بينما كان الأطباء ومشرفو التمريض يباشرون عملهم في مستشفى الحميات بمدينة أشمون التابعة لمحافظة أسوان، تسلل أحد مصابي فيروس كورونا وألقى بنفسه من شرفة الطابق الرابع للمستشفى، ليلقى مصرعه في الحال، وسط صراخ من المرضى، صاحبها هرولة من الأطباء الذين أتوا على الأصوات.
كان هذا في 16 يناير الجاري، وفي نفس اليوم أيضا حدثت واقعة مماثلة في مستشفى حلوان، بعدما أقدم رجل أربعيني على الانتحار، حيث ألقى بنفسه من شرفة الطابق الخامس للمستشفى، وذلك بعد أن أكدت الفحوصات والتحاليل اللازمة إصابته بالفيروس.
وأثبتت مناظرة الشرطة أن المريض استغل وجود نافذة الشباك مفتوحة، لغرض التهوية داخل المكان المخصص لعزل مرضى كورونا، وألقى بنفسه على الفور.
قبل ذلك بأسبوع، وتحديدا في 9 يناير، لكن فى مستشفى ميت غمر المركزي بالدقهلية، والمخصص لعزل مصابي كورونا، انتحر مصاب آخر بعد طلبه أكثر من مرة الخروج من العزل، على الرغم من استمرار إيجابية عينته، حيث أكد البعض أنه كان يعاني من أزمة نفسية نتيجة إصابته.
هذه جملة حوادث انتحار مصابي فيروس كورونا خلال شهر واحد فقط، مما يكشف عن حالة الاكتئاب الشديدة التي يمر بها المرضى في مستشفيات العزل خلال فترة خضوعهم للعلاج، وهي ظاهرة عالمية تزاد وتقل حسب البنية التحتية للدولة ومدى اهتمامها بالطب النفسي في متابعة الحالات المصابة، نظرا للاكتئاب المصاحب للأعراض العيائية.
وكشفت دراسة نشرتها دورية “سيكولوجيكال ميديسن” (Psychological Medicine)، أن كوفيد-19 وما تبعه من تداعيات، مثل إجراءات الإغلاق الوطني العام والحجر الصحي والعزل، أدى إلى زيادة الضغوط النفسية والاجتماعية على الأُسر الضعيفة والفقيرة والتي تعاني من ظروف سيئة مثل البطالة، وانعدام الأمن الغذائي، ما يزيد من خطر تعرُّضها للإصابة بالأمراض النفسية، خاصةً الأشخاص الذين عانوا –في السابق- من القلق ومن صدمات الطفولة ومن آثار الفقر والحرمان.
من لم يمت بالفيروس مات منتحرًا
كانت أولى حالات الانتحار لمرضى كورونا في مصر، لشخص أربعيني داخل مستشفى الصدر بالعباسية، في مايو الماضي، حين ألقى بنفسه من شرفة غرفته في الطابق الرابع للمستشفى، بعد أن عاني من حالة نفسية سيئة، بسبب إصابته بفيروس كورونا.
وفي يونيو الماضي، انتحر مصاب كورونا داخل شقته في أوسيم، شنقًا، وتم نقل جثته من قبل النيابة العامة إلى مستشفى أوسيم المركزي، المخصص لعزل مرضى كورونا، وسط إجراءات احترازية مشددة، ووضعوا الجثة داخل كيس طبي بسيارة الإسعاف، ونقلت إلى المستشفى.
وفي أغسطس، انتحر مدرس، خمسيني العمر، مصاب بالفيروس في قرية شبرا ملكان، التابعة لمركز المحلة بالغربية، بعد أن طاردته الشرطة خلال هروبه من العزل الصحي بمستشفى الحميات، ما دفعه إلى إلقاء نفسه في الترعة.
وخلال نفس الشهر، ألقى مصاب نفسه من الطابق الثالث لمستشفى العجمي العام للحجر الصحي غرب الإسكندرية، وتبين خلال التحقيقات أنه كان يعاني من حالة نفسية سيئة، ومحجوز بصحبة زوجته في المستشفى منذ عدة أيام قبل انتحاره، وقبل فعلته بيوم كان قد أحدث شجارًا مع زوجته، وحاول الأطباء تهدئته.
