قبل أسبوع تقريبًا، أعلنت شركة AKH gold، إحدى شركات “التوس استراتيجيز” حصولها على تراخيص بالتنقيب عن الذهب الموجود في صحراء مصر الشرقية. وهي ضمن الشركات الفائزة بمزايدة أعلنت وزارة البترول المصرية نتائجها في نوفمبر الماضي. هذه الخطوة الأخيرة وخطوات أخرى سابقة تدخل ضمن خطة حكومية تنفذها مصر حاليًا بغرض تحقيق قفزات نمو في صناعة المعدن الأصفر، تؤهله للمشاركة بالناتج المحلي للدولة. بيد أن هذه المساعي تصطدم بأزمة كبرى تُعرف بـ”الدهّابة”.
كنز الصحراء.. ترتيب مصر في حيازة المعدن الأصفر
تاريخيًا، تُعد مصر واحدة من الدول الغنية بالثروة المعدنية وخاصة الذهب. كما أن الصحراء الشرقية المنطقة الرئيسية لاستخراجه، فضلاً عن بعض المناجم في جنوب سيناء وأسوان. وقد احتلت مصر المرتبة السابعة على الصعيد العربي، بحيازة 77.4 طن من الذهب أي نحو 6.8% لجميع احتياطاتها. بينما جاءت في المركز رقم 40 على المستوى العالمي عام 2018، وفقًا لموقع الهيئة العامة للاستعلامات.
في بداية القرن العشرين، بدأ العمل في بعض مناجم الذهب في نفس المواقع التي سبق اكتشافها بواسطة الفراعنة. وبينها مناجم البرامية الواقعة بين مرسى علم وادفو ومناجم الفواخير الواقعة بين سفاجا وقنا. إلا أن ذلك كان يتم على فترات متقطعة. وفي الفترة من 1902 إلى 1927 تم تشغيل 10 مناجم توقفت جميعها في 1928. قبل أن تعود للتشغيل 6 منها عام 1948 ثم توقفت مجددًا بعد 10 أعوام. وعلى مدار تلك الفترة بأكملها تم استخراج نحو 7 أطنان من الذهب الخالص.
في التسعينيات عاد الاهتمام بالمناجم القديمة، إذ تم توقيع اتفاقيتين للبحث واستغلال الذهب. إحداها تمت بين هيئة المساحة الجيولوجية والشركة الفرعونية الأسترالية في مناطق السكري البرامية وأبو مروات 1995. وفي عام 2001 تم إعلان الاكتشاف التجاري من منطقة جبل السكري، وتوقف العمل لوجود مشاكل تعوق الإنتاج. بينما في عام 2005 استأنفت الشركة نشاطها التعديني، وتم إنشاء شركة السكري لمناجم الذهب .
السكري وخريطة الذهب
يعد منجم السكري أحد أكبر 10 مناجم في العالم من حيث الاحتياطي والإنتاج. وقد تجاوز إجمالي المصروفات الرأسمالية بالمنجم حاجز الـ 1.3 مليار دولار حتى الآن.
إلى جانب منجم السكري، يوجد عدد من المناجم الأخرى، أبرزها: منجم حمش، ويقع على بعد 100 كم غرب مدينة مرسى علم بالصحراء الشرقية قرب محمية وادي “الجمال حماطة”، منجم وادي العلاقي، الذي يقع على بعد 250 كيلو مترا جنوب شرق مدينة أسوان، جنوبي مصر.
وعند الكيلو 105 شرق مدينة إدفو، يوجد منجم البرامية، ويعتبر من أغنى مناجم مصر، أما منجم أم عود يقع عند الكيلو 55 جنوب غرب مدينة مرسى علم، ويوجد منجم المثلث الذهبي بمنطقة المثلث الذهبي التي تقع بمحافظة البحر الأحمر بين سفاجا والقصير، ويضم 94 موقعا للذهب.
وفي يوليو الماضي أعلن طارق الملا، وزير البترول والثروة المعدنية تحقيق كشف تجاري للذهب في منطقة (إيقات) بصحراء مصر الشرقية باحتياطي يُقدر بأكثر من مليون أوقية، بحد أدنى بنسبة استخلاص 95 في المئة.
