يقول هيجل: تعبر الدولة عن روح الجماعة والإرادة العامة، فالروح تحقق حريتها في الدولة وعبرها. ومن ثم فعلينا أن نعترف بأن فكرة الحرية لا توجد بالفعل إلا في واقع الدولة. ولن تتحقق الحرية عمليًا إلا عندما تعبر الدولة عن أهداف المجتمع، من خلال اختيارات الأفراد. فالدولة أحد منجزات العقل. وبالتالي فإن العقل معيار التحليل لشكل الدولة كما يرى “هيجل”.

من هنا، يجب على الدولة أن تكون في خدمة المجتمع، الذي شيد لرعاية مصلحة الفرد في الرخاء والسعادة والأمن والحرية. ولكي تمارس الدولة وظائفها بوصفها تجمعًا سياسيًا وعقلانيًا، فإنها تلجأ بالإضافة إلى الوسائل القانونية إلى العنف المادي، وهي وحدها تمتلك هذا الحق بل وتحتكره، كما يؤكد ماكس فيبر. لكنه عنف يتسم بالعقلانية والمشروعية لحمايته للحق العام. ومن ثم فالدولة التي تتعسف في استخدام الوسائل القانونية وأدوات العنف التي تمتلكها تفقد أسباب وجودها ومن ثم شرعيتها.

لقد قامت الدولة الحديثة تأسيسًا على مفهوم (العقد الاجتماعي) الذي بدا للوهلة الأولى مفهومًا افتراضيًا من الناحية التاريخية. بينما بدأت ممارساته العملية عبر الآليات الديمقراطية التي أخذت تتعين وتتشكل تباعًا، والتي أتاحت للفرد (المواطن) حق اختيار من يحكمه وحق محاسبته وفق آليات مؤسسية، تم الاتفاق عليها واعتمادها اجتماعيًا وسياسيًا.

مع تطور هذه الممارسات السياسية والديمقراطية بدأ يتشكل في الفراغ الاعتباري (مجالاً عامًا) ما بين (الفرد) و(الدولة) يشكل فضاءً اجتماعيًا/ثقافيًا تعول عليه مؤسسات المجتمع كثيرًا عبر مساحات للتعبير عن الرأي تسمح للمواطننين بتنظيم أنفسهم، وعبر مساحات للفعل تسمح بتشكيل تنظيماتهم التي تتيح لهم التعامل مع ممارسات مؤسسات الدولة من ناحية، ومؤسسات المجتمع من ناحية أخرى في إطار من السلم الاجتماعي ومن خلال فعل الديمقرطية. فمن خلاله يستطيع المواطنون أن يكونوا خارج الدولة بوصفهم ناقدين ومراقبين لها، إذ يعبر المجال العام عن المصالح والمشاعر على مستوى الخاص، وعلى المستوى المجتمعي عبر أشكال تنظيمية متنوعة، ويضفي قدرًا من الاتساق على المشاعر المتفرقة، ويمنح قوة (جمعية) للرؤى الفردية المبعثرة والمشتركة في آن واحد.

ومن ثم يسمح من خلال تنويعاته المختلفة بتيسير وإدارة الصراع الاجتماعي إدارة سلمية بعيدًا عن العنف عبر آليات ديموقراطية ويرسل رسالة إلى الحكام تتعلق بالإرادة الجمعية للفاعلين الاجتماعيين المستقلين تعبر عن اتجاهات (الرأي العام).

يشكل المجتمع المدني الحيز المستقل الذي يعبر عن المصالح الفردية والجمعية بعيدًا عن الدولة. أي أنه الفضاء الذي تلتقي فيه مصالح الأفراد من خلال علاقات السوق، والتواصل، والرغبات والأهداف الفردية. والدولة الديمقراطية هي التي توفر الأطر المختلفة التي تشجع على قيام المجتمع المدني ومؤسساته بمهامها الاجتماعية، الرقابية والمؤسسية والتطوعية، وفقًا للدستور والقوانين ذات الصلة بعملها ونشاطها. ومن ثم لا يجوز بأي حال من الأحوال الجور على الميدان العام الذي تشغله منظمات المجتمع المدني. إذ أن وجود مجتمع مدني نشط من شأنه أن يشجع احترام المواطن للدولة والتعاطي الايجابي معها، ويضاعف من قدرة الجماعات على التضامن وتحسين وضعها.

فالمجال العام ينشأ في إطار الظرف التاريخي الذي يمر به المجتمع، ويتشكل وفق صراعات اجتماعية ويتيح أدواته السلمية والديمقراطية لإدارة هذا الصراع. مثلما يسمح للمواطنين بالدخول في أشكل تضامنية مع بعضهم البعض سواء اقتصاديًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا. من هنا تتجلى ضرورة المجال العام بوصفه عنصرًا رئيسًا من عناصر العقد الاجتماعي الذي أصبح يتم صياغته فعليًا باتفاق شفاهي وكتابي بين الحاكم والمحكوم (الدستور)، بحيث يصبح هو المرجع النهائي عند الاختلاف فيما بينهم، ويتم احترام بنوده من كل الأطراف.

