أزمة كبرى شهدها الوسط القبطي خلال اليومين الماضيين، بعدما دعا القمص تادرس يعقوب ملطي، كاهن كنيسة مارجرجس سبورتنج وأحد أكبر كهنة ومعلمي الكنيسة القبطية، إلى صلوات الألحان باللغة العربية بدلاً من ترديدها باللغة القبطية، ليتثنى للشعب المسيحي فهم ما يقولونه خلال الصلاة، لأن الهدف هو إدراك الإنسان لصلاته، على حد قوله.

مع ذلك ورغم كون الرجل أحد أكبر رموز الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في عصرها الحديث، إلا أن ذلك لم يشفع له أو يمنع عنه الهجوم الذي طاله من فريق محافظ اتهمه بالتخلي عن ثوابت الكنيسة القبطية، ومنها الحفاظ على لغتها التي لم تتغير حتى مع الفتح العربي.

يرى الفريق المحافظ أن اللغة القبطية لا يجب المساس بها وأن استمرار الصلاة وفقًا لها ضرورة ملحة للحفاظ على التراث، فيما يرى الفريق الآخر ضرورة التغيير حتى يشعر المصلون بالتعبيرات الروحية التي يتلونها في الصلوات، وحتى لا ينصرفون عن الصلاة نتيجة عدم فهم اللغة التي تتلى بها.

لا العربية أو القبطية.. “الله يتواصل معنا بلغة الحب”

هذا الجدل بدأ أول الأمر داخل كنيسة مارجرجس سبورتنج، حينما تحدث كاهن الكنيسة القمص تادرس يعقوب ملطي مع عدد من الشمامسة عن كون الصلاة حديث مع الله.

قال الكاهن -أثناء قداس عيد الغطاس الذي اقتصر على الشمامسة منعًا لتفشي فيروس كورونا- إن دعوته للصلاة باللغة العربية تأتي حرصًا على التواصل مع المصليين بلغة يفهمونها.

وأضاف: “متزعلوش مني، احنا مش جايين القداس فيه أصوات رائعة أو ألحان جميلة، احنا جايين نتكلم مع ربنا.. مش معقولة نتكلم مع حد بلغة غير لغته”.

وتابع بأن اللغة مع الله ليست بالعربية أو الإنجليزية أو القبطية بل هي “لغة الحب”، وهي لغة مشتركة من الله مع جميع البشرية.

“احنا بنخدم الشعب ونفسنا، لو فيه طفل صغير مش هيفهمني أبقى حزين”. موضحًا أن الصلاة بالقبطي تطلب أولاً أن يتم تعليم الشعب كله اللغة القبطية. ومن ثم تبدأ الصلاة بالقبطي. “لكن مقعدش أخلى واحد يسمع حاجة هو مش فاهمها”، على حد قوله.

القبطية تراث.. المحافظون يستدعون عظات البابا الراحل

هذه العظة وما تناولته من حديث عن اللغة العربية في الصلاة، فتح باب الهجوم العنيف على القمص تادرس يعقوب. الأمر الذي وصل حد بالتفريط في الإيمان الأرثوذكسي والثوابت الطقسية والهوية. بل وبدأت بعض الصفحات وعلى رأسها “رابطة حماة الإيمان”، باستخدام عظات سابقة للبطريرك الراحل البابا شنودة ثالث، ترفض تحويل الصلوات القبطية إلى اللغة العربية. ذلك بدافع حماية التراث المسيحي.

تحدث البابا الراحل -في أحد هذه المقاطع المسجلة له- عن كون الحفاظ على اللغة القبطية حفاظًا على “التراث”. هذا فضلاً عن سهولة الألحان مع بنية اللغة القبطية التي تتميز بكثرة الحروف المتحركة. ما يجعل ترجمتها إلى العربية يفقدها لحنها الأساسي المتوراث بين الأجيال.

قال البطريرك الـ 117 الراحل أيضًا -في حديثه- إنه لا يملك أي قدرة على إلغاء اللغة القبطية في الصلوات. كون الأمر يخص الكنيسة ككل ولا يملك البطريرك إلغاءه بجرة قلم.

محطات في تاريخ دعوة استبدال القبطية بالعربية

سبق القمص تادرس يعقوب إلى دعوة استخدام العربية في الصلاة بدلاً من القبطية دعوات مماثلة على مدار عشرات السنوات الماضية. بل وقبل 100 عام من الآن. وفق ما وثقه الأرشيذياكون حبيب جرجس (1876 – 1951) في كتابه “الوسائل العملية للإصلاحات القبطية” الذي طبع عام 1942.

