ترفض باريس تقديم اعتذارها للجزائر بشأن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر (1830-1962)، إذ يظهر هذا القرار كخلاصة رئيسة لتقرير المؤرخ الفرنسي بن جامين ستورا الذي قدّمه إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ويقترح في المقابل بضع خطوات رمزية مقترنة باعتراف متبادل ببعض الأحداث، تتطلب قوة سياسية لفرض شروط على فرنسا في الوقت الراهن بشأن ملف الماضي، خاصة وأن باريس بحسب ما يظهر في التقرير، نجحت في إعادة استدعاء وقائع وقضايا تمسّ الأوروبيين في الجزائر وأملاكهم وطرحها لمعادلة المطالب الجزائرية حيال التاريخ الاستعماري.

بين الرمزية والخطوات الجادّة

واتفق الرئيسان الجزائري عبد المجيد تبون والفرنسي ايمانويل ماكرون، في شهر يونيو الماضي، على تكليف لجنة مشتركة لمناقشة الخطوات اللازمة لإنهاء الملفات العالقة بين الجزائر وباريس، وتحقيق المصالحة التاريخية بين البلدين.

وقع اختيار ماكرون على المؤرخ ستورا للقيام بهذه المهمة، فيما أختار نظيره الجزائري مستشاره المؤرخ عبد المجيد شيخي لنفس المهمة، وبذلك فإن اهتمام الطرفين ينصب على إعداد تقرير يضمّ رؤى حيال الخطوات اللازمة لحسم ملف الذاكرة نهائيا. 

وفيما لم يعلن الطرف الجزائري عن مقترحاته التي يطرحها لمعالجة الملف، تضمن التقرير الفرنسي على 22 توصية كما أعلنت عنها الرئاسة الفرنسية، في 140 صفحة تتناول ملف الاستعمار الفرنسي في الجزائر والتعاطي مع مختلف جوانبه أعده المؤرخ ستورا وسلّمه للرئيس الفرنسي.   

وتحت مسمى ” الذاكرة والحقيقة”، تمحورت التوصيات المخصصة لمعالجة ملف الذاكرة والاستعمار الفرنسي بالجزائر من شأنها أن تقيم “مصالحة بين البلدين وبين الشعبين دون أن يتضمن التقرير اية توصي بتقديم اعتذارات فرنسية رسمية عن جرائم الاستعمار الفرنسي. 

اقرأ أيضًا: “ياناس ياناس..خليني نضرب ننسى لهموم”.. 90 دقيقة كرة قدم كافية لفهم شباب الجزائر

ملفات شائكة على مائدة الجزائر وفرنسا

 ووصف التقرير ما وقع في الجزائر بـ”الحرب”، كما كانت أهمّ التوصيات استمرار السلطات الفرنسية في الاحتفال بالمناسبات المتصلة بالجزائر وهي كالآتي: التوقيع على اتفاق وقف اطلاق النار في 19 مارس 1962، وإحياء مجازر 17أكتوبر 1961، التي تم فيها قمع العمال الجزائريين في فرنسا، وكذا إحياء تكريم للجزائريين المتعاونين مع الجيش الفرنسي أو ما يطلق عليهم بـ”الحركى” في 25 سبتمبر من كل سنة.

ويقترح تقرير المؤرخ الفرنسي، تنظيم بمناقشات بين الطرفين، حيال مسألة تقديم تسهيلات لتمكين المتعاونين مع فرنسا إبان احتلال الجزائر بزيارة الجزائر، إذ لازالوا في نظر الجزائر ” عملاء وخونة وغير مسموح لهم بالعودة للبلاد”.

وبذلك يُطرح هذا الملف ملفّ “الحرْكى” لأول مرة بشكل رسمي للنظر فيه خاصة أنّهم غادروا الجزائر منذ الاستقلال نحو فرنسا، غير أنه في نفس الوقت أصبح اعتراف ضمني كما أسماه الباحث في الإعلام الأستاذ نصر الدين حديد بـ ” اعتراف بمشروعية المجازر التي اقترفتها فرنسا وبمساعدة عملاءها الجزائريين”.

كما تضمن التقرير ملفا شائكا وحائلا في محاولات المصالحة التاريخية بين الجزائر وفرنسا، يتعلق بالتجارب النووية التي قامت بها فرنسا في العامين 1960 و1966، وتداعياتهما، إذ تلحّ وثيقة ستورا على مواصلة العمل المشترك الخاص بكشف حقيقة هذه التفجيرات والآثار المترتبة عنها حتى الآن في مدن الصحراء الجزائرية”.

