مثّل صعود التيارات الدينية، ذات المرجعية السلفية، خلال “الربيع العربي”، في نسخته المصرية، حدثاً مباغتاً، لاسيما أن دورهم كان محصورا في الجانب الدعوي والخدمي قبل انخراطهم المحموم في العمل الحزبي والسياسي. 

وبعث تنامي الأحزاب السلفية أسئلة متفاوتة وإشكالية، لاسيما بعد فوز حزب النور، الذراع السياسية للدعوة السلفية، بنسبة 24 في المئة من مقاعد مجلس النواب عام 2012. 

ومن ثم، حاز  الحزب السلفي الناشئ على المرتبة الثانية، بعد حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي لجماعة الإخوان، المصنفة على قوائم الإرهاب في عدد من البلدان العربية، رغم حداثة عهد الأول بالسياسة، وضعف خبرات أعضائه التنظيمية، مقارنة بالإخوان.

تباينات التيار السلفي

ثمة تباينات عديدة شهدتها تجربة السلفيين السياسية، في مراحلها المختلفة، بيد أن الثابت في حالاتها، عدم وجود إطار نظري وسياسي متماسك، وكذا ضعف التكوين التنظيمي. الأمر الذي تسبب بصورة مبكرة في ظهور الانشقاقات بين قيادات الحزب. وكذا التصدعات بين كوادره، وانفلات قاعدته. ثم الالتباسات الشديدة التي هيمنت على برنامجه السياسي.

هناك أسئلة متفاوتة حاولت الحفر أسفل تجربة السلفيين السياسية. ومن بينها البحث عن الحاضنة الشعبية والمجتمعية التي توافرت لهم. بالإضافة إلى خضوع فئات ليست بالقليلة تحت تأثير أفكارهم وأدبياتهم السياسية.

يضاف إلى ذلك، تحديد الرؤية السلفية للدولة الحديثة، وتعيين موقع الشريعة في علاقتها بها. إذ ظل قبول التيار السلفي بالآليات الديمقراطية والإجرائية للعملية السياسية أمرًا مؤقتًا وبراجماتيًا، بعدما وجدوا الفرصة مواتية، إثر الانفراجة السياسية بعد الربيع العربي. كانوا يسعون لاقتسام حصة في الفضاء الديني، الذي انفرد به تنظيم الإخوان لعقود، باعتباره المنافس التقليدي لهم.

لا يمكن تخطي عامل رئيسي، في هذا السياق، وهو أن المجتمع العميق ظل بؤرة حيوية للشبكات الاجتماعية والاقتصادية للقوى الراديكالية، يتغلغل داخله، عبر أنشطته الاجتماعية والخدمية. وتمكنت هذه القوى من تشكيل جيوب امتلأت بالأفراد الذين تحولوا إلى حوامل أيدولوجية، تحمل النزعة  السلفية المؤدلجة.

بيد أن هذه الفئات الانعزالية والقوى التي خضعت لأدلجة الدين وتسييسه، ظلت تحتاج طوال الوقت إلى الشرط التاريخي، لتعلن عن وجودها وانحيازاتها بوضوح. بينما تملأ الفجوة الشاسعة في المسافة الفاصلة بين إخفاق مشروع التحديث الديني وعناصره السلطوية والتوفيقية. ذلك بعدما فشلت وانحسرت تاريخيًا منذ بدايات القرن الماضي.

راديكالية التيار السلفي وسيولة المشهد السياسي

إثر اندلاع الثورة المصرية، خرج أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، المصنف على قوائم الإرهاب، يحرض المصريين على تطبيق الشريعة الإسلامية. وقال: “أهم التحديات على المستوى الداخلي، هو الإصلاح التشريعي والقضائي، ومن أهم الإصلاحات التشريعية المطلوبة، تعديل المادة الثانية من الدستور، حيث تنص على أن أحكام الشريعة الإسلامية، هي مصدر التشريع، ويبطل كل ما يخالفها من مواد الدستور والقانون”. بحسب ما جاء في نص حديثه.

