بعد أسابيع من نجاح ثورة 25 يناير في إسقاط نظام الرئيس الراحل حسني مبارك، سلمت لجنة تقصي الحقائق حول أحداث الثورة إلى المجلس العسكري ومجلس الوزراء والنائب العام، تقريرا مفصلا عن الأسباب التي دفعت الجماهير للتجمع والخروج للتعبير عن أمانيهم في التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية بـ«شكل سلمي متحضر»، أوضحت فيه كيف تعاملت أجهزة النظام الساقط مع تحركات تلك الجماهير التي قررت النزول إلى الشوراع والميادين بعد أن فاض بها الكيل.

اللجنة التي تشكلت في ظل حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبلاد، وترأسها المستشار عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض، وشارك في عضويتها قضاة وأساتذة قانون، أكدت أن 25 يناير 2011 ثورة اجتماعية كاملة بمعنى الكلمة، «إذ شكلت حدثا فاصلا بين عهدين ونقلة كبيرة بين نظامين».

تقرير اللجنة الذي جاء في 400 صفحة، عدد العوامل التي ضاعفت الغضب في نفوس المصريين، فكانت «بمثابة الوقود الذي أشعل الثورة على نظام مبارك». تأرجحت تلك العوامل بين ما هو اجتماعي واقتصادي وما هو سياسي وأمني، وكان أبرزها: «الفساد السياسي، والغياب الشبه الكامل للحريات العامة والأساسية، وصنع ديمقراطية ديكورية فقط لم يتفاعل معها الشعب المصري، فضلا عن غياب العدالة الاجتماعية وبروز الفوارق الشاسعة بين الطبقات حتى صارت تقريبا طبقتين فقط، وتخلى النظام السابق نهائيا عن مسئولياته السياسية والاجتماعية تجاه المواطنين، وانتشار الرشوة والمحسوبية حتى أصبحت لغة وثقافة متعارف عليها يوميا فى حياة المصريين».

أشارت اللجنة إلى أن «القمع الأمني الذي استخدمه النظام في تمرير مشاريعه وإسكات الأفواه المعارضة له، والتضليل الإعلامي الذي مارسته أذرعه الإعلامية، وتفريغ الحقائق من مضمونها، دفعت الشباب للدعوة إلى التجمع والخروج للتعبير عن أمانيهم في التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية بشكل سلمي متحضر».

صدر النداء إلى المشاركة في مظاهرة احتجاجية على تلك الأوضاع، معبراً عن «رغبة شعبية جارفة لم يتوقعها أكثر الداعين إلى هذه المظاهرة تفاؤلا، وكان لافتا أنها تضم جميع الطبقات والطوائف والثقافات، وانتشارها في ربوع البلاد».

اتسمت المظاهرات بحسب تقرير اللجنة بـ«السلمية و الإصرار على إحداث التغيير، وتواصلت عبر الأيام من 25 يناير 2011 إلى أن حققت هدفها يوم  1/2/2011 بتخلي رئيس النظام عن الحكم».

التقرير تتبع أحداث الثورة والعنف الذي صاحبها وحالة الانفلات الأمني التي أعقبت انسحاب قوات الشرطة من مواقعها، محملا النظام الساقط ومؤسساته مسئولية تلك التداعيات التي نتج عنها سقوط شهداء ومصابين واعتقالات غير قانونية واقتحام سجون وهروب مساجين وعمليات حرق ونهب للممتلكات العامة والخاصة.

وفي ختام التقرير خصصت اللجنة بابا للتوصيات استهلته بمقدمة جاء فيها: «بعد نجاح الشعب المصري في تغيير نظام الحكم الذي استمر أكثر من ثلاثين عاماً، وبعد قيام لجنة التحقيق وتقصى الحقائق بإتمام أعمالها، تجيء لحظات الحساب مع النفس، لمعرفة، كيف يمكن لمصرنا الحبيبة أن تسمو فوق جراحها وأن تجنى من تضحيات أبنائها، مستقبلا عريضا مليئا بالآمال والطموحات».

وقبل أن تطرح اللجنة توصياتها شددت على أن «ثورة 25 يناير أعطت الأمل لكافة المصريين في المستقبل، وبأن الآتي أفضل من الفائت، وأن بإمكان شباب مصر النهوض بها إلى أعلي عليين.. لقد تبدى ذلك في السلوك المتحضر للمتظاهرين في ميدان التحرير، من شباب وشيوخ ورجال ونساء، في تحمل الصعاب و الإصرار على تحقيق مطالبهم و إسقاط النظام وذلك بعزم لا يكل وبشكل سلمى وفى تلاحم الجميع مسلمين ومسيحيين وكذلك في تنظيم المعيشة وتنظيف المكان والعمل على إزالة المخلفات وفي علاج المصابين وإنشاء المستشفيات الميدانية التي تطوع لها خيرة أطباء مصر، مما يؤكد على أننا قادرون على فعل الأفضل».

