ما يريده الإرهابيون؟

في تجارب الحروب على مر التاريخ، كان كل طرف من الأطراف المتحاربة ينطلق من الاعتقاد بأن انتصاره يمثل فرصة سانحة لأجل الأمن المفقود أو السلام المنشود. حتى في تلك الأزمنة القديمة لم تكن الحروب تستمد مشروعيتها من منطقها الداخلي، طالما الإنسان بطبعه لا يقبل أن يقاتل لمجرد القتال، لذلك كانت الحروب تستمدّ مشروعيتها من خارجها، من قبيل الادعاء بأنها مفروضة من طرف “الأعداء”، وأنها لا يجب أن تطول أو تتسع، وأنها كفيلة بأن تضع حدا لحروب أخرى محتملة قد تكون أشد شراسة وأطول أمدا، وأنها على الأرجح ستكون آخر الحروب، حتى إشعار آخر.

هذا يعني أن الانتصار العسكري في تاريخ الحروب لم يكن يقدم نفسه باعتباره هدفا في ذاته، بل مجرد وسيلة لأجل تحقيق السلام النهائي الذي هو الغاية في النهاية. هكذا كان يتم التعامل مع الحروب وفق منطق الضرورات تبيح المحظورات.

التعاطي مع الحرب باعتبارها مجرد وسيلة هو ما كان يترك الباب مفتوحا أمام فرصة تفادي الحرب لكي لا يشتعل لهيبها، أو إيقافها إذا اشتدّ أوارها، لا سيما إذا أمكن تحقيق بعض الأهداف من دون القتال الذي يميل الإنسان إلى كراهيته وفق اعتراف الخطاب القرآني نفسه (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) البقرة، 2016. 

غير أن الإرهاب العالمي اليوم يضع العالم أمام تحد غير مسبوق، حيث تجد المجتمعات البشرية نفسها أمام مقاتل إيديولوجي لا يعتبر القتال وسيلة لأي غاية أخرى، كما لا يبحث عن أي انتصار ممكن، محدد، ويمكن التفاوض بشأنه. 

إننا بالأحرى-وهنا تكمن الخطورة- أمام كتائب تعتبر القتال غاية الغايات، حيث لا يملك من يقاتل فيها من هدف آخر غير أن يَقتل، أو يُقتل، أو هما معا.

لقد ورد في أدبيات الإخوان المسلمين الشعار التالي: “الموت في سبيل الله أسمى أمانينا” ! وهو ما يعني أن حالة الاستنفار الدائم لأجل المواجهة والجاهزية اليومية لأجل القتال “في سبيل الله” يجب أن تكون هي الحالة الطبيعة للإنسان المسلم في كل أحواله، والذي -بهذا النحو- يجب أن يظل كيانه مشحونا ووجدانه مسكونا. 

اقرأ أيضا:

لماذا من حقي انتقاد الإسلام السياسي؟

هل يتخلى العالم أخيرًا عن خرافة الربط بين «الإرهاب والإسلام»؟

 

لذلك، لا غرابة أن تكتسي مفاهيم الإسلام السياسي طابعا عسكريا: اللواء، الجماعة، البنيان، البيعة، الاحتراب، التدافع، الغزوات، الولاء، الشهادة، الجهاد، التمكين، إلخ. على أن المفاهيم هي القوالب النظرية التي توجه صناعة الأفكار، لذلك، وبناء على الطابع العسكري لمفاهيم الإسلام السياسي، استنتَج عبد السلام فرج أن الآية “كتب عليكم القتال” يجب أن تُفهم قياسا على الآية “كتب عليكم الصيام”، إذ أن الصوم والقتال كليهما فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ولا تبديل لشرع الله ! 

حين يكون القتال هو الوضع “الشرعي”، يصبح السلام حين يحلّ مجرّد هدنة لا يبررها سوى كونها مؤقتة، في انتظار الجاهزية أو التمكين. 

بهذا النحو، لا يضع الإرهاب العالمي على العالم تحديا أمنيا وحسب، بل يضع عليه تحديا سياسيا على النحو التالي: 

هل العالم مستعدّ لهدنة غير معلنة تضمن غض الطرف عن تصريف الأيديولوجية القتالية داخل بعض المناطق مقابل الأمن في بقية العالم، ولو إلى حين؟ هذا هو التحدي السياسي الذي يطرحه الإرهاب العالمي على سائر دول العالم، والتي عليها أن تجيب.

بالجملة فإنّ رهانات الإرهاب المعولم اليوم هي أن يُترك له مجاله الجغرافي الخاص إلى غاية التمكين، حتى ولو اقتصر الأمر في البداية على بقعة صغيرة وسط صحاري مترامية الأطراف، طالما أنها قد تفي بالمطلوب، توفير قاعدة للانطلاق. 

غير أننا سنعيد الخطأ القاتل نفسه حين نظنّ بأن إعادة الوحش إلى حالة الكمون، أو تركه يتيه في الصحاري، أو حصره ضمن مناطق نفوذ ضيقة، أو توريطه في معارك محدودة ومحددة، ستستنزفه أو تقضي عليه، أو على الأقل تضع حدا لشراسته؛ ذلك أن الشبكة العنكبوتية متوفرة في كل مكان تقريبا، والهواتف المحمولة متاحة في كل مكان تقريبا، ويوشك العالم الافتراضي أن يصبح أكثر واقعية من الواقع نفسه، في حين أصبحت الكرة الأرضية بأسرها في عرف الإرهابيين “دار حرب”، ثم أن ما يريده الإرهابيون من القتال هو القتال، ولا شيء غير القتال، القتال في أي مكان، والقتال في كل الأحوال؛ ذلك أن مسعاهم هو “إدارة التوحش”، وفق عنوان أحد كتبهم المرجعية. وبه وجب التذكير.