التفتيش في الصحراء.. الطريق لمغارة علي بابا
عدد المواقع المعروفة لاستخراج الذهب في مصر يقارب 120 موقعًا في مختلف أنحاء الجمهورية. وتقع غالبية هذه المواقع بالصحراء الشرقية. حيث يتخذ عدد من سكان القبائل والمناطق القريبة والواقعة بالصحراء الشرقية عمليات التنقيب العشوائي عن الذهب مصدرًا للكسب والثراء السريع. ويُعرف هؤلاء بـ”الدهّابة”.
يبدأ الدهّابة عملهم يوميًا باستقلال سيارات الدفع الرباعي، والانطلاق نحو هدفهم. وذلك سواء في منطقة العلاقي -على بعد نحو 180 كم جنوب أسوان في الطريق المؤدي إلى السودان- أو في صحراء مصر الشرقية على حدود محافظة البحر الأحمر. وهم في مهمتهم تلك يستعينون بأجهزة البحث عن الذهب، بعد أن يسلكوا طرقًا بعيدة عن الملاحقات الأمنية بحثًا عن جرامات المعدن المتناثرة بين حبيبات الرمال الشاسعة.
40 لـ 50 طن سنويًا.. الدهّابة يستنزفون الصحراء
مصادر بهيئة الثروة المعدنية، أكدت لـ “مصر 360″، أن الدهّابة يستخرجون سنويًا ما يتراوح بين 40 – 50 طنًا من الذهب بطرق عشوائية وغير قانونية. وهو ما دفع مسؤولي هيئة الثروة المعدنية للتفكير في إقامة مجمعات صناعية “للدهّابة”، في محاولة لاستيعاب أكبر عدد منهم وضمهم إلى الاقتصاد الرسمي، وفق ما أوضحت المصادر.
المجمعات التي فكرت بها هيئة الثروة المعدنية رُتبت لها عدة مناطق لإقامتها. وكان أبرزها في مرسى علم وأسوان وشلاتين، باعتبارها المناطق الأكثر بحثًا عن الذهب من قبل الدهّابة. على أن يتم تيسير مناخ للعمل وإجراءات لإصدار تراخيص. مع تأهيل العاملين في التنقيب عن الذهب وتدريبهم.
توقف السياحة والتنقيب عن المعدن الأصفر
بعض الدهّابة اتجهوا للعمل في التنقيب العشوائي عن جرامات الذهب منذ سنوات. أحدهم يروي بداية عمله في هذه المهنة، فيقول: “بدأت مهنتي في التنقيب عن الذهب في عام 2012، بعدما توقفت السياحة الداخلية في مصر.. لم أجد مجالاً للعمل سوى تعلم البحث عن الذهب بين الجبال”.
ذهب هذا العامل -الذي طلب عدم كشف هويته- للجبل رفقة أصدقائه “كنا نُجمع ثمن شراء جهاز الكشف عن المعادن ليساعدنا في البحث بمفردنا دون الذهاب في مجموعات للتنقيب”.
جهاز الاستشعار هو الدليل الأساسي في الكشف عن جرامات الذهب المتناثرة. الجهاز يعمل ببطارية، ويوضع على أحد الذراعين مع توصيل سماعة بالجهاز والبطارية، كي يعطي إشارة ويُصدر صوتًا بمجرد اكتشاف أي قطعة ذهبية. “نضطر لحفر نحو 50 سنتيمترًا لمحاولة الوصول إلى المعدن الثمين”؛ يقول العامل.
إنشاء شركة شلاتين
أدت تلك الصناعة في أوقات كثيرة إلى صدامات مسلحة بين المنقبين والجهات الأمنية. ما دفع الدولة إلى محاولة تحجيم حركة هؤلاء المنقبين، لمنع استنزاف ثروات الذهب الأصفر.
لهذا سعت الحكومة المصرية لإنشاء شركة “شلاتين” للبحث والتنقيب عن الذهب، وتقنين أوضاع المنقبين المنتشرين في أسوان. وعلى إثر ذلك جرى تخصيص 91 فدانًا لإنشاء أكبر منطقة صناعية لورش وكسارات الذهب في جنوب مصر.