ولفتت اللجنة النظر إلى أن القراءة الخاطئة للرأي العام وعدم الاستجابة له في الوقت الملائم كانت من  أهم أسباب ثورة 25 يناير، «من هنا تبرز أهمية الرأي العام في إرشاد القيادة السياسية إلى مطالب الجماهير المشروعة»، مشيرة إلى أن أهمال الحكومات المصرية المتعاقبة للرأي العام وقراءة وقياس منحنياته واتخاذه هاديا ومرشدا لها في وضع سياساتها العامة، فضلا عن إصرارها على عدم إتاحة المعلومات للجمهور، أدى إلى «عزوف المواطنين عن المشاركة السياسية، وتعرض الدولة لحركات سياسية مفاجئة كالتي حدثت في 25 يناير».

وقالت اللجنة أيضا إن ارتفاع الأسعار وضعف الأجور وسوء الأحوال المعيشية للمصريين وتنامي الفجوة بين الأغنياء والفقراء وعدم وجود عدالة في توزيع الناتج القومي، وتوسع دور القطاع الخاص كبديل عن القطاع العام، وانتشار الفساد والبطالة، دفعت إلى تصاعد الوقفات الاجتماعية في الشهور التي سبقت الثورة، وكانت تلك الوقفات مؤشرا صادقا على سخط الجماهير التي سارعت إلى المشاركة في ثورة بدأت لأسباب سياسية  .

ونبهت اللجنة في تقريرها أيضا إلى أن إصرار النظام على تجديد حالة الطوارئ، رغم معارضة جموع الشعب، والانتهاكات المتصاعدة لحقوق الإنسان والتوسع في صلاحيات أجهزة الأمن وفي حملات الاعتقال للسياسيين والمعارضين وفرض العديد من القيود على تحركاتهم، أدى إلى ضعف الأحزاب السياسية الحقيقية -لا الورقية-، ومنظمات المجتمع المدني، وتراجع دور النقابات المهنية والاتحادات العمالية التي تم السيطرة عليها من الحزب الوطني الحاكم، مما أحدث حالة من الفراغ، فتحولت مصر بفعل ذلك إلى نظام الحزب الواحد والرجل الواحد والصوت الواحد.

وبحسب التقرير فإن على رأس الأسباب التي دفعت الجماهير إلى التعبير عن رفضها لتلك الأوضاع بالطريقة التي جرت هو: «انسداد القنوات الشرعية للتعبير عن الرأي، الأمر الذي يعنى ببساطة أن أي غضب على أوضاع مصر لا مجال أمامه إلا أن تخرج الناس إلى الشارع للتعبير عن غضبها لآن جميع آليات التعبير السياسي الفاعلة الأخرى لم تعد مجدية».

وتحدث التقرير عن بلوغ الاحتقان ذروته، إثر محاولات الرئيس الراحل الذي جمع كل صلاحيات وسلطات الدولة في شخصه على مدار 3 عقود، إتمام مشروع توريث الحكم لنجله من خلال انتخابات شكلية كتلك التي دأبت عليها مصر في الحقب الفائتة، مضى مبارك ونجله ودوائر المصالح التي تشكلت خلال السنوات الخمس الأخيرة من عمر النظام في تنفيذ بنود مخطط التوريث، الذي عارضته الجماهير والنخب المثقفة والمهتمة بالشأن العام فضلا عن المؤسسة العسكرية التي كان له دورا هاما في إفشال هذا المشروع.

كما أشار التقرير إلى جرائم تزوير الانتخابات التي لم تتوقف في مصر وإهدار الأحكام القضائية الباتة التي قضت بعدم شرعية الانتخابات في العديد من الدوائر، وأفرد مساحة كبيرة لانتخابات برلمان 2010 والتي شاب معظم إجراءاتها انتهاكات غير مسبوقة، بعد أن ُغيب رجال القضاء عن الإشراف عليها، فأصبح تزويرها واقعا تدركه الأبصار.

وأكدت اللجنة أن الطريقة التي أديرت بها تلك الانتخابات أدت إلى أن يتولى المؤسسة التشريعية أشخاص مطعون في عضويتهم دون أن يكون هناك أمل في تصحيح هذه الأوضاع، «ومن ثم كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، بعد أن سيطر الحزب الوطني على السلطة التشريعية في غياب شبه كامل لأي معارضة، وعليه لم يعد أمام الشعب إلا اللجوء إلى العمل السري أو مناشدة الجيش للتدخل أو النزول إلى الشارع وهو ما حدث بالفعل و أصبح ميدان التحرير بديلا عن البرلمان».

