هناك فرضية مثيرة للجدل دافع عنها بعض الفلاسفة، على رأسهم الفيلسوف الأمريكي ليو شتراوس، وتبناها عديد من الساسة من مختلف دول العالم، أمثال الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، مفادها أن الشعوب تحتاج إلى بعض الغيبيات والإلهيات والأخرويات باعتبارها وازعًا أخلاقيًا يحميها من “العدمية” و”اللامعنى”. وأن الناس البسطاء عندما يفقدون إيمانهم بالأديان فإنهم سرعان ما يعيثون في الأرض فسادًا وجورًا. كما لا يخفى أن الروائي الروسي دوستويفسكي صاغ تلك الفرضية على لسان إحدى شخصياته الروائية، بعبارة شهيرة تقول: “إذا لم يكن الله موجودًا فكل شيء مباح!”.

هل الأمر كذلك؟

يتعلق الأمر بفرضية تتعارض مع منطلقات التنوير القائمة على فكرة أن هناك ضميرا أخلاقيا فطريا في الإنسان، وهو يمثل مصدر الأوامر الأخلاقية.

لكن، هل خضعت تلك الفرضية للاختبار كما ينبغي؟

رغم أنها فرضية غير مجرّبة، بحيث لم تتح لنا فرصة اختبار حياة شعب لاديني بالكامل وبنحو خالص، إلاّ أنها تبقى مبررة في المستوى النظري. لكن المؤكد أيضا أن هناك فرضية مضادة، بدورها لها من المبررات ما يكفي، ويمكننا بسطها على النحو التالي: طالما أن الله موجود فقد يكون العنف الهمجي باسمه مباحا. ذلك ما تدل عليه مشاهد الذبح والتفجير والتهجير، والتي تجري تحت صيحات التكبير.

بيد أننا لسنا بصدد مساءلة دين بعينه، بل نسائل الرهان على الأديان كافة.

هنا نؤكد ما يلي: يمثل الإرهاب العالمي اليوم الحالة القصوى للعدمية الدينية وفق تصور نيتشه، وهي الحالة التي يمكن التعبير عنها وفق الصيغة التالية: بما أن الله موجود فكل ما عداه زائل، وكل من عاداه باطل، وبالتالي يجوز إفناؤه، سواء من باب درء الشرك والكفر والبدع، أم من باب التحوط فقط!

عدم فهمنا لهذا النمط من العدمية الدينية، واعتقادنا بأن الأديان كافة تمثل في كل أحوالها نقيضا جذريا للعدمية، قد جعلنا نتوهم بأن الجرائم الإرهابية لا تصدر عن ذواتنا حتى ولو ادعت ذلك، بل تقترفها مخابرات محلية أو إقليمية أو دولية. بحيث ما أن تقع مجزرة أو مذبحة أو مقتلة هنا أو هناك حتى تتجه أصابع الاتهام إلى الموساد، أو السي آي إيه، أو مخابرات هذا البلد أو ذاك، والمهم هو إبعاد المسؤولية عن الذات. بناء على ذلك الطبع ليس مستغربا أن يظهر من بين الكتّاب الغربيين من يلبي لنا الرغبة في التنصل من المسؤولية وإلقائها على كاهل قوى أجنبية أو خارجية. كثيرون من يبيعوننا الوهم الذي نريد، لا سيما وأن نظرية المؤامرة تريحنا من كلفة المسؤولية وتعيدنا إلى سباتنا العميق.

غير أن لا شيء يتم إخفاؤه عن الأنظار:

لقد راهن الغرب الرأسمالي جهارا ونهارا على الإسلام السياسي وعلى سائر الأصوليات الدينية الأخرى أثناء الحرب الباردة، في مواجهة المعسكر الشيوعي “المادي والملحد”، وفيما اصطلح عليه البعض باسم العالمية الثالثة، ثم راهن عليه مع بدء الحرب على تنظيم القاعدة عقب 11 سبتمبر، لأجل احتواء المتشددين أو إعادة تدويرهم، فيما اصطلح عليه البعض باسم الحرب العالمية الرابعة، وراهن عليه أخيرا مع بدء ما كان يسمى بـ”الربيع العربي” وذلك لأجل تحقيق هدفين: الهدف الأول، ضبط الأمن والاستقرار في دول ما بعد “زلزال الربيع”، ذلك أن الغرب واع -خلاف ما يظنه البعض- بأن الفوضى لن تكون في مصلحته طالما ستغرقه في طوفان المهاجرين، وستحاصر حدوده الجنوبية بإمارات الدواعش والمتطرفين، كما أن إسرائيل بدورها تتذكر كيف أفرزت الحرب الأهلية في لبنان “وحشا شرسا” اسمه حزب الله. الهدف الثاني، احتواء الإسلام السياسي الأكثر تطرفا أو الوقوف على الأقل سدا منيعا في وجهه، لا سيما وأن للخطاب الديني تأثيرا على وجدان الشعوب المسلمة.

على أساس ذانك الرهانين منحت جائزة نوبل للسلام عام 2011، أي في مطلع ما كان يسمى بـ”الربيع العربي”، إلى الناشطة الإخوانية اليمنية توكل كرمان، كما تم التنسيق بين حلف الناتو والحركات الجهادية في ليبيا على الأصعدة كافة، وكان هناك قدر من التساهل مع الدور التركي في استقطاب الجهاديين لأجل القتال في سوريا، بل على أساس ذانك الرهانين كان هناك قدر كبير من التساهل مع نزعة التوسع الإمبراطوري التي اتسم بها رجب طيب أردوغان.

ذانك الرهانين انتهيا إلى الإفلاس المبين. كيف ذلك؟

بدل الأمن والاستقرار اشتعلت الفتن وانتشرت الحروب الدينية والمذهبية والطائفية والعشائرية في معظم الدول التي شهدت زلزال الثورات وصعود الإسلام السياسي. وبدل احتواء الإسلام السياسي “الوسطي” للإسلام السياسي الأكثر تطرفا فقد انتهى الأمر إلى العكس تماما، ذلك أن الإسلام السياسي الأشد تطرفا هو الذي ابتلع فصائل الإسلام السياسي كافة.

موازاة مع ذلك كان هناك رهان محلي تحت شعار “الإسلام هو الحل”، والمقصود أن الإسلام السياسي هو الحل ! بحيث قدم الإسلام السياسي نفسه باعتباره وصفة سحرية لحل كل القضايا الكبرى: تحرير فلسطين، وحدة المسلمين، نهضة الأمة، وهلم جرا، غير أن النتائج عكسية: باسم “فلسطين المسلمة” تم تقزيم القضية إلى معركة إدارة إمارة القطاع ورفع الحصار عن غزة، وباسم “تطبيق الشريعة” فقد السودان جنوبه الغني بالثروات، وباسم “فريضة الجهاد” اشتعلت الحروب الدينية والطائفية في العراق وسوريا واليمن وغيرها، ومن يدري؟ لربما يكون القادم أسوأ إذا استمر تعطيل العقل على هذا النحو.

ما هي الرهانات الممكنة للمستقبل؟

في كل الأحوال، ثمة شيء مؤكد، لا يجب أن يكون الرهان على أيّ مرجعية إيديولوجية مهما كانت قوتها وجاذبيتها، بل يجب الرهان على القيم الإنسانية نفسها، وعلى القيم التي تمثل أفق التنوير الإنساني بكل أبعاده العلمية والجمالية والأخلاقية، ذلك أنها تمثل قيمة الإنسان، وأن الإنسان يعلو ولا يعلى عليه.