 

وبالإضافة إلى هذا الملف، يراوح ملف آخر مكانه، وهو موضوع متحرّك على الدّوام، تتعلق بمسألة زرع الألغام خلال الحرب التحريرية، على طول الحدود الجزائرية التونسية والمغربية اذ ماتزال هذه الألغام تخلّف ضحايا ليومنا هذا، بعد مرور أكثر من خمسة عقود بعد استقلال الجزائر ومختلف خرائط عملية زرع الألغام لدى فرنسا.

وما يجب الإشارة هنا، إلى أن الجزائر طالبت فرنسا تسليمها خرائط زراعة الألغام، للتمكن من تلافي مخاطرها ومزيد من الضحايا، إذ سجلت السلطات الجزائرية في تقرير أعدته وقدمته لهيئة الأمم المتحدة ما يقارب 9 ملايين لغم مازالت في أراضيها الحدودية، وحصدت ليومنا هذا حسب إحصائيات رسمية أكثر من 8 آلاف قتيل في الحدود الشرقية والغربية، وآلاف من المعطوبين.  

ومن أهمّ محاور التقرير، اقتراح إنشاء هيئة تختصّ بجمع وتوثيق شهادات الحرب التحريرية لإثبات المزيد من الحقائق وتحقيق المصالحة”، مقترحا في نفس الإطار اعتراف الحكومة الفرنسية عن مسؤوليتها عن اغتيال الشهيد المحامي علي بومنجل الذي قتل في سنة 1957، علاوة على اعتراف فرنسا في سنة 2018 بمسؤوليتها عن اغتيال عالم الرياضيات موريس أودان في الجزائر بسبب دعمه للثورة الجزائرية. 

اقرأ أيضًا: مذكرات ساسة الجزائر.. صفحات من زمن اللحظة وتأريخ غائب للأحداث

 وفيما يتعلق بقضية الأرشيف الجزائري في فرنسا، يقترح التقرير الفرنسي تفعيل مجموعة العمل المشتركة مهمتها جرد الوثائق التي أخذتها فرنسا أو تركتها في الجزائر، وإنشاء قاعدة أرشيفية مشتركة بين البلدين، يمكن الوصول إليها بسهولة، ومنح التأشيرات للباحثين من البلدين لتسهيل مهمتهم في انجاز رسائل جامعية وأبحاث متعلقة بالتاريخ الاستعماري والثورة الجزائرية، وتسهيل وصول الباحثين الى كل الأرشيف، وتوفير منح جامعية وبحثية لهم، ونشر أعمال المؤرخين من خلال دار نشر تهتم بالأطروحات التاريخية. 

وبخصوص مطلب الجزائر استرجاع مدفع “بابا مرزوق” التاريخي الموجود حاليا في مارسيليا، يطرح التقرير عملية إنشاء لجنة مؤرخين من البدلين، للبحث في موضوع المدفع، والذي تعود أهميته إلى كونه استخدم في الجزائر من طرف حاكمها في القرن الــ17 الباشا حسن لقذف قناصلة فرنسيين في البحر.

مدفع “بابا مرزوق

جرح الذاكرة.. البحث عن رفاة الشهداء

كما نصّ التقرير الفرنسي إصدار دليل خاص بالمفقودين سواء كانوا سواء كانوا مناضلين جزائريين أو أوروبيين، اختطفوا من قبل البوليس الاستعماري في معركة الجزائر، ولازال يجهل مصيرهم لحدّ الآن، وهذا بغية إعطاء الضوء الأخضر للباحثين والمهتمين بالمسألة التاريخية في تحديد موقع قبورهم، علاوة على تحفيز استمرارية نشاط اللجنة المشتركة للخبراء العلميين الجزائريين والفرنسيين، المكلفة بدراسة الرفات البشرية لمقاتلين جزائريين من القرن التاسع عشر، المحفوظة في المتحف الانسان والتاريخ الطبيعي بباريس.

وفي سياق آخر، لفت التقرير إلى أهمية تشكيل لجنة تضمّ مؤرخين فرنسيين وجزائريين لبحث ما أسمته الوثيقة بـ”عمليات اغتيال تعرض لها بعض الأوروبيين خلال ما يعرف بمجزرة وهران غربي الجزائر يوم الاستقلال في  يوليو 1962″، ومهمة هذه اللجنة جمع شهادات والاستماع الى شهود عاشوا تلك الأحداث، فضلا على مطلب للسلطات الجزائرية بالاهتمام وصيانة المقابر الأوروبية ومقابر اليهود في الجزائر.  

