في مقهي قريب من مسرح عبدالمنعم مدبولي بمنطقة وسط البلد، تجمع عدد من قصار القامة للحديث في شؤونهم. وكان يجتمع بهم إبراهيم مراد، لاعب نادي أسوان السابق ومدرب كرة قدم في إحدى الأكاديميات الخاصة. هناك خرجت جملة عابرة من أحد الجلوس، عبر بها عن آماله، متمنيًا أن تتحقق لعلها تغير مجرى حياته وحياة نظرائه “ما تيجي يا كابتن نعمل فريق كورة”.

الهدف الذي تأسس بسببه منتخب مصر لقصار القامة كان يقتصر على أن يمارس المنتمين لهذه الفئة رياضتهم المحببة فيما بينهم. إذ كان التفكير حينها أن لا تخرج المباريات عن نطاق الهواة. لكنها أخذت طريقًا نحو الاحتراف. ذلك بحسب إبراهيم مراد، الذي قال إن رغبتهم في لعب كرة القدم كانت بسبب صعوبة اللعب مع أصحاب وزملاء أطول. وإنها بدأت بحجز وقت للعب داخل أحد مراكز الشباب، على حد قوله.

مباراة قصار القامة.. هنا كانت البداية

تُعرف القزامة بأنها حالة وراثية أو طبية، ينتج عنها ضعف في العظام، يوقف نمو الشخص البالغ عند أربع أقدام و10 بوصات (147 سنتيمترًا).

ولا يوجد إحصاء دقيق لأعداد قصار القامة في مصر. فهناك تقديرات بأن عدد الذين لا يزيد طولهم عن 146 سم يبلغ نحو 170 ألفًا، ويقدر البعض عدد من هم 136سم بـ130 ألفًا، فيما تحدد عددهم تقديرات أخرى بـ 150 ألف.

سريعًا، اكتشف مراد أن عددًا من قصار القامة يمتلكون المهارات الكافية للعب كرة القدم. ذلك بعد المباراة التي أقيمت في مركز شباب الجزيرة، التابع لوزارة الشباب والرياضة في جزيرة الزمالك. وهي المباراة التي أعطتهم دفعه لممارسة الرياضة الأكثر شعبية في مصر والعالم بحرية. وقتذاك كانت الكفاءات متقاربة، جميعهم قصار قامة وفي أطوال متفاوتة.

دخول قصار القامة في اللعب مع متوسطي الطول كان محدودًا، واقتصر دور قصار القامة حينها على الدفاع حيث التمريرات القليلة، إذ يعتمد اللعب في الشوارع والأندية الشعبية غير الرسمية، على الالتحامات القوية/ بالإضافة إلى وتيرة لعب سريعة تحتاج إلى سرعة في الركض.

بدأ مراد ينظم تدريبات حاول جعلها احترافية، واعتمد فيها على الإحماءات وتمارين اللياقة البدنية والتدريب على خطط اللعب. يوضح فيقول: “قبل ذلك الكل كان بيجري بالكورة، لكن حينها علمتهم كيفية اللعب، متى يركض ومتى يمرر إلى جانب التعرف على تحركات الخصم”.

"منتخب

فريق قصار القامة.. 22 لاعبًا بلا اسم

في الشهور الأولى التي تأسس فيها فريق قصار القامة في مايو 2016 لم يكن يحمل اسمًا. كان 22 لاعبًا من محافظات عدة يجتمعون أسبوعيًا في القاهرة، وبالتحديد في يوم الجمعة حيث الإجازة الرسمية التي سيسهل معها قدومهم من محافظاتهم للتدريب.

رغم صعوبات اجتماع الفريق كاملاً خلال التدريبات لبعد المسافات بين اللاعبين، وتحمل أغلبهم تكاليف الذهاب والعودة من القاهرة، لم يغفل مدربهم إبراهيم مراد أمر ضرورة التوسع في الفريق. فسعى لاستقطاب عناصر من خارج دائرة معارفه. حينها فقط أصبح الفريق الأول من نوعه في مصر الذي يمتلك قوام شبه منظم. نشر مراد عبر “فيسبوك” صورًا من مباريات فريقه. ثم سأل إذا كان هناك قصار قامة مهتمين بلعب كرة القدم، وذهب إلى أماكن تدريب ألعاب القوى لجمع قوام فريقه.

في أكتوبر 2016، ذاع صيت منتخب مصر لقصار القامة عبرمواقع التواصل الاجتماعي. ووصلت الأنباء إلى قصار القامة في المغرب، الأمر الذي جعل مراد يأخذ زمام مبادرة تأسيس فريق بشكل رسمي ينضم لاتحاد رياضات الأقزام. “أنا على تواصل مع الفرقة المغربية وأعرف المدير الإقليمي للشرق الأوسط الاتحاد في المغرب. اجتمعنا وسعينا للتأسيس قبلهم لكن هما طريقهم كان أسرع”، يقول مراد.