الطب النفسي.. إجراءات العزل تؤثر نفسيًا
يقول الدكتور وائل فؤاد، استشاري الطب النفسي، إن حالات الانتحار نتيجة الإصابة بفيروس كورونا مع تناول مثبطات المناعة، وإجراءات العزل في حد ذاتها كلها أمور تؤثر نفسيا عليه لذلك يقرر أن يتخلص من معاناته ويختار الموت بدلًا من انتظاره.
وأضاف فؤاد أن حالة الهلع المصاحبة للفيروس أقل في الموجة الثانية؛ لأن الناس أصبحت أكثر تعايشًا مع الشعور بالقلق، ويتضح ذلك من خلال تخفيف الإجراءات الوقاية التي ألتزموا بها خلال الموجة الأولى.
اقرأ أيضًا: هجرة الأطباء.. هروب من أوضاع سيئة لا من مواجهة الجائحة
وتابع استشاري الطب النفسي: “ربما يكون الأمر مختلف مع من فقدوا عزيز لهم خلال الموجة الأولى، أو كانت لهم تجربة سيئة مع المرض، لأن جهاز المناعة النفسي يتحفز أكثر من الشخص الذي لم يمر بنفس الظروف، مؤكدًا ضرورة زيارة الطبيب النفسي في حالة استمرار القلق أو وجود الكثير من الأفكار السودوية لديهم”.
ويرى أن حالات العزل المنزلي هي الأكثر تأثرًا من حالات المستشفيات، فالمريض لا يفكر إلا في الفيروس المميت، والوصم الخاص به، مما يجعله يعاني من اضطرابات نفسية قد تستمر معه حتى بعد التعافي.
ويضيف فؤاد لـ”مصر 360″ أن الوباء يخلق حالة من موجات هلع وغموض للمستقبل، والعزلة الاجتماعية، وغيرها من الظواهر المرتبطة بالفيروس تصيب المناعة النفسية وتجعل أعدادًا أكبر من الأشخاص عرضةً للاضطرابات النفسية وأهمها الاكتئاب.
اقرأ أيضًا: 113 كادرا طبيا رفضوا التطعيم.. 10 معلومات عن أول مستشفى يتلقى لقاح كورونا
هذه الأحداث متصلة بحوادث انتحار مماثلة شهدها العالم لمصابين بالفيروس، ناتجة في الأساس عن مرور المصاب بحالة نفسية سيئة، ودخوله في حالة اكتئاب.
وسجلت اليابان على سبيل المثال، ارتفاعا قياسيا في عدد المنتحرين خلال شهر واحد، وذلك في أكتوبر الماضي، بنسبة 82 بالمئة بين السيدات و21 بالمئة بين الرجال، وبواقع 5153 حالة في شهر، وذلك بسبب التداعيات النفسية والاقتصادية لفيروس كورونا.
وطبقا لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، فإن عدد المنتحرين سنويا حول العالم يصل إلى 800 ألف شخص. وسبق وأن شددت المنظمة على أن فيروس كورونا قد غيّر خارطة الصحة النفسية، بعد أن خلق تبعات وضغوطات نفسية كبيرة.
حكايات طبيب نفسي مع كورونا
فور إعلان وزارة الصحة المصرية فتح باب التطوع لغير العاملين بالقطاع الطبي، للمساعدة في مواجهة الفيروس المستجد، مايو الماضي، بادر طبيب نفسي بالتطوع برغم كونه طبيبًا إلا أنه لم يشترط عند التطوع أن ينحصر عمله في مهام الطبيب، فهو يريد أن يخدم المصابين تحت أي مسمى، وبالفعل انضم في منتصف شهر رمضان الماضي، لزملائه كطبيب في إحدى المستشفيات المغلقة على مرضى كورونا.
الطبيب الذي فضل عدم ذكر أسمه، سجل بياناته وإرسلها لوزارة الصحة، وبالفعل ذهب إلى إحدى مستشفيات العزل، دون أن يعلن ذلك لأنه يرفض المزايدات وما وصفه بـ”الشو الإعلامي”.
