”

قررت دار الهلال العمل على هذا المجلد مع ذكرى الرحيل الثالثة لشادية. وقد رحل “صوت مصر” في العام 2017 بعد مشوار فني طال أكثر من أربعة عقود. انتهت هذه المسيرة فعليًا في نوفمبر من عام 1986. ذلك عقب مشاركتها في حفل الليلة المحمدية. في ظهور فني آخير جاء بعد عام على فيلمها “لا تسألني من أنا”.

يضم المجلد قبسات من هذا التاريخ الفني الحافل، وبعض الصور النادرة والمعلومات الموثقة جيدًا -أغلبها على لسان شادية من مقالات متفرقة نشرت على مدار سنوات حياتها.

كيف بدأت شادية مسيرتها الفنية؟

ولدت فاطمة كمال شاكر -سيمنحها المخرج حلمي رفلة فيما بعد اسم “شادية”- في التاسع من فبراير عام 1931 لأم مصرية من أصول تركية وأب مصري يعمل مهندسًا زراعيا في ضياع الملك. وقد تربت في منطقة الحلمية الجديدة وقت كانت محط أنظار الطبقة فوق المتوسطة والغنية. وفي العام 1931 انتقلت الأسرة لعدة مناطق تبعًا لظروف وظيفة والدها.

سبقت شادية إلى عالم الفن أختها عفاف، وتبعتها شادية عام 1947 في فيلم “العقل في إجازة”. وقد قدمت طوال مشوارها الفني مئة وسبعة عشر فيلمًا ونحو خمسمئة عمل غنائي ومسرحية واحدة. وأُختير ست من هذه الأعمال ضمن أهم 100 فيلم في السينما المصرية. وكانت أولى أغنياتها في الإذاعة “يا سلام على جو الدنيا”.

"صور

الهوس بالفن الحقيقي

رغبة شادية في الفن واجهتها عقبات ربما أكبر مما واجهت كثيرين غيرها. ففي بداية صعودها على سبيل المثال، نصحها أحد الأطباء بأن صوتها لا يصلح، وأن عليها أن تخلع الحنجرة بعد ظهورها بصوتها فقط في أولى أفلامها “العقل في إجازة”.

يحكي الناقد والكاتب أحمد عبد المنعم، لـ”مصر 360″، قصة تفسّر أكثر محورية شادية كفنانة مصرية. فيقول إنها عند مغادرتها العرض الخاص لفيلم (شباب امرأة)، فكرت أنها تريد دورًا كالذى أدته تحية كاريوكا، وتريد مخرجًا مثل صلاح أبو سيف يفسح لها هذه المساحة التمثيلية ويعيد اكتشافها. كانت شادية فى ذلك الوقت محبوسة في أدوار الفتاة المرحة الشقية الدلوعة. إلا أنها ستبدأ بعد أعوام قليلة في التحرر من هذا النمط. وستتألق فى أدوار مختلفة عن طابعها المعروف.

كانت شادية في شوق للتنوع، فهي تعتبر نفسها ممثلة في الأساس، وغنت فقط لأن الغناء كان الطريق الأسرع للشاشات في الأربعينيات. استطاعت شادية أن تحقق هدفها بالفعل، وقدمت فى مرحلتها الثانية تنوعًا كبيرًا فى الأدوار، أكثر مما فعلت أي من بنات جيلها. إذ كان “المرأة المجهولة” نقطة التحول الأولى في مسيرة شادية. ثم “اللص والكلاب” الذي مثل النقطة الثانية.

نجيب محفوظ لم يبد ارتياحًا لاختياره لـ”اللص والكلاب”

كان كمال الشيخ يخطو خطوة جديدة في مشواره هو الآخر، ويعتمد على نص أدبى لأول مرة في حياته. لكن المؤلف نجيب محفوظ لم يبد ارتياحًا لاختيار شادية لدور (نور). تشكك أنها تستطيع أن تؤدي هذا الدور كما يتصوره؛ فهي في ذهنه الدلوعة وفقط. حتى حضر أحد أيام التصوير وفوجئ بأدائها. وصرح لاحقًا أنها أفضل من أدت شخصياته النسائية.

ظلت شادية تبحث عن القيمة الفنية، وعن البقاء في سينما مختلفة، وعن ترك لمسة لا تنسى. ولو أن المخرجين الكبار في زمنها أولوا موهبتها المزيد من الاهتمام لشهدنا مشوارًا أكثر تميزًا وتلونًا.

إلى جانب الغناء والتمثيل اللذان لم تكتف بهما، رغبت شادية في إحدى المرات في كتابة بعض أغانيها بنفسها. ثم وقفت لتقرأ ولم تجد الوزن والقافية المطلوبة. أخبرت زوجها عماد حمدي فقال وهو يضحك: “والله أنا مش شاعر علشان أبدي رأيي”. فهمت من ذلك أنه لا يريد أن يقول رأيه، فأخبرته أنها عرضته على أحد الزملاء وقال إن الكلمات جيدة. ليرد عماد بسخرية: “يبقى زيي ما يعرفش في الشعر”. لم تتوقف رغبة شادية في إنتاج الفن ضمن أي سياق يظهر ولعها.

"صور

روح العاطفة والحياة

حياة فاطمة شاكر العاطفية هي الأخرى مرّت بمنحدرات السقوط والتقدّم في الحب والزواج. إذ عرف قلبها الحب في سن صغيرة، وتزوجت 4 مرات. وكان اثنان من أزواجها نجومًا للشاشة؛ هما عماد حمدي، وصلاح ذو الفقار.

قدمّت الفنانة الراحلة مع عماد حمدي عددًا من الأفلام الهامة، منها “المرأة المجهولة” – “إرحم حبي” – “ميرامار” – “ذات الوجهين” – “امرأة في دوامة” – “لا تذكريني” – “شاطئ الذكريات” – “الظلم حرام” – “ليلة من عمري” – “أقوى من الحب” – “سماعة التليفون”. وقدّمت مع صلاح ذو الفقار عددًا من الأفلام منها “عيون سهرانة” – “عفريت مراتي” – “مراتي مديرعام” – “كرامة زوجتي” – “أغلى من حياتي”.

وقعت فاطة شاكر في حب صوت ليلى مراد. وكانت تعيد أغانيها في المدرسة.

تُرجع شادية -في عدد ليس بقليل من حواراتها وكتابتها- الفضل في مسيرتها لأساتذتها على اختلافتهم. فهي دائمًا ما كانت تذكر زوجها عماد حمدي، الذي ورثت عنه “الأعصاب الهادئة” وقت حرمانهما من الإنجاب.

سُئلت شادية ذات مرة عن أحب أغنياتها وأفلامها إلى نفسها، فلم تجد جوابًا على هذا السؤال. قالت: “بالنسبة لي كالأطفال بالنسبة إلى أمهم، لا تستطيع أن تفضل أحدهم على الآخر، وقد يكون بين هؤلاء الأطفال طفل مريض لم تفلح العناية الطبية في إخراجه إلى الحياة سليمًا كاملاً”. لقد عاشت هذه الفنانة الراحلة حياتها الحقيقة داخل السينما.

حكيت عن كل تلك الأشياء وأكثر أثناء حديثي للشاب طوال رحلة سفرنا التي عطرتها ذكرى الفنانة الراحلة. محاولين أنا والرجال الثلاثة الذين شاركونا الحوار أن نعرض لمسيرة هذه الرائعة التي أثقل موهبتها بخطوات هادئة وصبر وحب دون مشروط للفن فقط.