في تلك اللعبة، تختلف قوانين اللعب نسبيًا، بداية من الملعب الذي يكون “خماسيًا”، أي أصغر من الملاعب الكبيرة، إلى تكوين الفريق الذي لا يتعدى 7 لاعبين. ثم قواعد اللعب حيث يحتسب الخطأ الخامس من أي مكان داخل الملعب ضربة جزاء، بينما يكون طول اللاعبين حتى 140 سم، فيما يسمح بإدراج اثنين فقط فوق 140 حتى 145 سم، ويكون أحدهم في الملعب والآخر احتياطيًا، وتكون المباراة  40 دقيقة فقط.

إرجاء أحلام قصار القامة

حواجز عدة كان على مراد وفريقه من قصار القامة تجاوزها، منها ما يتعلق بعوامل نفسية، تمثلت في الخوف من خوض تجربة جديدة باحتراف، والخجل من المجتمع والسخرية التي قد يلاقونها أثناء اللعب. ومن جهة أخرى ضعف البنية الجسدية والنقص العددي في قوام الفريق.

لكسر حاجز الخوف والخجل هذا قرر مراد أن يدمج فريقه ويجعله مختلطًا. يقول مراد: “وجدت أنهم يملكون طاقات كبيرة ولا يستطيعون تفريغها، ويبذلون أقصى ما لديهم سواء بتنفيذ التعليمات أو باستخلاص الكرة عبر الالتحام البدني. ولذلك كنت بلاعبهم ضد فرق متوسطي القامة من أكاديميات كرة قدم”.

 

لعب كرة القدم غير حياة مصطفى سامي (23 سنة) 180 درجة في حياته. ذلك بعدما كان يفضل الانطوائية مثله كعدد كبير من نظرائه قصار القامة. وهو يتحدث أيضًا عن الخجل والخوف الاجتماعي بسبب الصورة الذهنية التي كوّنت لدى غالبية المواطنين عن شخصية قصير القامة، والتي تغيرت بفعل كرة القدم.

الخوف من السخرية نتجت عنه مشاعر سلبية أرجأت نجاح عدد كبير من قصار القامة، منهم مصطفى، الذي حارب للوصول إلى مراد والمشاركة في منتخب مصر لقصار القامة. يقول مصطفى: “قليلاً ما يجتمع قصار القامة معًا في مكان ما، وأنا كنت أمارس ألعاب قوى لكن كان حلمي الوصول إلى منتخب مصر للعب كرة القدم”. يصف سامي مشاعره بأنها كانت غير مريحة ممزوجة بخجل واستحياء قبل لعب كرة القدم.

تدريب آخر خارج المستطيل الأخضر

عمل مراد مع قصار القامة لا يقتصر على فريق كرة قدم، بل يسعى لتكوين شبكة مجتمعية من قصار القامة تعزز وجودهم في المجتمع وتزيل الصور النمطية عنهم. وهذا ما يفعله عبر تجميعهم كل حين في ناد ما أو في منزله أو في رحلة ترفيهية. وهو يستهدف بذلك كسر حالة العزلة التي يشعرون بها. يعلق مراد: “اللاعيبة تشعر بسعادة حينما ترى تغيير نظرة الآخرين لهم في الشارع، وأنهم اشتهروا بمنتخب مصر لكرة القدم”.

في أكتوبر 2019 نسق مراد مع المنتخب المغربي المدعوم من الحكومة على إجراء مباراة ودية بين الفريقين وأن تكون بإشراف الاتحاد الدولي. ذهب الفريق وحقق الفوز بنتيجة هدفين لصفر. آنذاك كان المنتخب المغربي المعتمد إفريقيًا قد شارك في بطولة كوبا أمريكا لقصار القامة بالأرجنتين المقامة في أكتوبر 2018.

انسحاب اضطراري وحلم جديد

عقب تلك المباراة، دخل مراد في خلافات مع راعي “منتخب مصر” بسبب أمور يرى أنها ليست في مصلحة قصار القامة، ما تسبب في انسحابه من الفريق كمؤسس ومدير فني في نوفمبر 2019. ليؤسس فرقة “منتخب القاهرة” ويتمكن خلال شهرين فقط من جمع قوام فريق مكون من 22 فردًا من قصار القامة.

يقول مراد: “في الفرقة الأولى كان تجميع قصار قامة مهتمين باللعبة صعبًا، لكن في منتخب القاهرة الأمر كان يسيرًا، حتى أن الفرقة شاركت في دورة رياضية بالإسكندرية مع فرقتي الإسكندرية ودمياط”. وكانت هذه أول دورة في مصر يجتمع فيها الأقزام، وقد تمكن فريق منتخب القاهرة من تحقيق الفوز بالبطولة.

يسعى “منتخب القاهرة” للانضمام إلى أحد الأندية مشكلاً هيكلاً إداريًا وتنظيميًا بشكل رسمي، بعيدًا عن الأسامي الشرفية. كما يحلم إبراهيم مراد بأن ينظم أول دوري للأقزام في العالم بمصر. خاصة أن هناك 19 دولة في العالم لديها فرق للأقزام. هكذا خاطب مراد وزارة الشباب والرياضة واتحاد رياضات الأقزام مرات عدة، لكن دون رد، على حد قوله.