في نوفمبر 2012، أصدرت الحكومة قرارًا رسميًا بإنشاء شركة شلاتين كشركة مساهمة مصرية بين الهيئة المصرية للثروة المعدنية، وبنك الاستثمار القومي، والشركة المصرية للثروات المعدنية. ذلك برأس مال مرخص به بقيمة 10 ملايين جنيه.
الغرض من تأسيس الشركة جاء لزيادة الاستثمارات والقيام بأعمال البحث والاستغلال للخامات التعدينية في الصحراء الشرقية بمدينة شلاتين والبحر الأحمر. بما في ذلك إعادة استغلال مناجم الذهب القديمة الموجودة بالمنطقة. إلى جانب تقنين أوضاع الاستغلال العشوائي للذهب الموجود بالرواسب الوديانية.
عقوبات مغلظة
محاولات الحكومة المستمرة للقضاء على التنقيب غير الشرعي عن الذهب، دفع الدولة لإصدار قوانين جديدة وإدخال تعديلات تشريعية عليها. مثل تعديلات القانون رقم 68 لسنة 1976 الذي يُحكم الرقابة على المعادن الثمينة والأحجار ذات القيمة، وذلك لتوقيع أقصى عقوبة ممكنة وصلت إلى حد السجن 5 سنوات وغرامة 10 ملايين جنيه.
المادة رقم (42) من القانون رقم 145 لسنة 2019 الخاصة بتعديل بعض أحكام قانون الثروة المعدنية رقم 198 لسنة 2014، تطرقت إلى عقوبة التنقيب العشوائي واستخراج أي خامات من المناجم أو المحاجر دون ترخيص.
ونصت المادة على أن يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وبالغرامة التي لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تزيد على 5 ملايين جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من استخرج خامًا من خامات المناجم أو المحاجر أو المواد المصاحبة أو الأملاح دون ترخيص.
وتكون العقوبة الحبس لمدة لا تقل عن سنتين والغرامة التي لا تقل عن 250 ألف جنيه ولا تزيد على 5 ملايين جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين في حال تكرار الجريمة.
استنزاف مستمر
رغم تشديد العقوبات القانونية ضد المنتهكين لقوانين البحث والتنقيب عن الذهب. إلا أن الدهّابة لا يزالون يمارسون تنقيبهم العشوائي عن الذهب، رغم التسهيلات التي قامت الدولة بعملها من خلال تخصيص شركة شلاتين للثروة المعدنية باستخراج تصاريح عمل للدهّابة وتوريد إنتاجهم من الذهب بمقابل يكاد يكون أعلى من بيعه بطرقه غير الشرعية.
الدكتور جمال القليوبي، الخبير في شؤون الثروة المعدنية والطاقة، يؤكد أن التنقيب العشوائي وغير الشرعي عن الذهب لايزال مستمرًا، وأن هناك حاجة ماسة لإنهائه. لكن يشير إلى أمر أكثر خطورة من هذا التنقيب العشوائي بعملية استخلاص الذهب، التي تتم باستخدام مواد شديدة السمومة. ما قد يؤدي إلى الوفاة للكثير من العاملين بالتنقيب العشوائي، على حد قوله.
ويضيف القليوبي: “طبقًا للقوانين لتحجيم التنقيب العشوائي عن المعادن وليس الذهب فقط، تم إبرام اتفاقيات مع الدهّابة لتوريد الإنتاج غير الشرعي من الذهب مقابل الحصول على جزء من الأموال المتحصلة لتنقية الذهب بطرق علمية”. وفق ذلك يتم التفاعل بالمنفعة المتبادلة عن طريق تسليم الإنتاج من الذهب العشوائي مقابل الحصول على الأموال وتنقية الذهب بطرق علمية عن طريق شركة شلاتين.
هل سيقضي الدهّابة على الذهب؟
يقول رئيس هيئة الثروة المعدنية الأسبق، عمر طعيمة، عن ثروات مصر المعدنية إنها كالكتاب المفتوح، موادها الخام موجودة على السطح وظاهرة، وهي ضخمة، على حد قوله. بينما ينفي عن الدهّابة قدرتهم على القضاء على ثروات مصر من الذهب. ويوضح أن ما يتم التنقيب عنه بشكل غير عشوائي من قبل الدهّابة يكون طبقة رقيقة للغاية، بينما باطن الأرض في مصر لايزال يحتوي ثروات ضخمة.