يقول الطبيب إن غالبية المرضى كانت تنحصر أسئلتهم عن موعد سحب المسحات منهم للتحليل والموعد المتوقع خروجهم فيه، لكنه يتذكر نواح وصريخ السيدة الأربعينية لحظة إخبارها بموت والدتها جراء إصابتها بالفيروس، ونظرات طفلها إليها.
الحزن الأعمق في قلب هذه السيدة هو أنها لم تستطع وداع والدتها أو الوقوف معها لحظة الغسل.
كانت آخر زيارة لها وأخوتها لأمهم التي لم يعلموا بإصابتها بـ”كورونا”، سببًا في نشر العدوى لسبعة وثلاثين فردً غيرهم من أفراد عائلتهم، توزعوا بأماكن عزل في ثلاث محافظات مختلفة، يطمئنوا على بعضهم عبر اتصالات هاتفية ورسائل لمشاركة أحزانهم.
يقول الطبيب: اتصلت بالأم بعد خروجهما من المستشفى، وجدتها تعافت من الفيروس جسديًا، لكن ظل الألم النفسي لتلك اللحظات والقلق مما هو قادم هو الغالب في حديثها معي.
ويروي الطبيب حكاية سيدة أخرى يتجاوز عمرها الـ60 عامًا، في غرفة بمفردها لتفاقم أعراض مرضها، وهي تنظر إلى هاتفها التي وضعته بجوارها على الفراش تحسبًا لاتصال أحد أولادها بها وسماع صوتهم.
“تعبت وجابوني هنا من اسبوعين ومن وقتها محدش سأل عليا، حتى بالتليفون.. مفيش فيهم واحد كلمني”، كان هذا رد السيدة عند اقتراب الطبيب منها وسؤاله عن حالها، لكنها كأي أم تحاول أن تبرر ذلك بانشغالهم في العمل أو خوفهم عليها من الحديث في التليفون، وغيرها من الأعذار التي تلتمسها لهم.
يلوم الطبيب نفسه بسبب انشغاله عن متابعة هذه السيدة بعد تركه العمل التطوعي في المستشفى، لأنه يرى أن الم هذه السيدة النفسي كان أكبر من الجسدي، وربما يكون اثر عليها لاحقًا، مضيفًا: لم تكن تهتم بتناول الأدوية أو الطعام، كانت وحدتها وتخلي أقرب الناس عنها هو الشعور الغالب عليها، لذلك اقترحت وقتها على الأطباء نقل مريضة أخرى لتكون مرافقة لها في غرفتها لعل تهون عنها وحدتها.
اقرأ أيضًا: حذر وعدم ثقة بين الأطقم الطبية.. ماذا نعرف على لقاح كورونا الصيني في مصر؟
لا دعم نفسي.. نكتفي بالتوصية
“مصر 360” تواصلت مع 5 مصابين تم حجزهم في مستشفيات مختلفة خلال الشهرين الماضيين، والذين اكدوا أنهم لم يتلقوا أي رعاية طبية على الجانب النفسي، ولم يزرهم طبيب متخصص في هذا الشأن.
ما قالته هذه الحالات يتفق مع حديث أحد الاطباء النفسيين، الذي أكد أنهم كانوا جزءًا من الفريق العلاجي في بداية الموجة الاولى لكورونا، لكن مع تزايد الحالات أصبح يتم استدعائهم عند الحاجة ووفقًا لتوصية الطبيب المعالج فقط.
فيما قالت د.منن عبد المقصود أمين عام أمانة الصحة النفسية بوزارة الصحة والسكا ، أنه منذ بداية أزمة كورونا تم تطوير الخط الساخن للاستشارات النفسية والدعم النفسي ليعمل على مدار 24 ساعة، على سماع شكاوى المواطنين والتعامل معها على الوجه الأكمل.
وأوضحت د.منن في مقطع فيديو بثته وزارة الصحة، أن القائمين على خدمة الخط الساخن يتعاملون مع الحالات والبلاغات التي تصلهم، بأحدث النظريات العالمية، وهي “الطب المبني على الدليل” بحيث يقومون بدورهم دون الحاجة للتواجد مع الحالات في أماكن العزل حتى لا يزيدون الزحام بالمستشفيات، ولا يعرضون أنفسهم للعدوى، مستهدفين جميع الأطقم الطبية، والقائمين على مستشفيات العزل، في خط ساخن خاص بهم، مدعومون بخبرات مصرية وأجنبية، بالإضافة إلى دعم المرضى، وجميع فئات الشعب المصري.
