أبحث عن توقعات الأرصاد الجوية، واضطرابات الطقس أو تحذيرات من الخروج لتكون مبرري لعدم اصطحاب طفلتي البالغة من العمر 3 سنوات ونصف لزيارة أبيها في السجن، أهرب من تلك المواجهة الثقيلة على القلب والروح.
محاولات هروبي وحججي وأعذاري انتهت مع إصرار زوجي طبيب الأسنان “وليد شوقي” المحبوس احتياطيًا منذ أكتوبر 2018 على رؤيتها، فكنت أتحجج دائمًا بأنها مصابة بنزلة برد وتحتاج للراحة، أو أن الجو غير ملائم، لكن طلبه رؤيتها لم يتوقف، وفشلت أعذاري في مواجهة هذا الطلب.
اقرأ أيضًا.. رحلتي إلى طره.. قصة “زيارة حقوق إنسان” من وراء السلك
أعلم جيدًا أن من حق زوجي رؤية طفلتنا، كما أنه من حقها أيضًا، لكني أخشى من ذهابها إلى هذا المكان، أخشى من مرورها بطرقات السجن ومشاهدة السجانين، ورؤية والداها في ملابسه البيضاء، عاجزًا عن عناقها، يراها من وراء حاجز بسبب الإجراءات الاحترازية التي فرضت بسبب فيروس كورونا، فأصبحت الزيارات مرة في الشهر، من وراء سلك يفصل بيننا وبين المسجونين.
عند القبض على زوجي كان عمر “نور” عامًا وشهرين، وبعد مرور شهر طلب مني رؤيتها في القسم، وزيارة القسم تكون من وراء “نضارة”، وهي الفتحة الصغيرة من باب الحجز، لمدة دقيقتين، حينها رأيت أن الأمر لن يكون صعبًا، فالطفلة طغيرة، سيسهل حملها، ولن تميّز ما يدور حولها، وفعلًا كان اللقاء الأول هيّنًا لها، صعبًا على والدها، دخل في نوبة بكاء شاركته فيها، كنت أحمل “نور” على يدي وهي تنظر لما حولها دون اكتراث.
أشهر عدة مرت بعد ترحيل “وليد” لسجن طرة، الزيارات كانت أسبوعية، يطلب مني كل أسبوع رؤيتها، وأبدأ في البحث عن أعذار، كنا نتشجار أحيانًا في الزيارات ويتهمني بحرمانه منها، وبعد عدة أشهر أحضرتها معي، كانت تبلغ حينها عام و8 أشهر، بدأت تمييز ما يدور حولها، رفضت الذهاب لوالدها وتمسكت بي، أثر ذلك عليه سلبًا، وأقنعته أن الأمر طبيعي لبعده عنها.
“بابي كان بيحب نور”
شهور أخرى مرت، ليتكرر اللقاء مرة ثانية بعد إتمامها العامين، كانت أكثر تفاعلًا مع والدها، لكنه تفاعل وهي متمسكة بي أيضًا، تردد اسمه بعد مشاهدة صوره على الهاتف المحمول، ومساعدة والدتي في ترديد اسمه أمامها، وترديد الحكايات التي كان يتشاركانها سويًا: “بابي كان بيحب نور وبيشيلها وهي صغيرة”.
بدأت نور تعرف أن والدها اسمه “وليد شوقي” يعمل طبيب أسنان، ترى صوره على الهاتف المحمول، وتستمع لحكايات عنه على لسان جدتها، لكن أين هو؟، وماذا يفعل؟ وما سبب بعده عنها؟، كنت أعرف أن تلك الأسئلة تدور في ذهنها دون إجابة، وأن الأمر سيؤثر سلبًا عليها، خاصة عند رؤيتها أشقائي وزوجاتهم بصحبة أطفالهم مثل باقي الأسر، إلا هي تعيش وحيدة مع أم دون أب.
استشرت طبيبتي النفسية حول الأمر، فنصحتني باصطحابها معي في الزيارات، وتمهيد الأمر لها بشكل مبسط: “هنقول لها بابا في مكان مش هيقدر يرجع منه دلوقتي، ممكن نروح نسلم عليه ونمشي وهو يفضل هناك، هو عند ناس مش بيحبوه أوي فعلشان كده مش هيعرف يرجع معانا”.
استقبلت النصيحة ووعدت الطبيبة في التفكير في الأمر، ولكن الخوف انتابني، كيف سأخبر طفلتي هذه الكلمات التي لن تستوعبها، كيف يكون هذا مفيدًا لها نفسيًا، وكيف أعالج غياب والدها عنها؟، كيف أكون أب وأم؟، فعجزت عن الوصل لحل، وكان الهروب من المواجهة هو الحل، ستبقى نور في المنزل، وسأخبرها أن والدها في العمل، لن اصطحبها معي في الزيارات، سأتحجج تلك المرة بالخوف من الوباء.