صادرات الذهب
رغم ما تواجهه صناعة الذهب من تحديات عدة، إلا أن عمليات التنقيب التي تقوم بها شركات البحث العالمية لعبت دورًا محوريًا خلال 2020 في زيادة صادرات الذهب والحلي والأحجار الكريمة. ذلك بنسبة قدرها 76% خلال الـ 9 أشهر الأولى من 2020، بعدما وصلت إلى 2.4 مليار دولار مقابل قابل 1.392 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي، بحسب المجلس التصديري لمواد البناء.
ووفقًا للتقرير الرسمي، فقد تم تصدير خامات الذهب والحلي والأحجار الكريمة لنحو 32 دولة خلال التسعة أشهر الأولى من عام 2020، من بينها 5 دول جديدة هي: كرواتيا، التشيك، النمسا، مدغشقر، كوريا الجنوبية، لم يتم التصدير لها خلال الفترة من “يناير- سبتمبر” من العام الماضي.
مزايدات عالمية
مصادر بوزارة البترول، ترى أن مصر بدأت جني ثمار إصلاحات واسعة أجريت في مجال التعدين. بعد أن أقرت الحكومة المصرية تعديلات على قانون الثروة المعدنية، فتحت آفاقًا أكثر رحابة للاستثمار في مجال الثروة المعدنية.
وقد تطرقت المصادر إلى التعديلات الأخيرة في قانون الثروة المعدنية واللائحة التنفيذية التي أخذت في حسبانها آخر المستجدات في صناعة التعدين على مستوى العالم. وهو ما تم من خلاله تغيير النظم المالية، وأسلوب الطرح. كما تم فصل نشاط البحث عن الذهب عن نشاط الاستغلال.
وتشير المصادر غلى أن تعديلات القانون تمثل دفعة جيدة لمستقبل صناعة التعدين في مصر. وتلفت إلى أن هذه الخطوة جذبت كبرى الشركات العالمية والمصرية بأول مزايدة للتنقيب عن الذهب. إذ تستهدف استراتيجية الوزارة حتى عام 2035 مساهمة الثروة المعدنية بنسبة 5% من الدخل القومي مقارنة بنصف في المائة حاليًا، وفق المصادر.
فبعد سنوات من عزوف الشركات الكبرى عن التنقيب، بسبب نظام اقتسام الإنتاج الذي كان معمولاً به في الماضي، تحول الأمر إلى نظام الضرائب التي تصل إلى 22.5%، والإتاوة التي لا تقل نسبتها عن 5%. إضافة إلى نسبة مشاركة مجانية لا يقل حدها الأدنى عن 15%، وفقًا للتعديلات الجديدة للقانون واللائحة التنفيذية.
وقد فازت 11 شركة بأول مزايدة للتنقيب عن الذهب في مصر بعد التعديلات الأخيرة، منها 7 شركات أجنبية و4 شركات مصرية. في حين قُدرت مساحة المناطق المطروحة بـ 56 ألف كيلومتر مربع. تم تقسيمها إلى 320 قطاعًا في الصحراء الشرقية والبحر الأحمر. على أن تكون مساحة كل قطاع حوالي 170 كم2.
مدينة الذهب
مخطط جديد، يدعم منظومة صناعة الذهب في مصر، كشف عنه مؤخرًا علي المصيلحي، وزير التموين. إذ أعلن عن سعي الدولة لإنشاء مدينة خاصة بصناعة الذهب في منطقة العبور. وأوضح أنها ستتضمن حسب المخطط المعلن إنشاء 400 ورشة فنية لإنتاج الذهب، و150 ورشة أخرى تعليمية، ومدرسة تعليمية كبيرة.
أضاف الوزير أيضًا أن المدينة ستضم معرضًا دائمًا طوال العام مختص بصناعة الذهب. إلى جانب وجود عرض مساحات خاصة لتجار الذهب بمصر، مؤكدًا الانتهاء من الدراسة، التي تضمن تكلفة المشروع ومصادر تمويله. على أن تبدأ الخطوات التنفيذية للمشروع عقب توفير وزارة الإسكان لقطعة الأرض المناسبة.
تقرير- محمود السنهوري