تجلت أحد أعراض تلك الحالة التعبوية المشحونة بالخطابات الراديكالية في مواقف التيار السلفي المختلفة. وقد أخذت أشكالاً عديدة وسياقات متنوعة. وأثارت، بالتبعية، ردود فعل جدلية مختلفة. وكان من بين أبرز تلك المواقف، عدم وقوف أعضاء التيار السلفي المنتخبين لتحية العلم المصري في مناسبات وطنية. ثم محاولة تعطيل جلسات البرلمان المصري في عام حكم الإخوان لأداء شعائر الصلاة. وأيضًا المطالبة فيما عرف بـ “جمعة قندهار” بـ”دستور إسلامي، وتطبيق فوري للشريعة، وتحكيم كتاب الله، وإعلان “أمير المؤمنين”.

الحالة الملتبسة في الخلط والتداخل بين الدين والسياسة، في الحالة السلفية، وعدم التمييز بين المجالين الدعوي والدنيوي وأنشطتهما، ترجع إلى سيولة المشهد السياسي. وكذلك الاستجابة لمعطياته ببراجماتية شديدة وانتقائية. من دون وضع تصور سياسي شامل.

فضاء السياسة المختلف.. السلفية البرجماتية

في دراسته المعنونة بـ “مصر: السلفيون البراغماتيون”؛ يوضح الباحث الفرنسي المتخصص في الإسلام السياسي، ستيفان لاكروا، أن حزب “النور” يقدم أنموذجًا نادرًا لحزب شديد البراجماتية في مواقفه السياسية، متشدد للغاية في آرائه الدينية. وقد ظهر التوازن بين هاتين السمتين في خطاب “النور” عبر التغيرات التي طرأت على قيادته.

ففي البداية، بذل مؤسسو الحزب محاولات حثيثة وجدية لتسوية بعض التناقضات بين مواقفه السياسية والدينية. ذلك عبر المجادلة بأن العمل السياسي بطبيعته له فضاء مختلف عن الدين، وينطوي على قواعد منفصلة.

ويضيف لاكروا: “كان لدى برهامي نظرة أخرى للحزب؛ حيث رأى أن مكاسب الحزب يجب أن تعود بالفائدة على الدعوة السلفية”. وأن على مواقف الحزب “أن تضع مصلحة الدعوة فوق كلّ اعتبار”.

بالطبع، كان برهامي سعيدًا بفكرة أن حزب النور يضغط حيثما تمكن، لاعتماد تشريعات مستندة إلى الشريعة. لكن من دون أن يكون ذلك على حساب الدعوة. هكذا، لم يكن برهامي مستعدًا ليطل على حزب النور كحزب سياسي عادي. بل عده قبل كل شيء ذراع الدعوة الضاغط، أو ما يسمى “اللوبي” في المضمار السياسي”.

توافق السلفيين الشكلي مع آليات الديمقراطية

تعد البراجماتية بندًا ثابتًا في توجّه حزب النور، منذ تأسيسه. بيد أن الأساس المنطقي لهذا النهج تغير في أواخر العام 2012. ففي الفترة بين عامي 2011-2012، حسبما يوضح الباحث الفرنسي. كان حزب النور يحاكي في براجماتيته أغلب الأحزاب الإسلامية التي انخرطت في العملية السياسية. فراجع بعض مفاهيمه العقدية (أو نحاها جانبًا) تكيفًا مع قواعد اللعبة.

ويرتبط هذا التطور بفرضية أشار إليها بعض الباحثين بمصطلح “الدمج (في العملية السياسية) والاعتدال (كنتيجة)”. ومع أن هذه المرحلة القصيرة لم تفضِ إلى أي مراجعة عقدية جوهرية من جانب السلفيين. إلا أنها أدت إلى بروز خطاب مدني حمل رايته نوع جديد من الفاعلين السلفيين. وهو رجل السياسة السلفي الذي لم يعد يشعر بالحاجة إلى تبرير كل مواقفه باستخدام مصطلحات دينية. لأن السياسة بالنسبة له تشكل بطبيعتها مضمارًا منفصلاً نسبيًا. ما دفع بمؤيدي هذا المسار إلى تأسيس حزب جديد هو حزب “الوطن”.

