اسمه طارق، عمره يقترب من الخمسين، ملامحه شديدة المصرية: قمحي، يمتلك جبهة عريضة، وأنف طويلة.
لا أمتلك حاليا معلومات كافية عن صديقي المجهول إلا: ملامحه، ورقم هاتف لم أختبر صلاحيته منذ سنوات طويلة، وأسلوب حياة عشوائي كحياة أغلب المصريين. كلانا ينتمي إلى عالمه: أنا صحفي، وهو حرفي، لم نكن سنجتمع في جلسة واحدة أو صحن سوى هناك.
في السنوات الأولى للثورة، حيث الميدان لا يهدأ، والهتافات تدوي وتتطور من مبارك إلى مجالس حكم مؤقتة، والخيام تنصب، والعلاقات الاجتماعية تنشأ على الهامش، عرفت طارق، الذي اعتاد اقتحام الأحاديث بحثا عن معلومة جديدة أو كلمة مفيدة في جلسات الميدان.
يتسلل بجسده النحيف، وحقيبته التي لا تفارق ظهره، بخفة شديدة من جلسة إلى أخرى في أوقات قصيرة، فمازالت أحفظ مشيته إلى الآن: كتف طالع وآخر نازل، يتفقد الوجوه، ويركز في المصطلحات المأدلجة، كان متحمسا للثورة ويكره الساسة الانتهازيين، والإخوان، هذا مؤكد.
كان يُنهي عمله اليومي، الذي لم أفهمه حتى الآن، ثم ينزح إلى الميدان ليلا، ليبدأ جولة جديدة من أيام الثورة. أحيانا يجوب الميدان من شماله إلى جنوبه، ومن طلعت حربه إلى عمر مكرمه، وفي أحيان أخرى ينزوي مع أكواب الشاي والسجائر الكليوباترا.
بعكس كثير ممن شاركوا في الثورة وما تلاها من موجات، كان طارق يعتبر الميدان محطة رئيسية في حياته لا يمكن أن يتنازل عنها، كالتائه الذي عثر على ضالته. كنت أشعر أنه يحتمي بالميدان، يخلع خارجه عباءة طارق المهزوم اجتماعيا ويرتدى أخرى أكثر شجاعة. لم يشكل أسرته الخاصة، لا زوجة لا أبناء، فقط أشقاء يبحثون عنه من حين لآخر إذ طال غيابه.
كلها أسباب دفعته إلى الميدان، فمشاركته لم تكن سياسية، كما كان يتظاهر أو هكذا أزعم. لا أخفي وعيه الحاضر في النقاشات السياسية التي اكتسبها بالتأكيد من رحلاته المكوكية بين جلسات التحرير، لكن وراء هذا الرجل قصص هزيمة تشبه قصصنا وجروحنا.
اللافت أيضا أنه شخص ناقم على الحياة والأوضاع السياسية في بلاده، فلا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، أنا أتمسك بالبصيص وأحيانا أكتفي بأنصاف الأكواب، وهو لا يريد الارتواء إلا من الأكواب الكاملة: إما أن تحكم الثورة أو لا.
لم يضع طارق ثقته في الساسة إطلاقا، هذا ليبرالي لا يعول عليه، وذاك ناصري حنجوري لا يمتلك الرؤية الكاملة، والإخواني الانتهازي الذي يتحين الفرصة للانقضاض على الثورة، وغيرهم ممن خذلوا طارق، وخذلونا.
في الميدان، لم يكن يتكلم كثيرا، لا يحتد، لا يتشنج، وخارجه حيث جلسات الشاي في مقاهي وسط البلد يبوح بالكثير من آرائه، شرحت بعضا منها. وإذ صمت يكتفي بابتسامة هادئة تأييدا لما يقال.
غاب طارق كثيرا عن الميدان في مراحل الحشد الأسبوعي بين عامي 2011 و 2013، ما جعلني أهاتفه خوفا عليه من الاعتقال، خصوصا أنه ليس من المعروفين، ولن يكتب أحد حرفا عنه، فيجيب بأنه سليم ويتعذر حضوره لسفره خارج القاهرة، ويقرر ردها إلي مجرد انقطاع عن الذهاب إلى الميدان.
أحب الميدان، لكني لا أقدسه، مثله مثل كثير من الأماكن التي أشعر بالممل منها بعد أن تألفني وأألفها.
أٌغلق الميدان في وجه طارق بعد عام 2014، فقلت مقابلاتنا، لكنها لم تنقطع، حيث كنا نذهب سويا للمقهى الذي ظل يستقبل جمهور الثورة قبل أن تتغير تركيبته جمهوره، وتتغير وسط البلد بأكملها: إن أعادوا لك المقاهي القديمة من يعيدُ لكَ الرفاق؟
عاتبني طارق كثيرا في السنوات اللاحقة لإنهاء “عهد المظاهرات” أنني لم أعد أهاتفه: هل كانت تجمعنا الثورة فقط؟ ربما، فغيره كثيرون عرفتهم ولم نفترق.
أفهم أن الدوائر لها عامل كبير في إدارة علاقاتنا، فهو ينتمي إلى عالم مختلف عن الذي أنتمي إليه، وانتهت الثورة وعاد كل واحد إلى عالمه.
أعادت عشرية يناير تفكيري في حكاية طارق، أخينا الذي جاء من المجهول، فهو يشبه إلى حد كبير “فلان الفلاني اللي ضايع في وسط الآلاف” كما قال شاعر الثورة مصطفى إبراهيم.