يقول جرجس: “لغة طقسنا الديني هي اللغة القبطية التي كانت لغة مصر قديمًا قبل دخول العرب. وهي الصلة الوحيدة التي تصل أقباط هذا العصر بأجدادهم الأقدمين، وقد فقدت هذه اللغة بين الأفراد والأسر القبطية. لكن الكنيسة كعادتها في المحافظة أبقت لنا هذا الكنز السليم بأوامرها المشددة في كل العصور ألا تؤدي خدمة القداس إلا باللغة القبطية”.

أكد الأرشيذياكون الذي اعترفت الكنيسة القبطية بقدسيته عام 2013، أنه لولا الصلوات باللغة القبطية لضاع كل أثر لها. و”لم تجد هذه اللغة المسكينة في كل بلاد القطر المصري إلا زاوية صغيرة جدًا تقال فيها وهي هياكل كنايسنا. ومن العار أن تحافظ الكنيسة على هذا في عصور الاضطهاد والظلم وتهمله في عصور النور والحرية”.

في أربيعنيات القرن الماضي انتشرت انتقادات على الكنيسة بأنها تصلي بلغة لا يفهمها الشعب. الأمر الذي هاجمه الأرشيذياكون الذي أسس مدارس الأحد. فقال “هي نغمة أعداء الكنيسة الذين اتخذوا من هذه الانتقادات وسائل هدمها”.

وأضاف: “من يتدبر الأمر يرى أن أمجد عمل قامت به الكنيسة بعد ضياع كل شيء لها هو المحافظة على لغتها”. وتابع: “القبطية لغة بسيطة سهلة في تعلمها حيث يمكن في بضعة أشهر أن يقرأ الطالب ويفهم أهم ما في كتاب القداس”، مشيرًا أنه في حال تم ذلك فإن أقباط هذا العصر يساهمون في المحافظة على تراث أجدادهم.

ما سبق يؤيده أيضًا ما يتداول عن وثيقة للبابا كيرلس السادس البطريرك الـ 116. وقد البابا الراحل على كرسيه 12 عامًا في الفترة ما بين 1959 حتى 1971 ميلاديًا. وفي وثيقته يلزم رجال الإكليروس المسيحيين بالصلاة باللغة القبطية.

وثيقة البابا كيرلس
وثيقة البابا كيرلس

الألحان القبطية لغة وموسيقى

“الألحان القبطية، لها جانبين اللغة والموسيقي، وكلاهما ليسا فقط من تراث القبط، بل من تراث الوطن كله” كما يقول البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية.

هذه الكلمات للبابا تواضروس عكستها مجهودات الراحل الدكتور راغب مفتاح، الذي كرث أكثر من 80 عامًا من عمره، لإنتاج نوتة موسيقية للقداس الباسيلي والعديد من الألحان القبطية. كما أسس قسم الألحان في الكليات والمعاهد القبطية. وقد حفظت مكتبة الكونجرس الأمريكي نسخة من كل أعماله تقديرًا لجهده العظيم في حفظ الهوية القبطية.

ساويرس: عدم فهم الشيء لا يعني التخلي عنه

يحلل الدكتور إبراهيم ساويرس، المدرس بكلية الآثار جامعة سوهاج والباحث في الدراسات القبطية، دعوة القمص تادرس بقوله: “الأب تادرس لم يدع لاستخدام اللغة العربية في المطلق”. بل علق على موقف ما في كنيسة ما في ظرف ما. وذلك في أمر مرتبط بالأعياد وتسابق الشمامسة على استخدام ألحان نادرة وطويلة، غالبًا الشعب لا يعرفها، وهي ظاهرة لا ينكرها عاقل، على حد قول ساويرس.

لكنه يعود فيدافع عن القبطية لغةً للصلاة، ويقول: “إن كان الرأي هو التخلى عما لا يفهمه عوام الناس، فعوام الناس لا يفهمون اللاهوت، وليسوا خبراء في دراسات الكتاب المقدس، فهل المنطق أن نستغني عن ذلك أيضا؟”. إذ يضع “ساويرس” الألحان القبطية في مفهوم أوسع. وهو مفهوم مرتبط بهوية المسيحيين، ومن هم ولماذا يجعلهم جماعة دينية ذات هوية مختلفة. كما يلفت إلى أن تعلم اللغة القبطية وتسليم الألحان القبطية قد شهد تطورًا لا مثيل له خلال العشرين سنة الماضية.