كما طرح المؤرخ الفرنسي فكرة نقل رفاة المحامية والمناضلة جيزيل حليمي إلى مقبرة العظماء في “بانثيون” بفرنسا، باعتبارها شخصية بارزة وقفت إلى جانب الشعب الجزائري وناضلت في سبيل استقلالها، علاوة على إعادة إحياء مشروع انشاء متحف لتاريخ فرنسا والجزائر، في مدينة “مونبلييه” الفرنسية بعدما تم تجميده في عام 2014، إضافة إلى تسمية شوارع في فرنسا بأسماء الأطباء والفنانين ولدوا في الجزائر ويستحقون التخليد، و تنظيم معرض عن تاريخ الهجرة أو مؤتمر حول الاستقلال في الدول الأفريقية، و مؤتمر دولي يخصص لتخليد مسيرة شخصيات فرنسية رفضت وعارضت القمع الفرنسي في الجزائر على غرار فرانسوا مورياك الفيلسوف جون بول سارتر. 

واقترح ستورا إنجاز تمثال للأمير عبد القادر في منفاه بمدينة أومبواز الفرنسية، التي بقي فيها بين عامي 1848 و1852، قبل ان يغادر الى العامة السورية دمشق، بعد مقاومته للغزو الفرنسي للجزائر في منتصف القرن الـ 19، ويدشن هذا النصب التذكاري في شهر يوليو 2022، بمناسبة الذكرى الــ 60 لاستقلال الجزائر.

للأمير عبد القادر في منفاه بمدينة أومبواز الفرنسية

مدّ وجزر.. ما بين الجزائر وفرنسا

ظلت العلاقات الجزائرية الفرنسية محكومة بملفّ الذّاكرة، يتجاذبها ماض عمره  130 سنة من الاحتلال، وفي كلّ مرحلة سياسية مع تغيّر الحكام سواء في الجزائر أو في باريس تبرز ملفات ذات صلة بمخلّفات التاريخ وآثار الاستعمار. 

منذ استقلال الجزائر، عقب حرب تحريرية دامت سبع سنوات ونصف (01 نوفمبر 1954-05 يوليو 1962)، لم يستطع البلدان تجاوز ملف الذّاكرة الجريحة، في سياق العلاقات السياسية والاقتصادية، وتحوّل إلى قضايا ذات اهتمام الرأي العام خاصة في الجزائر في العقود الأخيرة، وفي فرنسا بسبب تفاعل النخب والقوى اليمينة، التي ترفض الاعتذار عن الجرائم المقترفة في الجزائر.

في العقدين الأخيرين تعاظم النّقاش حول موضوع الذاكرة برزت فكرة مطالبة فرنسا بالاعتذار بشكل أكبر منذ مصادقة البرلمان الفرنسي في شهر فبراير 2005 على قانون تمجيد الاستعمار وهنا بدأت قوى سياسية والمدنية في الجزائر تحاول طرح مبادرة تشريعية مقابلة لإصدار قانون تجريم الاستعمار، ردا على قانون تمجيد الاستعمار والتي تتأسس وتعزز جهودا سابقة لجمعية 8 مايو 1948 الذي كان يقودها رئيس البرلمان الجزائري الأسبق المجاهد الراحل بشير بومعزة، التي كانت تسعى إلى دفع فرنسا  للاعتراف والتعويض عن جرائم الثامن مايو 1945، إضافة إلى جرائم أخرى ترتبط بملف التجارب النووية والالغام على طول الشريطين الحدوديين والتقتيل الجماعي للجزائريين إبان الفترة الاستعمارية ( 1830-1962).

اقرأ أيضًا: تشابه في الفوران الشعبي والمآلات.. محطات الحراك في الجزائر وتونس

لكن تماطل السلطات الرسمية في الجزائر، وعدم توفير دعم رسمي لهذه لجهود المدنية واقتصارها على خطاب سياسي يفتقد إلى أدوات ومبادرات عملية، لم يسهم في الحصول على أي تطور في موضوع الذاكرة والاعتراف الفرنسي. 