وذكرت أنه يتم تقدم خدمات الدعم النفسي للمواطنين أثناء فترات العزل المنزلي وكذلك للمصابين والمخالطين، وذلك من خلال الساخن ١٠٥، كما تم تفعيل خطين آخرين هما ٠٨٠٠٨٨٨٧٠٠ و٠٢٢٠٨١٦٨٣١
وحذرت د.منن عبدالمقصود، من الإفراط في القلق والخوف والتوتر أو ما يسمى الانتباه الاختياري، فيما يخص تفشي فيروس كورونا، ومستجدات الوضع الوبائي.
وأكدت أنه من الضروري وضع المشكلة في حجمها الطبيعي وإتباع الإجراءات الاحترازية، وعدم الانسياق وراء الخوف والهلع الذي تبثه بعض صفحات وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأنه مناخ غير صحي، كما يجب تجنب حالة اللامبالاة، التي يعيشها بعض المواطنين الذين لا يقرأون ولا يتابعون ما يجري من حولهم.
وقالت إن وزيرة الصحة والسكان د.هالة زايد، اهتمت بالدعم النفسي للمواطنين منذ اليوم الأول لها في الوزارة وهو ما ظهر بوضوح في عدد من المواقف والأزمات التي مر بها المواطن المصري.
اقرأ أيضًا: الأنفاس الأخيرة.. رحلة البحث عن أنبوبة أكسحين مع مصابي كورونا
مبادرات دعم نفسي داخل منظومة التأمين الصحي الجديد
الهيئة العامة للرعاية الصحية، وهي إحدى الهيئات المعنية بتطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل الجديد، أطلقت عدة مبادرات منها مبادرة (وقاية) لتوعية المواطنين والعاملين بالقطاع الطبي بالإجراءات التي يجب اتباعها للوقاية من عدوي فيروس كورونا المستجد، ومبادرة (ماتشيلش هم) لتقديم الدعم النفسي والمعنوي للمنتفعين بمنظومة التأمين الصحي الشامل، والعاملين بالقطاع الطبي هيئة الرعاية الصحية بورسعيد، لتقليل الآثارالنفسية السلبية الناتجة عن الإصابة بفيروس كورونا المستجد.
مبادرة (اطمن) والتي يقوم من خلالها منتفعي المنظومة بالتواصل مع الأطباء الاستشاريين والاخصائين من خلال مكالمة تليفونيه أو بالفيديو مجانًا عبر تطبيق «بالطو»، وذلك في التخصصات الطبية التي يحتاجها المنتفعين بشكل متكرر وسريع، وتشمل تخصصات (القلب- الباطنة- الأطفال- الجلدية- النفسية- التغذية- طب النساء- طب الأسرة).
وأعلنت الهيئة العامة للرعاية الصحية، خلال الأسبوع الماضي، عن توفير خطوط تليفونية لتلقي استفسارات المصابين بفيروس كورونا، وتقديم خدمات الاستشارات الطبية عن بعد، بالإضافة إلى خدمات الدعم النفسى للمرضى ولذويهم وذلك بمستشفيي المبرة والحياة بورفؤاد، واللذين خصصتهما لعزل مصابي كورونا الواقعين في نطاق محافظة بورسعيد، وهي أولى المحافظات التي طبقت منظومة التأمين الصحي الشامل.
وأوضح بيان الهيئة العامة للرعاية الصحية، أنه تم تخصيص أرقام 01147077744، 01119211364 لمتابعة مرضى مستشفى المبرة وتقديم الدعم النفسي والاستشارات الطبيةلهم ولذويهم بالمجان، كما تم تخصيص الرقم 01030830465 بمستشفى الحياة بورفؤاد لنفس الغرض، لافتة إلى استمرار عمل هذه الخطوط يوميًا على مدار 24ساعة.