بينما كانت هتافات “الشعب يريد إسقاط النظام” تدوي في الميادين المصرية، للمطالبة برحيل نظام مبارك، كان “مهند صديق” الذي لم يكن أتم عامه العاشر بعد، منكفأ على جهاز “بلاي ستيشن”، غير عابئ بما يدور حوله من مشاهد جديدة على حياة المصريين.
مهند يقول: “أذكر مع بداية الثورة لم أبد أي اهتمام، فقط عندما بدأت الأحداث في التصاعد ونزول الأهالي لحماية منازلهم طالبت والدتي في ذلك الوقت بالمشاركة مع أصدقائي من باب الفٌرجة لكنها رفضت، والدي يعمل بأحد دول الخليج، وأنا أكبر أخوتي لذا كان رفضها قاطعًا”.
“إسقاط النظام” ومهند يلعب “بلاي ستيشن”
بدأ مهند في متابعة مجريات الأمور عبر شاشات التلفزيون، وقتها تحرك شيئ ما داخله، لم يعرف ما هو لكنه أراد أن يكون جزء من المشهد، والده روى له قصة الثورات التي مرت على مصر، وكيف كانت نقطة تحول كبيرة في التاريخ.
يضيف: “ظلت والدتي رافضة لمشاركتي، كان لدي أصدقاء ذهبوا مع أشقائهم الكبار وعائلاتهم إلى الميدان، كنت أتواصل معهم انتظر وصولهم إلى المنزل ليروا لي ما رأوا، كنت أتمنى أن أكون أكبر سنًا حتى استطيع أن افرض وجهة نظري على والدتي”.
جيل 2000 يشاهد ثورة تسقط النظام في التلفزيون
مرت ثورة 25 يناير على مواليد الـ2000 وما قبها بسنوات قلية مرور الكرام، كانوا مشاهدين غير فاعلين إلا أنها غيرت في طريقة رؤيتهم وتعاطيهم مع المجتمع من حولهم، أخذتهم الثورة إلى آفاق أبعد وعرفتهم إلى ثقافات متعددة، ساعدتهم على اكتشاف حيوات أخرى خارج نطاق البيت والمدرسة وتعاليم الأسرة الأحادية.
خلال عشر سنوات، نضج الأطفال وباتوا شبابًا، تفتحت عقولهم على أفكار ورؤى مختلفة ساهمت في تكوين شخصياتهم والتعرف أكثر على الآخر، فضلًا عن الاهتمام بالشأن العام ولو من بعيد، كانت الثورة مفتاح الحياة بالنسبة إليهم، وكان الأثر الإيجابي رغم عدم مشاركتهم في الشرارة الأولى للثورة، إلا أن تلك الشرارة ظلت مشتعلة لسنواتها العشر.
كانت الثورة باب كبير لـ”مهند” دخل منه إلى عالم واسع، في ظل رفض والدته المشاركة لم يجد أمامه سوى مكتبة والدته التي لم يقربها طيلة حياته، هناك انغمس في قراءة التاريخ والتعرف أكثر على الثورات، زادت متابعته للقنوات الفضائية، كان يشاهد برامج الـ”توك شو” ليزيد من اتساع رؤيته للحدث الأكبر في حياته.
أعقاب تنحي مبارك وخلال السنوات الأولى، تسللت مصطلحات جديدة إلى الشاب. عرف من التلفزيون كلمات لم يدرسها: “الإيدولوجية، اليساري، الليبرالي، المجلس الرئاسي المدني”.
“أنا مدين لـثورة 25 يناير بكل ما تحمله شخصيتي من سمات مختلفة لم تكن مقبولة في البيئة التي نشأت فيها، الآن أنا أملك هامشًا لم تعيشه أجيال تكبرني”.. يواصل “مهند” حديثه عن التغييرات التي طرأت على حياته.