ويرى “صمويل هتنجتون” أن مجتمعات الدول (الأعضاء بالجامعة العربية) تنقصها الثقة المجتمعية، وتتسم ثقافتها السياسية بالشك والغيرة، والعدائية المستترة أو السافرة حيال أي شخص ليس من أفراد الأسرة الممتدة، القبيلة أو القرية. وتُغرس هذه القيم في الأطفال منذ وقت مبكر، وهي مجتمعات لا تمتلك وصفة جاهزة للانتقال إلى مرحلة المواطنة. لكن المؤكد في كل هذا أن المجتمعات ذات الهوية الضعيفة تفشل في بناء (الدولة).

وفي بعض البلدان يُنظر إلى (الحاكم) باعتباره تجسيدًا للبلد، وتتحول عاطفة الوطنية إلى حماسة ولاء في أحسن الحالات، يغتر الرعية بانتصارات مليكهم، ويفتخرون بسلطته عليهم، ويعدونها مجدهم. هكذا كان الفرنسيون، يعتقدون أنهم أحرار -علمًا أنهم لا يملكون السلطة الاعتباطية لملوكهم- ويشعرون بنوع من الغبطة. وهم يرددون: “نحن نعيش تحت ظل الملك الأقوى في العالم”. وقدرة هذا النوع من الوطنية على تحفيز الجهود عابرة وغير مستمرة، قد يستطيعون إنقاذ البلاد في بعض الظروفٍ الحرجة ولكنهم يسمحون لها بالانحطاط في معظم الأوقات.

وهذا الحديث، يدفعنا إلى التساؤل حول مفهوم الوطن والهوية، وما يرتبط بهما من مفاهيم تكاد أن تصبح مسلمات لا يمكن طرح التساؤلات حولها، ومصادرات لا يمكن مناقشتها. هل يمكن لنا أن نتساءل ما الوطن؟! ما الذي يدفع شخصًا ما أن يطلق على منطقة ما (وطنا)؟! ما الذي يجعل لكلمات مثل (الانتماء) و(حب الوطن) و(التضحية) من أجل الوطن، (الحنين) للوطن، و(الوطنية).. إلخ. كلمات مفهومة بذاتها، ولا تحتاج إلى إيضاح وشرح؟! ما الوطن؟! سؤال غير عابر، يلح علينا عندما نشعر في لحظة ما بأزمة (الاغتراب). عندما تدخلك تجاربك معه في أزمة وجودية، مثلما يشعر ذلك الشخص الذي يقسو عليه الأب/الأم، فيتساءل هل الأبوة/الأمومة مسألة ميلاد بيولوجي.. ففي العادة لا تكون هذه الأمور مناط اختياراتنا.

عندما نذهب بعيدًا ويغمرنا الحنين إلى الوطن ما الذي نتذكره حقًا؛ الأرض، البيوت، الطرق، البشر. يقول “رفاعة الطهطاوي” في حديثه عن الوطن “عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، وهو البلد الذي نشّأّته تربتُه وغذاؤه وهواؤه، وربّاه نسيمُه، وحلت عنه التمائمُ فيه”.

يرتبط مفهوم (الوطن) بمفهومين آخرين أكثر التباسا هما (الوطنية) و(الهوية). والوطنية هي التعلق العاطفي بأُمة (يعترف) بها الفرد وطنا، والوطني (حسب هذا التعريف) هو من يحب بلاده، ويدعم (سلطتها) ويصون مصالحها، كما يزعم بعض المنظرون. ويمكن النظر إلى هذا الارتباط من خلال العلامات المميزة للأمة والتي قد تشمل جوانب إثنية، وثقافية، سياسية وتاريخية. بينما تعبر الهوية عن تعريف أو تفسير للذات يُحدد موقع وماهية الفرد من الناحيتين الاجتماعية والفردية، وتظهر ضمن نظام من العلاقات الاجتماعية، ومعاييرها المفاهيمية هي الاستمرار عبر الزمن، والتمايز عن الآخر. وتنبع هذه الاستمرارية من إدراك تجذر الأمة تاريخيًا في ظل تَصَوراتٍ واضحة حول المستقبل، يستوعب الأفراد هذه الاستمرارية من خلال مجموعة من التجارب الزمنية التي يفهمونها بشكلٍ موحد. أما التمايز فهو وعي بتَشكل مجتمع متميز ذا ثقافة، وتقاليد، ولغة، ومساحة من الأرض تتشكل عبر التاريخ والجغرافيا.

فهل الوطن يعبر عن انفعال وجداني يسيطر على مشاعرنا مثل شعور غريزي مجهول غير قابل للتعريف، يربط الإنسان عاطفيًا بمسقط رأسه، أم حدث يمكنك الإمساك بتلابيبه والتعرف على عناصره. هو أجزاء صغيرة مبعثرة في أنحاء الذاكرة تتجمع عنوة عندما نغادره، أو تشحذ قواك وتعد نفسك للتضحية بكل ما تملك عندما يقع في محنة، أم مجموعة من العطاءات التي يمنحها لك وتأسرك بفضلها وترغمك على ردها وقت الشدائد. منطقة ولدنا ونشأنا فيها، أم بشر كبرنا بينهم راعونا وأحببناهم، مساحة من الأرض والحدود المصطنعة، أم ثقافة ولغة وتاريخ يشكلون ذواتنا.