أدرج قصار القامة ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة في قانون رقم 10 لسنة 2018. وفي يناير 2020، أحال مجلس النواب إلى الحكومة تقرير لجنة الاقتراحات والشكاوى بالبرلمان، بشأن معاملة الأقزام معاملة المعاقين في جميع الحقوق والواجبات. حيث أوصت اللجنة وزارة التضامن الاجتماعى، بضرورة المساواة بين الأقزام والمعاقين في جميع الحقوق والواجبات. وذلك طبقًا لنص المادة 81 من الدستور. كما أوصت وزارة التخطيط بإدراج المقترح في خطة عام 2019/ 2020.

"منتخب

خوف مضاعف

على المستوى المجتمعي، تعاني هذه الفئة من خوف مضاعف؛ هو خوف من الانتقاد أو الفشل، وخوف من السخرية بسبب الصورة الذهنية عنهم. تقول كابتن حنان فؤاد، المدير الإداري للفريق، وهي من قصار القامة، إنها شعرت بإحساس النجاح وتغيرت نظرة المجتمع نحوها بعدما فازت بأكثر من بطولة لرفع الأثقال للشركات. لذلك فضلت أن تنقل ذلك الإحساس لكل قصار القامة وتصبح ملهمة لنظرائها.

ما نتج عن تلك الصورة الذهنية السلبية لدى العامة، جنب عدد كبير من قصار القامة التواصل مع المجتمع. وهو أمر دفع حنان إلى نقل خبراتها لنظرائها عبر تعليم اللاعبين كيفية التحكم في القلق من خلال الاسترخاء والتنفس. وكذلك كيفية استبدال الأفكار السلبية بأفكار إيجابية. بالإضافة إلى تدريبهم على مواجهة المواقف الاجتماعية تدريجيًا بدلاً من تجنبها.

تهتم حنان بالتجهيز النفسي للفريق قبل خوض المباريات، لتحصل على نتيجة ترضي طموحاتهم. وتشرح: “في المباريات الأولى كان يتوتر أعضاء في الفرقة من اللعب أمام الجمهور أو أن يصورهم المتفرجين خلال المباراة، اعتقادًا أن التصوير للسخرية وليس إعجابًا، وهذا ما عملنا على تغييره، كنت أخبرهم أننا نمارس رياضة ولن يسخر أحد منا”.

الخبرات التي اكتسبتها حنان فؤاد طوال ممارستها الرياضة واحتكاها بالجمهور مكنها من شد أزر الفرقة نفسيًا لتخطي الصدمات التي سببها المجتمع لكل من هو مغاير. تقول حنان: “بدأت أقولهم بلاش تركزوا مع الناس وأثبت نفسك وتدريجيًا الناس هتعرف قيمتك، وهذا ما حدث، بعد فترة كنا نشتري حذاء رياضي للاعب بالفرقة ووجدنا صاحب المحل عارفنا وبيقولنا هو أنتم منتخب مصر؟ حينها شعرنا بسعادة كبيرة جدًا”.

صور نمطية يرسخها الإعلام

ساعد الإعلام في ترسيخ السخرية من هذه الفئة عبر وضعهم في صور نمطية ثابتة وغير منصفة. ففي بعض الإعلانات يظهر أحدهم كجني يخرج من مصباح ليحقق الأماني. وآخر يستخدم للتسلية والمقالب في برامج رمضان. أما الأفلام فهم بها أداة للتنمر والسخرية، بداية من “أنا مش قصير أوزعة، أنا طويل وأهبل” حتى “الدنيا دي فيها الطويل بياكل القصير وإحنا ملناش إلا بعض”. تلك الأعمال تغلغلت في حياة قصار القامة وارتبطت بهم وانعكس تأثيرها السلبي عليهم جميعًا، وليس على القائم بالعمل.

تغيرت الحالة النفسية للمشاركين بالمنتخب عقب ممارسة كرة القدم ووصولهم للشهرة. وبحسب اللاعب مصطفى سامي، الذي يفضل اللعب في مركز الدفاع، أصبح يثق في ذاته عما قبل. كما تمكن من تكوين صداقات مع أشخاص يشاركونه التفكير والاحتياجات.

هل يكون لمصر مشاركة دولية؟

في مصر حاليًا 4 فرق لقصار القامة؛ الأول “منتخب مصر” والثاني “منتخب القاهرة” والثالث “منتخب الإسكندرية” والرابع “منتخب دمياط”. ولا تتبع تلك الفرق اتحادًا أو ناديًا بعد. بل تلعب جميعها ضمن منافسات الهواة. وقد دخل الفريق الأول “منتخب مصر” تحت رعاية جمعية أهلية بإشراف وزارة التضامن الاجتماعي. بينما تمول الفرق الثانية والثالثة والرابعة ذاتيًا من قبل أعضائها.

يقترب كأس العالم لكرة القدم لقصار القامة بالأرجنتين 2021. بينما لم تقنن مصر بعد منتخبًا للمشاركة باسمها. ذلك على الرغم من وجود 4 فرق لقصار القامة. ويبقى السؤال: هل تسند المشاركة لإحدى الفرق أم سيتم اختيار أفضلهم لتكوين منتخب، أم ستفوت البطولة دون حضور مصري.