خواطر

بمرور عشر سنوات على انفجار ثورات ما سُمي بالربيع العربي، التي بدأت في تونس في 17 ديسمبر 2010، ثم امتدت إلى مصر، فاليمن، فليبيا والبحرين وأخيرا سورية، يسود شعور عام بأن هذه محطة نحتاج أن نقف عندها لنتأمل ما جرى ونراجعه، وربما نتسائل ماذا بعد؟

لا أستطيع أن أحصي عدد الأحاديث التي أدليت بها في الأسابيع الأخيرة والتي تبدأ بذات السؤال: كيف ترين الوضع بعد مرور 10 سنوات على الثورة؟ وتنتهي بالسؤال: هل لازال لديك أمل في المستقبل؟ وبين هذين السؤالين تلك الأسئلة التي لم نكف عن النقاش حولها منذ اكثر من خمس سنوات، في جلساتنا مع الأصدقاء وفي حواراتنا على مواقع التواصل: لماذا هزمت الثورة؟ كيف هزمت الثورة؟ من المسئول عن هزيمتها؟هل هزمت الثورة فعلاً؟

باستثناء سؤال “هل هزمت الثورة؟” الذي وصلنا جميعًا عبر مراحل مختلفة إلى أن إجابته هي نعم -حتى لو اختلفنا حول ما إذا كانت الهزيمة نهائية أم مؤقتة- ظلت إجابات باقي الأسئلة محل خلاف شديد، بل أن الجدالات أو المعارك الكلامية حولها يعاد فيها نفس الكلام والحكي في معظم الأحوال.

لكن ما جدوى أسئلة الماضي إن لم تلق لنا ولو بعض الضوء الخافت على سؤال المستقبل: وماذا بعد؟ ماذا علينا أن نفعل؟

لسنا باحثين في التاريخ حتى يكون كل ما يشغلنا في أسئلة الماضي هو اكتشاف الحقائق، ولسنا هيئة محلفين في محكمة حتى يكون ما يشغلنا في سؤال “من المسئول؟” أن ندين الجاني؛ نحن ناس من كافة مشارب الحياة، أردنا أن نغير واقعنا ونستبدله بواقع أفضل لنا ولمن حولنا ولمن سيأتوا من بعدنا، فماذا علينا أن نفعل؟

أتذكر ذلك الطالب الذي التقيت به في أول عام عملت فيه في وظيفة معيدة تدرس الرياضيات. وقف الطالب يقول لي بمنتهى الجدية ومنتهى الحيرة “لو بس حضرتك تقولي لي المسألة بتتحل ازاي احللك زيها ٢٠ مسألة”، شرحت له بمنتهى الصبر والرقة أن المطلوب منه أن يتعلم كيف يتعامل مع مسألة لم يسبق له أن رأى لها شبيها، صحيح ان تلك المسائل التي يتدرب عليها في بداية دراسته حلها معروف ويمكنني إطلاعه عليه دون صعوبة، لكن عمله بعد الدراسة، وحياته كذلك، ستطرح عليه مسائل لم يسبق لغيره أن عالجها، فماذا سيفعل حينها؟

أحكي أني رددت عليه بصبر ورقة، وهذا صحيح، لكن الحقيقة أن الصبر والرقة كان منبعهما الإحساس بمسئولية موقعي كمعلمة يجب أن يكون سلوكها مهذبا، بينما كان عقلي يميل إلى السخرية ومشاعري كانت مليئة بذلك التعالي الذي يحس به المتفوق – بالذات لو كان شابا، فما بالك لو كانت شابة تفوقت في ذلك الموضوع الذي يثير رهبة جل أقرانها من الشباب: الرياضيات؟

اليوم أجدني بعد كل هذه السنين أفهم بالضبط معاناة ذلك الشاب، بل وأحسها، فنحن نقف أمام سؤال “وماذا بعد؟”، نتمنى أن نجد من نسأله “لو بس تقولنا نعمل ايه واحنا نعمله”. نحن على استعداد لتحمل المزيد من الألم والتضحيات، اننا على استعداد للتغلب على ذعرنا وإحساسنا بالإنهاك، لكن ما يعجزنا حقيقة هو أننا لا نعرف ماذا علينا أن نفعل.

هناك من يرون أن هزيمة الثورة نهائية، وأنه لم يعد أمامنا سوى أن نتقبل الهزيمة، وأن يحاول كل منا أن ينجو بنفسه من آثارها.

اتذكر الآن يناير آخر، يناير 1977.

قبل يناير 1977 كان يسود في مصر مناخ شبيه بذلك الذي خبرناه عام 2010: غضب متنامي من تدهور أحوال المعيشة وغلاء الاسعار وتدهور الخدمات، احتجاجات متعددة لكنها متفرقة ومتبعثرة، حراك طلابي لكنه محدود تمامًا إذا ما قورن بحراك سنوات ما قبل حرب أكتوبر 73، حوارات نخبوية حول استحالة ان ينتفض الشعب مهما بلغ به الغضب والضيق والعوز. ثم فاجأت السلطة الناس برفع الأسعار، وفاجأت جموع الناس السلطة والمعارضة بكل أطيافها بانتفاضة جماهيرية امتدت من أسوان إلى الاسكندرية.