عليه، لم يكن توافق السلفيين الشكلي مع الآليات الديمقراطية والإجرائية، مثل القبول بشرعية صناديق الاقتراع، نتيجة لمراجعات فكرية جادة وواقعية، بقدر ما كان حالة من التهافت والانتهازية. فعندما قدموا نساءً للترشح، تم وضع وردة لحجب صورهن، على لافتات الدعاية.

كما يتجلى ذلك التناقض في إشارة لافتة، عندما طلب الشيخ السلفي، عبد المنعم الشحات، أثناء انعقاد البرلمان عام 2011، ضرورة تدشين “مجلس فقهي”، تحال إليه القوانين، ليفصل في شرعيتها الدينية من عدمها. وهذا ما يفضي إلى إلزام المشرعين بمرجعيات دينية وفقهية، لما سيصدر من مواقف سياسية أو يترتب عليها من قوانين، كما هو الحال، لدى نموذج الولي الفقيه في إيران

برنامج سياسي لا يتضمن أي التزام حقوقي

البرنامج السياسي لـ”حزب النور” لم يتضمن أي التزام حقوقي، مثلاً، لمبدأ المواطنة، والتي لم يرد ذكرها مرة واحدة في صفحاته. وكذلك غياب حضور أي تصور عن الدولة المدنية في أدبياتهم السياسية. ويشدد الحزب السلفي على ضرورة أن تكون الشريعة الإسلامية، حاكمة لكافة مناحي الحياة وسبلها. ولا يكتفي بنص المادة الثانية للدستور المصري التي تقر بأنّ “الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع”. بل يدفع بضرورة أن تضحى “مرجعية عليا للدولة، في نشاطها السياسي والقانوني والتشريعي والاجتماعي والاقتصادي”.

إلى ذلك، تصبح كل الحقوق والحريات العامة والممارسات السياسية ملتزمة بالشريعة. وذلك وفق هذا الإطار الذي يضبط مفهومها، بحسب المنظور السلفي،

ترتب على ذلك، تسرب شكوك ومخاوف لدى قيادات ومجموعات في الدعوة السلفية، بأن السياسة ستخصم من رصيد “الدعوة” التاريخي، وتهدد وجود “الهيئة الدينية” ونفوذها. كما تفقدها الهيمنة الأيدولوجية على مريديها، والتي ستزاح أمام الفعل السياسي ومراوغاته، لحساب الحزب الناشئ. إذ تراوح الجدل حول تحديد تبعية الأخيرة لحساب الأولى أم العكس. وهو ما أسفر عن انفصال في جسد الحزب بين قيادتيه التاريخيتين في الدعوة السلفية، وهما الشيخين: عماد عبد الغفور، رئيس الحزب -وقتها- وياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية.

كانت إحدى الإشكاليات المثارة لدى التيار السلفي، بعد عام 2011، ومشاركته في الحياة السياسية، تتمثل في آلية انضباطه السياسي، من دون ما يضطره ذلك، إلى تقديم تنازلات منهجية وعقائدية، تتصادم وثوابت الدين.

ومن بين الشكوك التي يثيرها السلفيون تذمرهم من انشغال الشيوخ بالقضايا السياسية عن الدعوة الدينية، فاعتبر الشيخ إسماعيل المقدم أن الدور الحقيقي لأئمة الدعوة السلفية، هو “الدعوة إلى الدين ونشر المفاهيم الصحيحة في العبادات والمعاملات الدينية”. وقال المقدم في جملة صريحة: “إذا كنا محصورين بين خيارين إما حراسة الدين أو خوض السياسة، فلن نقبل إلا خيارًا واحدًا”.