وفيما كان هناك تقاعس في الجزائر، كانت الجبهة الفرنسية تشتغل على تغيير المعادلة التاريخية، ونجحت في طرح بعض الملفات التاريخية التي لم تكن معلنة سابقا بهدف إحداث توازن في المطلبية التاريخية بين الجزائر وفرنسا، حيث دفعت باريس إلى الواجهة بملفات ما يعرف بمجزرة وهران في 5 يوليو 1962 ضد المعمرين الفرنسيين، وقضية المفقودين وأملاك المعمرين (الأقدام السوداء)، كما استندت على البعد الإنساني إلى زيارة المتعاونين مع الجيش الفرنسي (الحركى) إلى بلادهم.

لعلّ هذه الخلاصة هي أهم ما يمكن التوصل إليه من خلال فحص واستقراء تقرير بن جامين سطورا، كما انتقد الباحث في التاريخ عبد الجليل دهيلي من جامعة الجزائر هذا التقرير في حديثه لـ”مصر 360″، مشيرا إلى أن تقرير سطورا كأنه” جبر لجروح الفرنسيين والأوروبيين والمتعاونين مع فرنسا في حرب متعددة الأطراف وليس حرب تحرير قام بها شعب ضد مستعمر”.

وأضاف البروفيسور دهيلي مطلب الجزائر الآن لاعتذار فرنسا عن جرائمها، أصبح يقابله مطلب إقرار جزائري بوقوع جرائم أو تجاوزات في حقّ المعمرين في الجزائر.

ميزان السياسة والتاريخ 

وفي هذا الاتجاه، فإن مقترحات التعامل مع الماضي بين الجزائر وفرنسا تحمل منظورا سياسيا وليس تاريخيا، كما قال وزير الإعلام السابق الدبلوماسي عبد العزيز رحابي موضحا أن تقرير ستورا ” لا يراعي المطلب التاريخي الرئيسي للجزائريين، أي اعتراف فرنسا بالجرائم التي ارتكبها الاستعمار الغاشم”.

الأمر لا يتعلق كما قال بـ”لا تتعلق المسألة هنا بالتوبة، والتي تعد فكرة غريبة عن العلاقات بين الدول، كما لا تتعلق بتأسيس ذاكرة مشتركة، فالبلدان وريثا ذاكرتين متناقضتين”. 

وبرأي الدبلوماسي رحابي، فإنه “على كل دولة أن تتحمل مسؤولية ماضيها، ويتعين على الدولتين تهيئة الظروف اللازمة لإقامة علاقة  هادئة جهة صوب المستقبل”.

ويعتقد الباحث الكاتب عبد الحميد عثماني أن تصورات المؤرخ الفرنسي المولود في الجزائر، “بعيدة تماما عن انتظارات الجزائريين”، لافتا إلى أن “التقرير لا يحتوي على الاعتراف الفرنسي بجرائم الدولة الفرنسيّة في حق الإنسان” متخليا عن “فكرة الاعتذار الإجباري أو التعويض المشروع عن الدمار الحضاري والمادي الذي سبّبه الاحتلال الاستيطاني البغيض طيلة 132 سنة، دون الحديث عن النهب والاستغلال الذي طال كل شيء فوق هذه الأرض.”

وفي انتظار تقرير الطرف الجزائري، اعتبر الباحث عثماني أن “الوثيقة الفرنسية تقترح إعطاء مكانة أوسع لتاريخ فرنسا في المناهج الدراسية” وهذا ما يُضمِر حسبه” دعاوي زائفة للخلفيات الحضارية للاستعمار، والذي جاء إلى المنطقة حاملاً لواء المدنيّة الغربية لإنقاذ سكان أفريقيا من البداوة البربرية، فإذا به يطمس في الجزائر كل معالم هُويّتها من مساجد ومدارس وعُمران”.

 

جزائريون يعتبرون «قلة احترام» اعتراف فرنسا بأعمال التعذيب خلال الاستعمار | الشرق الأوسط

وعلى أيّة حال، لم يتطرق التقرير الفرنسي إلى تجريم الفعل الاستعماري في حدّ ذاته، ولا إلى الملايين من الضحايا الذين خلفتهم الهمجية الفرنسية، والذي يلزم فرنسا بالاعتذار والتعويض قبل الخوض في أي تفاصيل أخرى، فهل تبنى المصالحة بين الجزائر وفرنسا على أسس متينة لتنظيف الجرح الغائر في قلوب الجزائريين؟  أم أنها ستأخذ وقتا أكثر لتجاوز مخلفات الماضي؟