“يقول البعض أن لحن غولغوثا الذي يتلى في جمعة الصلبوت بنيته اللحنية تتوافق مع ألحان كانت تتلى على الفرعون أثناء تحنيطه، ليس النص ولكن النغمة. بقول بعض الدارسين ان الادوات الموسيقية المصرية القديمة يمكنها ان تعزف الالحان القبطية، وأن أصول الألحان القبطية المسلمة شفاهة لها أصول مصرية قديمة. هذا تراث عمره آلاف السنين متجذر في عقول ونفوس عوام القبط”.

شمامسة يتلون الصلاة
شمامسة يتلون الصلاة

يتساءل ساويرس: “كيف تكون الألحان القبطية محل دراسة وفهم في جامعات أوروبا المتقدمة بينما تهاجم في موطنها؟”. وينصح: “على القبط أن يبذلوا مجهودًا لفهم تراثهم أولاً ثم يقرروا تطويره أو تغييره أو حتى هجره. لكن لا يمكن لأحد أن يقول أني أرفض ذلك دون أن أعرفه. فالأب تادرس ذاته يحدثنا عن عظمة أوريجانوس في تفسير الكتاب المقدس، ونحن نتبعه في ذلك، نفهم رأي أوريجانوس في نقطة ما ثم نقرر إن كان في ذلك مخالفة للإيمان أم لا وهكذا”.

ولإنهاء هذه الجدلية تمامًا، يقول ساويرس: “الله لا يتكلم القبطية أو غيرها.. من رأى أن اللغة تعطله عن نموه الروحي فليصل بأي لغة يريد”. ويضيف أن القبط كتبوا بالعربية لاهوتهم، وهناك ألحان عربية صرفة ولا يعد هذا تناقض بل تكامل للفهم والمعرفة والحفاظ على التراث. لكنه يرى “التناقض الوحيد هو أن يفرض أحدهم علينا التخلي عن هوية عمرها مئات السنين لم يبذل أحدًا مجهودًا في فهمها”. 

زاوية جديدة للأزمة

بعيدًا عن لغة الصلاة، يرى القس أنطونيوس فهمي، كاهن كنيسة مارجرجس و الأنبا أنطونيوس محرم بك بالإسكندرية وأحد كبار معلمي الكلية الإكلريكية، أن الخلاف جاء بسبب الأهمال في التعليم، ونتيجة اقتصار التسبيح على مجموعات صغيرة جدًا نادرًا ما تعرف ما تسبح به ولا تدرك أنفاس الروح المقصود بها اللحن فصارت تتقن الأداء فقط.

ويرى القس أنطونيوس أن تلك المجموعات الصغيرة أصبحت تهتم بارتفاع الأصوات، ومنهم من يتنافس على الميكروفون ويرغب في لفت الانتباه إلي براعة الأداء أكثر من براعة اللحن، وربما لا يعرف ولا يفهم ولا يشعر بما يقول.

حلول للخلاف على المدى الطويل

مع تكرار الخلاف حول الصلاة باللغة العربية للفهم والإدراك أو الحفاظ على الهوية، قدم كريم كمال، الكاتب والباحث في الشأن السياسي والقبطي ورئيس الاتحاد العام لأقباط من أجل الوطن، حلاً طويل الأمد يساعد على عدم تكرار ذلك الخلاف مجددًا. ذلك عبر تخصيص درس خاص باللغة القبطية في مدارس الأحد وكل الكليات اللاهوتية القبطية الأرثوذكسية. وذلك يساعد في خلق جيل جديد مدرك للصلوات بتلك اللغة، وفي ذات الوقت يحافظ على هوية الكنيسة.

يوضح كمال، لـ “مصر 360″، أن كلام القمص تادرس يعقوب يعد جرس إنذار أن الشعب فقد لغة كنيسته الأم. بالتالي أصبح يصلي بلا روحانية نتيجة عدم فهم الصلوات. رغم أن اللغة القبطية هي هوية الكنيسة ويستحيل الاستغناء عنها. ضاربًا المثل بالكنائس السريانية والأرمنية واليونانية التي لم تستغن عن اللغة الأصلية لها.

ويؤكد أن الوضع الذي تعيشه الكنيسة في الوقت الجاري من خلال الصلاة باللغة القبطية إلى جانب اللغة المحلية لكل دولة هو الوضع الأمثل، حيث يفهم عامة الشعب الصلاة، وفي ذات الوقت يتم الحفاظ على التراث القبطي، مشيرًا إلى أن كل كنيسة يفضل أن توازن بين هذا وذاك حسب ثقافة شعبها.

كتب – كيرلس بشارة