انتهت الانتفاضة بعد أن أعلن السادات التراجع عن قرارات رفع الأسعار، وبدأنا جميعًا نحاول استيعاب ما حدث. سادت حالة من التفاؤل أوساط المعارضة، فقد ثبت أن الشعب يمكن أن ينتفض ويجبر السلطة على التراجع والامتثال لإرادته. لكنها لم تستمر طويلاً، فالسلطة أيضًا قد وعت درس انتفاضة يناير 77.

لا يتسع المجال هنا لسرد كيف تم تشتيت الجماهير وتفريغ غضبها، وليس هذا موضوع مقالي، ما يهمني رصده هو أن جيلاً كاملاً، هو جيلي، جيل السبعينيات، انفرط عقده، وبدأ ينزح الى أسواق العمل الإقليمية والدولية حتى يمكنه الخروج من الفقر إن كان فقيرا، أو يتجنب السقوط فيه إن كان مستورا. بالطبع كان هناك بعض الاستثناءات، ولكنها كانت أقل من أن تؤثر في التيار العام. إجمالاً، يمكن القول أن الهجرة المؤقتة – وأحيانًا الدائمة – لملايين المصريين، رغم ما نتج عنها من تشوهات في نسيج المجتمع وتحلل وانهيار في أجهزة الدولة، قد نجحت إلى حد كبير في حل الأزمات المعيشية الخانقة التي كان يعاني منها الناس، وبالتبعية في تحقيق درجة من الاستقرار والسيطرة للسلطة. لكنها نجحت في هذا لأنها اتيحت بالفعل لملايين المصريين، ولأن سلطات الدولة شجعت الجميع عليها – بما فيهم معارضيها.

ولأن الظروف تتغير فحلول الأمس – سواء رضينا بها أو لم نرض – لم تعد متاحة اليوم؛ أسواق العمل التي كانت تستوعب ملايين الفقراء المصريين تشبعت، وسلطات الدولة لم تعد تسمح لمعارضيها بالفرار إلى الخارج.

فلينجو بنفسه من تتاح له الفرصة إن أراد، لكن أغلبنا – أراد أو لم يرد – لن تتاح له الفرصة. فماذا نفعل؟

لن نجد الإجابة في الماضي، ومع ذلك نحتاج إلى فهمه والتعلم من دروسه. لن نجد الاجابة في تجارب الآخرين، وإن كنا نستطيع أن نتعلم منها. نحن بصدد البحث عن حل لـمسألة تخصنا، لم يعالجها أحد بعد، علينا نحن أن نفككها، ونفحص أجزاءها، ونثابر، ولا نتركها حتى نجد الحل معا

مهما كان إحساسنا بالعجز والحيرة. فلنذكر أنفسنا أن السلطة، بطبعتها الحالية، عاجزة عن تحقيق الاستقرار، وأن ثورة يناير قد أظهرت بجلاء إن هناك ملايين من المصريين يرفضون الظلم والتمييز وإن خضعوا لهم مضطرين. هناك إذَن إمكانية أن تكون هزيمتنا مؤقتة.

الوباء الذي يجتاح العالم حاليا أظهر بوضوح الثمن الباهظ الذي ندفعه من جراء تحلل أجهزة الدولة وتدهور الرعاية الصحية التي تقدمها.

فإذا نظرنا إلى التعليم نجد أن أكثر من 80٪ من الأطفال يلتحقون بالمدارس الحكومية. المدارس دي نسبة اللي بيطلعوا منها متعلمين فعلا – بمعنى إنهم بيجيدوا القراءة والكتابة والحساب ويعرفوا شوية علوم وتاريخ وجغرافيا وانجليزي – في أفضل التقديرات لا تزيد عن ربع التلاميذ الذين يلتحقون بها، والثلاث أرباع الباقين ما بين من بيتسربون أصلاً ولا ينهون دراستهم ويرتدّون غالبا إلى الأمية، أو الذين يحصلون على الشهادة الإعدادية دون اكتساب الحد الأدنى من المهارات والمعارف التي تؤهلهم للحياة في العصر الحديث، والتي اكتسابها هو الغرض أصلا من وجود التعليم الأساسي وجعله إلزاميًا.

هذا يعني أن أكثر من نصف أطفال مصر بتتقفل فرصهم في الحياة الكريمة قبل ما يوصلوا سن 15 سنة. ويعني أيضًا أننا، كدولة، محكوم علينا نفضل دولة متخلفة، لأن نصف السكان تعليمهم رديء.

هذان مجرد مثلان، وكل متابع للشأن العام يستطيع أن يضيف إليهما العشرات، وكل من يعيش في مصر – باستثناء رجال السلطة وحفنة من المنتفعين – يعيش بعضها في حياته الخاصة حتى لو لم يتابع الشأن العام.

التسليم بهزيمة نهائية يعني التسليم باستمرار هذه الأوضاع ومحاولة التعايش معها، يعني التخلي عن حق ما يقرب من 10 ملايين طفل في حياة كريمة أو حتى مستورة. مين يجيله قلب يعمل ده؟

اختتم مقالي بكلمات الصديقة رضوى عاشور: “هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا”.