مخاوف من الوباء
في الزيارة الماضية، قررت مشاركة زوجي مخاوفي من رؤيته من وراء حاجز، ومخاوفي من اصطحابها في هذا المكان، ومخاوفي أيضًا من الوباء، ليقابل تلك المخاوف بطلب جديد بإحضارها، أعلم أنه يريد رؤيتها وأن الأمر سيهوّن عليه، فوعدته في التفكير في الأمر.
جاءت الزيارة الاستثنائية لتضعني أمام الأمر، طلبت من حماتي الذهاب لرؤية ابنها، للهروب من تلك الزيارة لكنها أخبرتني أنها ستدخل في فترة عزل لزيارة أحد مصابي كورونا، ففكرت ربما يكون الأمر بمثابة علامة وأن علي الذهاب فعلًا واصطحاب طفلتي في هذا المشوار، أو ربما الرحلة التي ترى فيها والدها.
تأثير غياب الأب
أسبوع كامل أفكر في الأمر، أبحث عن توقعات الأرصاد، وعن الاحتياطات للوقاية من فيروس كورونا للأطفال، وعن مخاوف الإصابة، وأقرأ مقالات عن تأثير غياب الأب عن الطفل، وعن تأثير زيارات السجن على الأطفال، واتصلت بطبيبتي النفسية مجددًا فنصحتني بتنفيذ الأمر: “الأطفال مش أغبيا هما بيكونوا فاهمين كل حاجة، ولما بنعاملهم على أنهم مش فاهمين ده غلط وبيهز ثقتهم في نفسهم أكتر”.
ذهبت لطفلتي التي كانت تلعب بدراجتها الجديدة التي أشتريتها لها وأخبرتها أنها هدية من والدها، وسألتها “عاوزة تشوفي بابا؟”، فردت “أه”، فأكملت: “طيب هنروح له الشغل بس يمكن منعرفش نحصنه علشان كورونا، هنسلم عليه ونطمن عليه ونرجع تاني”.
اتفقنا سويًا، وذهبنا للرحلة الثقيلة على القلب والروح، أكرر بنود الاتفاق طيلة الطريق، حتى وصلنا لسجن طرة، سجلنا الاسم وانتظرنا، لتبدأ نور الملل وتطلب مني الذهاب للمنزل، أحاول إقناعها إنه علينا الانتظار حتى رؤية والداها، ودخلت في مراحل الإقناع “والدلع والطبطبة” من التاسعة صباحًا وحتى الثانية ظهرًا حتى ميعاد دخولنا الزيارة.
خرج “وليد” لم ينظر إلي تلك المرة، نظر فقط للطفلة التي تقف بجواري، وهو يردد: “دي بنتي مش مصدق.. كبرت كده إزاي.. إيه اللي يستاهل في الدنيا علشان أبعد عنها كل ده”، بدأت “نور” تحكي له ما رأته في اليوم السابق بحديقة الحيوانات، وعن أسماء القصص التي نحكيها سويًا، وغنت له مقطع من الأغنية المحببة لقلبها: “حبيبة أمها”.
“دي بقت عروسة يا وليد”
السيدة التي تفتشني قبل دخول الزيارة تعاطفت معنا وقررت المشاركة في الحوار الدائر من وراء السلك، وعلقت: “دي بقت عروسة يا وليد وكلها شبهك علشان مامتها بتحبك أوي”، لم ينتبه “وليد” لما يدور حوله، فقط كان ينتبه لنور فقط، طلب منها الجلوس معه فقالت: “مش هينفع علشان في سلك”.
طلب وليد من ضابط المباحث الخروج خارج السلك لعناق “نور”، وسمح له، فخرج وحملها وقبلها، وقال: “بصي انت هتروحي دلوقتي مع مامي وأنا هفضل هنا شوية، وكمان شوية صغيرين هخلص شعل وأرجع لك وأفضل معاكي على طول”، كان يرددها وهو يحبس دموعه التي لم استطع منعها.
كبرت “نور” وأصبحت تبلغ من العمر 3 سنوات ونصف، عاشت أكثر من نصفهم بعيدة عن أبيها، كبرت واكتملت أسنانها وهو بعيد، تمكنت من المشي بمفردها ولم يرها، تمكنت من الحديث جيدًا وهو بعيد أيضًا، زاد طولها وقل وزنها وطال شعرها ولم يشاركنا وليد تلك اللحظات، ليجدها أمامه طفلة تدرك ما تقول وما تفعل، مختلفة عن الطفلة التي كانت تبكي فقط دون القدرة على التعبير عند حرمانه منها.
لا أعلم هل سأكرر تلك التجربة مرة أخرى أم لا، حتى الآن تحكي نور زيارتها لوالدها لوالدتي ووالدتي، وتخبرهم أنها ستذهب لزيارته “في الشغل” مجددًا، وأطلب من الله أن يرحمني من تلك الحيرة، ويخرج “وليد” دون الحاجة للتفكير في حجج أو أعذار لتبرير غيابها عنه، وغيابه عنها.