وكما تطرق التقرير للفساد الذي استشرى في الاقتصاد والسياسة، تحدث أيضا عن فساد الإعلام الذي رغم كل تلك الإخفاقات ظل يروج لديمقراطية النظام الحاكم، وانحيازه إلى الفقراء ومحدودي الدخل، وتحول إلى بوق للنظام، «لذا يمكن القول إن أداء الإعلام القومي  كان أحد العوامل التي ساعدت في إشعال نار السخط في صدور المصريين ضد نظام مبارك».

وضعت اللجنة في نهاية تقريرها «معالم طريق» لمعالجة كل الخطايا السابقة التي مهدت لثورة يناير، وللشروع في بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة قائمة على العدل والمساواة والحرية، مطالبة بوضع دستور جديد للبلاد، ورفع يد الأمن عن مؤسسات الدولة المختلفة، وإعادة النظر في القوانين المكبلة للحريات، واحترام إرادة الجماهير في اختياراتها السياسية، وأن تجرى الانتخابات العامة في أجواء من النزاهة والتنافسية والشفافية، بما يضمن تداول حقيقي للسلطة وبناء مؤسسات حكم قوية.

كما أوصت اللجنة بأن تدعم الدولة الحق في حرية الرأي والتعبير، واستقلال الصحافة والإعلام، والسلطة القضائية وباقي مؤسسات الدولة التشريعية والرقابية، واتخاذ إجراءات تضمن تطبيق العدالة الاجتماعية وتحد من الفساد والرشوة والمحسوبية، والنهوض بالنظام الصحي وبالتعليم والبحث العلمي، وتحديث الأجهزة الأمنية بما يضمن كفاءتها واحترافها واحترامها للقانون ولحقوق المواطنين.. ألخ.

اقرأ أيضا:

نصائح أوباما لـ”المسن العنيد” لتجنب فخ الإخوان

أعلم أني أطلت في عرض تقرير لجنة تقصي الحقائق، الذي أعتبره أحد أهم الوثائق المهلمة في تاريخ مصر المعاصر، فقد وضع أعضاء اللجنة أيديهم على أسباب الغضب والاحتقان، شخصوا أمراض الدولة تشخصيا وافيا ودقيقا، وقدموا روشتة علاج تضع الدولة على بداية طريق نهضة حقيقية، وتجعل من الشعب هو الحكم وصاحب الولاية في تحديد سبيل الوصول إلى غاياته ومقاصده، يختار ويثبت ويعزل ويراقب ويحاسب ويحاكم.

بعد أقل من عامين على ثورة يناير، خرج الشعب مرة أخرى إلى الميادين لتصحيح المسار، فقد أدرك أن حكم الإخوان سيقود دولته وثورته إلى الخلف، فقرر إعادة النظر في الطريق الذي سلكه، وشارك في إسقاط نظام الجماعة، ووثق في الشركاء الذين دعموا تحركاته ونصبهم حكاما جدد لتحقيق أحلامهم وطموحاته.

لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، وتجاهلت السلطة الجديدة معظم ما جاء في «معالم طريق» تقرير لجنة تقصي الحقائق المشار إليه، وزاد وغطى أنها أرادت أن تهيل التراب على ثورة المصريين وعملت على إحباطهم وتحذيرهم من استدعاء الأهداف التي خرجوا من أجلها قبل 10 سنوات، بل صورتها على أنها أُس الخراب الذى حل على المحروسة.

إذا أردتم إقناع الناس بعدم تكرار ما جرى فعليكم تحاشى أسبابه والسعى لبناء دولة مستقرة تبقى وتستمر دون أن تتأثر بغياب أى حاكم أيا كان إنجازه، الضمانة الوحيدة لكم وللوطن هو الشروع فى تأسيس دولة ديمقراطية مدنية حديثة، دولة يتحرك الناس فيها إذا قرروا تغيير النظام إلى صناديق الانتخابات وليس إلى ميادين الثورة.

تذكروا أن مبارك تمادى في غيه ولم يتوقع أن تباغته ثورة تقتلعه هو ووريثه وأركان حكمه، تلك عبرة لمن يعتبر، فتدبروا فيما جرى عسى أن تنفعكم الذكرى في وقت لن تنفع فيه أبواق الإعلام الموجه والسياسة المعلبة ولا عصا الأمن الغليظة، فالشعب الحمول الصبور له طاقة، والثورة تباغت الغافلين.