اقرأ أيضًا.. ثورة يناير بين فشل السلطة وسلطة الفشل
النظام و”الورد اللي فتح في الجناين”
يروي “مازن صلاح” من مواليد 2001، أحداث 25 يناير التي عايشها ولم يشارك فيها، عايشها كمشاهد ألقت بظلالها عليه لتأخذه لمرحلة جديدة من الحياة وتطبع في نفسه رؤية ثاقبة للأحداث التي تدور من حوله.
“مازن” أحد هؤلاء الذين لم يشاركوا في الثورة لكن لحقوا بركابها، لم يضحوا بحريتهم أو حياتهم من أجل العيش بحياة كريمة، زادت الثورة مازن وغيره من مواليد عام 2000 بشئ من الوعي والإدراك، خلال السنوات العشر التي تلت إسقاط النظام اكتسبوا ثقافة وفكر ساعد في تكوين إيديلوجية خاصة بهم، ليكونوا قادة وكوادر في مرحلة ما من مراحل الثورة التي لم تنته رغم الخسائر التي تكبدتها حتى كتابة هذه الكلمات.
اقرأ أيضًا.. الأعباء القانونية والتشريعية لثورة يناير
مصطلحات جديدة
ينتمي “مازن” إلى أسرة ميسورة الحال حينها لم يكن يبلغ سوى 11 عامًا، قضاها بعيدًا عن الأحداث الجارية ومحاولات تصحيح المسار، عائلته ذات علاقات ممتدة إلى داخل النظام المباركي.
يقول مازن عن تلك الفترة: “لما الدنيا بدأت تحتد يوم 28 يناير، إحنا في البيت ماكناش مشغلين غير التلفزيون المصري، وقد أيه أمي كانت مرعوبة، وقد أيه كانت بتفهمني الناس دي أنهم بلطجية وجواسيس وأمريكا اللي محركاهم وأنهم عايزين يوقعوا البلد، وقد أيه صدقتها بسبب آخر حاجة شفتها على التلفزيون المصري من ساعتها، وهي مشاهد الحريق اللي مصورها بشكل يرهب النفس ويحسسك أننا في حرب والصواريخ نزلت في كل حتة ودمرت الأرض، وكل دا مدموج بصويت الناس في المداخلات الهاتفية”.
لم يشارك “مازن” ولم يدفعه الفضول للتعرف على دوافع المشاركين، شكلته عائلته ثقافته ومعلوماته عن الحياة لكن الأحداث الآخذة في الصعود غيرت مجرى رؤيته للأحداث.
“حسيت أن الموضوع كبير”
يقول مازن: “اتقطع الإنترنت والتليفونات، وساعتها اتكدرت، بس حسيت برهبة مختلفة، حسيت أن الموضوع أكبر من الموساد المرة دي، ونزلت يوميها أنا وأمي ورحنا لخالتي، وساعتها قابلت ولاد خالتي (سيف قدي في السن، ونور أكبر مننا بـ6 سنين)، وكنت بأقول قد أيه دول ولاد ستين في سبعين والبلد واقفة وبتاع، ساعتها نور ورتني فيديوهات لأول مرة كنت أشوفها، وأكتر حاجة فاكرها هو مشهد العربية اللي بتدهس الناس عند الجامعة الأمريكية”.
كان أحد المشاهد الدموية في أحداث الثورة سببًا في تغير رؤيته للأمر: “أنا طلعت شخص مختلف، ودي كانت أول مرة أدرك أني شخص ماشفتش حاجة في الدنيا، وأن فيه حاجات تانية أكبر ممكن أكون مهتم بيها، أنا وأغلبية الشعب المصري دخلنا في ثقب أسود شبه بأفلام الفانتازية، فيه كل الإعلام منتصر للثورة، وفيه حقايق تاريخية من سنين أول مرة تطلع للنور، وفيه كل واحد عنده فكرة أو رأي مختلف مبيخفش يقوله، كل الأقليات والمستضعفين في وقتها اتكلموا كتير، وكل الناس بتتكلم بكل صراحة”.
كان أحد مميزات الثورة التعرف على الآخر، معرفة أن العالم لا يقف عند حدود العائلة وأن هناك أفكار مختلفة يجب التعرف عليها عن قرب: “خلال تلك الفترة كنت أول مرة أسمع عن المثليين والملحدين واللادينيين وأن فيه نوع تاني من المسلمين اسمه شيعي، وأن فيه حاجة اسمها علماني ويساري وليبرالي، وأن مش كل الإخوان إرهابيين، وأن فيه يهود هنا، وأن فيه ناس تانية عايشة معانا، بجانب أني قدرت أشوف معاناة الشعب اللي كنت عارفها بس من برنامج عمرو أديب والبيت بيتك”.
الثورة في شرم الشيخ
أما “سما محمد” من مواليد 1999، كان موقفها من الثورة معاديًا منذ اللحظة الاولى، بالنسبة إليها الثورة جاءت وبالًا عليها وعلى أسرته، حينها لم تكن بلغت سوى 12 عامًا، وكان إجازة نصف العام بدأت، وانتقلت بصحبة عائلتها إلى شرم الشيخ لقضاء الإجازة.
تقول سما: “لم أكن مهتمة بالسياسة، في الحقيقة قضيت 10 سنوات في أحد البلاد العربية وكنت أشعر بالكره تجاه مصر، لكن والدي رأى أن الوقت مناسب للعودة، عدنا قبل الثورة بعامين زادوا من بغضي لـ”مصر” وكل ما فيها، عندما بدأت الثورة في التعبير عن نفسها كنا في شرم الشيخ وفجأة وجدت والدتي يطالبنا بالذهاب إلى الغرفة في الحال، وتجمعت الأسرة كلها داخل الغرفة وكنا نشاهد الأحداث التي تجري على الأرض عبر التفزيون، شعرت بكراهية أكبر تجاه البلد”.
كانت الأحداث متسارعة، شباب يصابون، شهداء يقعون برصاص لا أحد يعرف مصدره، مقاطع فيديو من هنا وهناك، اشتعلت الأحداث والمشهد الرئيسي دموي بامتياز.
“أعيش في فقاعة وسط مشهد دموي”
تقول سما: “بدأ والدي الذي لم أسمعه يومًا مهتمًا بالشأن العام يحدثنا عن الثورة ودوافعها والظلم الواقع على طبقات متعددة في المجتمع، لفت انتباهي إلى مجتمع آخر غير تلك الفقاعة التي أعيش داخلها، فتح عيني على اتساعها لأرى ما هو أكثر من غضب ومشهد دموي يظهر على السطح وسط النظام السيئ الذي عاش فيه المصريون”.
مرت الأيام وبدأت برامج التوك شو تستسلم للأمر الواقع، سقط مبارك أخيرًا بعد 30 عامًا تقول سما: “حينها بدأت التعرف على مصطلحات لم تأت على سمعي من قبل، كان ضياء رشوان – نقيب الصحفيين الحالي – يقدم برنامج على أحد القنوات الفضائية يشرح فيه معنى الأيديوجية واليسار والليبرال والديمقراطية حينها بدأت أعي ما حولي، رحت أبحث على صفحات الإنترنت عن المصلطحات ومعانيها، بل وصل الأمر إلى أن إحدى أشقاء صديقاتي انضمت لأحد الاحزاب لأبدأ بدوري بالتعرف على الأحزاب ودورها، شعرت أنه من الممكن أن أخذ دورًا في الشأن العام”.
اقرأ أيضًا.. هيثم الحريري يكتب عن محاكمة ثورة يناير
بدأت “سما” في التعرف أكثر على المجتمع من حولها، رأت الأمور من زاوية رؤية مختلفة، ليسوا رعاع أو سارقين هم طبقات عانت الآمرين لعقود والثورة فاتورة مؤجلة الدفع وحان وقت سدادها.